العرب.. وغزّة.. وحميّة الجاهليّة!
أين العرب؟ أين حكّام العرب؟ أين الجيوش العربية؟ أين الدول العربية؟ أليس لديهم نخوة؟ أليس لديهم حميّة؟
هذه الأسئلة الاستنكارية أصبحت لازمة يومية تتكرر على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، سواء على لسان أطفال وشيوخ وحرائر غزّة، أو على لسان المعلّقين على أهوال وفواجع حرب الإبادة والتهجير التي يشنّها الكيان الصهيوني الغاشم على غزّة وعموم الشعب الفلسطيني!
الإجابة على هذه الأسئلة سهلة وبسيطة ومباشرة: نعم، العرب ما زالوا أصحاب حميّة.. ولكنها حميّة الجاهليّة!
البعض يفهمون مصطلح "جاهليّة" فهما حرفيّا باعتباره مكافئا للجهل، أو عدم معرفة القراءة والكتابة، أو ما نقول له "أُميّة". لذا نجد بعض القوميين المتعصّبين يجتهدون في إيراد الشواهد التاريخية التي تدلل على أنّ العرب قبل الإسلام كانوا قوما متعلّمين، وكانوا يعرفون القراءة والكتابة والحساب والتدوين إلى جانب براعتهم في الشعر كـ "فن شفاهي"، وذلك لينفوا عن أجدادهم صفة "الجاهليّة".
وهناك من يفهم الجاهليّة باعتبارها ضد الحضارة والمدنيّة، أو ما يقال له بلغة اليوم "التخلّف" أو "البدائيّة"، ويجتهدون بدورهم في إيراد الأدلة والشواهد التاريخية التي تفنّد ذلك.
وحقيقة الأمر أن مفهوم "الجاهليّة" لا علاقة له لا بهذا الفهم ولا بذاك، على الأقل وفق المنظور القرآني.
فكلمة جاهليّة في القرآن وردتْ في أربعة مواضع:
الموضع الأول في الآية (154) من سورة آل عمران: "يظنّون بالله غير الحق ظنّ الجاهليّة".
والموضع الثاني في الآية (50) من سورة المائدة: "أفحكم الجاهليّة يبغون".
والموضع الثالث في الآية (33) من سورة الأحزاب: "ولا تبرّجنَ تبرّج الجاهليّة الأولى".
والموضع الرابع في الآية (26) من سورة الفتح: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهليّة".
المواضع الأربعة تتكامل فيما بينها لتعطينا إطارا معرفيا شاملا ومتّسقا لمفهوم "الجاهليّة" يتجاوز فكرتي الأُميّة وعدم التمدّن.. ولكن هذا سياق آخر للحديث.
ما يعنينا هنا هو الجاهليّة بالمعنى الذي ورد في سورة الفتح، أي الجاهليّة كمنظومة للانتماء والولاء والبراء تقوم على صلة الدم المباشرة، والقرب المباشر، أي الانتماء القَبَلي، أو ما أسماه ابن خلدون "العصبيّة".. وذلك على حساب الانتماء الواسع إلى أمّة واحدة أو إنسانيّة مشتركة.
فحدود انتماء الجاهليّ و"عصبيّته" كانت تنتهي عن حدود عشيرته أو قبيلته ومضاربهما، ولا تتعدّاها إلى ما وراء ذلك.
بل إنّ التنافس والتفاخر الذي يصل حدّ التناحر قد كان السمة الغالبة داخل القبيلة أو العشيرة الواحدة.
والمرّات القليلة التي توحّد فيها العرب في الجاهليّة ضدّ عدوّ واحد أو في سبيل غاية واحدة هي الاستثناءات التي تؤكّد القاعدة.
مفهوم "حميّة الجاهليّة" هنا يأتي مخالفا أو معارضا أو ضدّا معرفيّا وثقافيّا وشرعيّا وأخلاقيّا لمفهوم الأمّة الواحدة الوارد في الآية (92) من سورة الأنبياء: "إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون".
ما حدث في جاهليتي القرنين العشرين والواحد وعشرين أنّ الانتماء القُطْري قد حلّ على المستوى الكلّي أو (الماكرو) محل الانتماء القَبَلي، والدولة القُطْرية قد حلّت محل القبيلة أو العشيرة.
وعندها أصبح انتماء العربي يتوقّف عند الحدود القُطْرية لدولته، وأصبح مواطنو كلّ دولة مُلزمين، طَوْعا أو كَرْها، بتقييف انتمائهم وولائهم ومواقفهم وسلوكياتهم وأفعالهم على مقاس دولتهم!
وهكذا أصبح العرب شعوبا متفرّقة أو منفصلة: الشعب الأردني، الشعب المصري، الشعب السوري، الشعب العراقي، الشعب الصومالي.. إلخ، بدلا من أن يكونوا أمّة عربية واحدة.
حتى في حالة الفلسطينيين حيث لا دولة معترف بها رسميا، تشعر أنّ تأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية" قد جاء كإجراء استباقي من أجل توفير إطار ما لإدماج الفلسطينيين ضمن حالة الاستقطاب القَبَليّة/ القُطْريّة هذه، لينبثق لدينا أيضا شيء اسمه "الشعب الفلسطيني" بموازاة وبمواجهة وفي مقابل بقية الشعوب العربية.
ما يسري على الأمّة والشعوب العربية هنا يسري أيضا على الأمّة والشعوب الإسلامية مع اختلاف مستوى التحليل.
وعلى أساس هذه "الحميّة الجاهليّة" تمّ ويتمّ إسباغ الضرورة والشرعيّة على "حُكْم الجاهليّة"، والذي يعني في هذا السياق أن تتعامل كلّ دولة قُطْريّة عربية (وإسلامية) مع نفسها باعتبارها كيانا سياسيا مستقلا قائما بحدّ ذاته، له مصالحه الخاصة، وأولويّاته الخاصة، ومنظومة تحالفاته الخاصة.. والتي لا تتقاطع بالضرورة مع مصالح وأولويّات وتحالفات الآخرين.
بل إنّ مصالح الدولة القُطْريّة العربية قد تقتضي في لحظة معينة أن تقف إلى جانب عدو أو غريب أو أجنبي ضد دولة عربية أخرى أو شعب عربي آخر، حتى لو أدّى ذلك إلى تدمير الدولة العربية المستهدفة كما حدث في العراق سابقا، أو إلى إبادة وتهجير الشعب العربي المستهدف كما يحدث لأهالي غزّة وعموم الفلسطينيين الآن!
هل هذا يعني أنّ "الشعوب العربية" لا تتعاطف مع "الشعب الفلسطيني"؟ قطعا لا، هي تتعاطف مع الشعب الفلسطيني، ولكنها تتعاطف معه باعتباره شعبا "آخر" حتى لو ادّعت أو توهّمت عكس ذلك!
وفزعتها لهذا الشعب "الآخر" لن توازي بأيّ حال من الأحوال الفزعة التي قد تفزعها لنفسها ولو في الباطل!
وبالمثل، الدول العربية تقف قطعا إلى جانب القضية الفلسطينية ومصالح الفلسطينيين، ولكن طبيعة هذا الوقوف ومقداره يتحدّدان بمقدار ما يتوافق ويتنافر ذلك مع مصالحها القُطْريّة. وفي حال تعارضت القضية الفلسطينية في لحظة ما مع المصالح القُطّريّة كما تحدّدها الزعامات والنخب الحاكمة (شيوخ القبائل الجدد) فقطعا الأولويّة للمصالح القُطْريّة!
هذه النزعة الجاهليّة المتأصّلة، والتي لا علاقة لها بمستوى التعليم أو مظاهر التحضّر والتمدّن والثروة التي تحوزها كلّ دولة من الدول العربية، ليست مجرد تهويمات نظريّة، بل هي مظاهر عمليّة تتبدّى من خلال مواقف وسلوكيات الدول العربية (والإسلامية) تجاه ما يحدث في غزّة.
فعلى سبيل المثال، من حيث الجوهر و"النموذج الكامن"، بماذا يختلف الحصار المفروض على غزة، والتزام العرب الصارم بهذا الحصار بذريعة المعاهدات والاتفاقيات الموقّعة.. بماذا يختلف عن الحصار الذي فرضه عرب الجاهلية على الرسول وبني هاشم في شِعْب أبي طالب، والصحيفة التي وقّعوها وعلّقوها داخل الكعبة بهذا الخصوص؟!
أو بماذا تختلف قرارات القمّتين العربية والإسلامية، والتي أصبحت بمثابة الحُجّة والذريعة التي تختبئ وراءها كلّ دولة عربية أو إسلامية منفردة.. بماذا تختلف عن فكرة تضيبع دم الرسول بين القبائل التي تفتّق عنها ذهن عرب الجاهلية عندما عقدوا اجتماعهم المشهور في دار الندوة؟!
هل يتعارض جميع الكلام أعلاه مع قوله تعالى في الآية (63) من سورة الأنفال: "وألّف بين قلوبهم لو أنفقتَ ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم إنّه عزيز حكيم"؟
لا، جاهليّة العرب والمسلمين الحديثة لا تتعارض مع هذه الآية الكريمة إلا بمقدار من أنّ هناك أنظمة عربية وإسلامية قائمة، وأعرابا ومستعربين منّا وفينا، وأحزابا وشِيَعا فَرِحِين بما لديهم.. هم على استعداد بعد أكثر من 1400سنة لإنفاق ما في الأرض جميعا من أجل تدمير بقية "الحواضر" العربية والإسلامية، وغرس روح الفُرقة والبغضاء والتناحر في القلوب التي ألّف الله بينها.. حتى لو عنى ذلك ترك أهل غزّة وعموم الفلسطينيين ليواجهوا وحدهم مصيرهم على يد ما يُفترض أنّه عدو "وجوديّ" و"عقائديّ" و"تاريخيّ" مشترك!