كانت ومازالت حرب إبادة وتهجير.. وثلاثة اوراق بقيت للمقاومة والغزيين!
كتب كمال ميرزا -
منذ اللحظة الأولى كان واضحا أنّ الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني على غزّة هي حرب "إبادة" و"تهجير".
ليست حركة انتقامية، وليست عملية أمنيّة، وإنّما حرب إبادة وتهجير.
حتى القضاء على "المقاومة"، بخلاف التصريحات المُعلنة، ليس هدفا لهذه الحرب إلا بمقدار ما أنّ ذلك ضرورة لا بدّ منها من أجل تحقيق الغاية الأساسية وهي الإبادة والتهجير.
وبالمثل، "استعادة الأسرى" هي "ذريعة" أكثر منها "غاية" لحرب الإبادة والتهجير.
بل قد بدا جليّا أنّ الإبادة والتهجير كانا مخططا مُضمرا ومُزمعا حتى ما قبل (7) تشرين أول/ أكتوبر، وأنّ ما فعلته "المقاومة" من خلال "طوفان الأقصى" هو أنّها سلبت العدو المبادرة وحرمته من ميزة وأفضلية توجيه الضربة الأولى.
وبعد مرور شهر من احتدام القتال، كانت الحرب ما تزال بالنسبة للكيان الصهيوني وحلفائه وأعوانه حرب إبادة وتهجير.
وبعد مرور شهرين كانت ما تزال حرب إبادة وتهجير.
وأثناء الهدنة كانت حرب إبادة وتهجير.
والآن، بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر، هي حرب إبادة وتهجير.
وغدا، والأسبوع القادم، والشهر القادم، ما لم يتم الإعلان عن الوقف التام لإطلاق النار وانسحاب القوات الصهيونية من غزّة (كما تشترط المقاومة) ستبقى الحرب حرب إبادة وتهجير.
لذا من المدهش بعد كل ما جرى ذلك "الاستغشام" الذي يبديه البعض عند الحديث عن "الإبادة" و"التهجير"، أو "الاستهبال" و"الاستغفال" الذي يتحدثون به في معرض تحذيرهم ورفضهم المُعلَنَين للإبادة والتهجير!
نعم، مسار الحرب اتخذ منحنيات ومنعطفات تبعا لمجريات الأحداث وحقائق القتال في "الميدان"، ولكن خلال جميع هذه المنحنيات والمنعطفات لم تخرج الحرب قيد أنملة عن كونها حرب إبادة وتهجير.
"الإستراتيجية" التي تبنّاها الكيان الصهيوني لحرب الإبادة والتهجير التي يشنّها هي "الاستنزاف"، والتكنيك الذي اتبعه هو "الحصار الخانق" و"الأرض المحروقة" و"الترويع" و"التنكيل".
في البداية، كان الكيان الصهيوني يراهن على استنزاف المقاومة ومواردها وقدراتها سريعا دون الاضطرار للتورّط البري والتوغّل عميقا، وترويع الأهالي من خلال القصف الوحشي والهمجي بحيث يهرعون للفرار والنزوح والاحتشاد على الحدود وطلب اللجوء والتماس النجاة.
ولمّا خاب رهان الكيان الصهيوني بسبب جاهزية المقاومة واستعدادها لحرب طويلة، وصمود الأهالي ورفضهم مغادرة بيوتهم وأحيائهم ومناطق سكناهم.. وجد الكيان الصهيوني نفسه مضطرا لقلب المعادلة، ومحاولة ترويع المقاومة من خلال الزج بقواته وآلياته (التي لا تقهر) عميقا ظنّا منه أن ذلك سيرعب المقاومة ويدفعها للتقهقر والنكوص، ومحاولة استنزاف الأهالي من خلال التدمير الممنهج لكافة المرافق والبُنى التحتية اللازمة لهم من أجل الاستمرار بالعيش.
ولمّا لم تنجح هذه المُقاربة أيضا في ضوء بطولات المقاومة والصمود الأسطوري لأهالي غزّة، لجأ الكيان إلى صبّ جام غضبه على ما افترضَ أنّه "الحلقة الأضعف"، أي الأهالي، محاولا استنزافهم وترويعهم في آن واحد، وذلك أملا بإمساك المقاومة من "الإيد إلي بتوجعها" عبر استهداف الأطفال والنساء والشيوخ والعزّل. وإحداث شرخ بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، وتحميل المقاومة مسؤولية استمرار المجازر والقتل والتنكيل والمعاناة والجوع والعطش والبرد.
وعبر جميع هذه المراحل، كان موقف جميع حلفاء وأصدقاء "إسرائيل"، بما في ذلك الدول العربية والإسلامية التي احتفظت بعلاقاتها القائمة مع الكيان، أو تلك التي تأمل بإقامة علاقات مستقبلية مع الكيان.. مؤيدا صراحة أو ضمنا لثيمة "الاستنزاف" و"الترويع".
وكلّ الحراك السياسي والدبلوماسي الذي شهدناه طوال هذه الفترة بلقاءاته واجتماعاته وقممه وجلساته وقراراته وبياناته و"بعبعاته" و"جعجعاته"، والجهود الإغاثية المسرحية والبهلوانية، سواء على مستوى كل دولة منفردة، أو على المستوى الإقليمي، أو المستوى الدولي والأممي.. كلّ ذلك لم يخرج عن إطار سياسة "الإلهاء" و"تشتيت التركيز" و"شراء الوقت" بدماء أهالي غزّة، بانتظار أن يُؤتي الاستنزاف والترويع أُكُلهما، وفرض التهجير كـ "أمر واقع" بعد أن يتم القضاء على كافة مقومات وسبل الحياة، وبحيث لا يعود قطاع غزّة مكانا صالحا للعيش حتى لو أراد أهالي غزّة البقاء والصمود في أرضهم ووطنهم!
وعندها، يصبح ما كان "خطّا أحمر" بالأمس، أي التهجير، هو "خط أخضر" اليوم.. وما كان "إعلان حرب" بالأمس هو "مبادرة سلام" اليوم.. وما كان "مؤامرة" بالأمس هو مطلب شعبي وإنساني اليوم.. وما كان تصفية للقضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين بالأمس هو قمة المساعدة والغوث والنُصرة للفلسطينيين اليوم!
طبعا الكلمة الفصل في كلّ ما تقدّم تبقى كما كانت دائما للميدان، وللمقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية الذين كفّوا ووفّوا منذ اليوم الأول.
وبمقدار ما أنّ هذا الكلام قد يستثير الإحباط واليأس عند الكثيرين، إلا أنّ مسار الأحداث عبر الأشهر الثلاثة الماضية، إذا نظرنا إليه بمعزل عن حزننا المُرهِق وفجيعتنا المُضنية بكل القتل والدمار والمعاناة الحاصلة، سنجده يشير إلى ارتباك العدو وتخبّطه، وتخلخل جبهته الداخلية، واستشراء الخلافات بين رموزه وقياداته، وتعويله أكثر وأكثر على إطالة أمد الحرب وتوسيع نطاقها كمؤشر صارخ على فشله في حسمها.
وفي هذا الأثناء يبقى لدى المقاومة وأهالي غزة ثلاثة أوراق للرهان عليها من أجل دعم موقفهم بالاستمرار والصمود:
- صدق ما يسمّى "محور الممانعة"، والتزامه بـ "وحدة الساحات"، واستعداده لقطع الشوط كاملا في سبيل دعم صمود المقاومة الفلسطينية وأهالي غزّة، وللآن لم يصدر عن محور الممانعة ما يشي بخلاف ذلك.
- وجود "دولة عميقة" في الدول العربية المعنيّة ما زالت تدرك أنّ الكيان الصهيوني هو "خطر وجوديّ" على كيانها وبقائها واستمرارها واستقرارها ومصالحها.. وذلك بما يتجاوز الخيارات الآنية للنخب الحاكمة في هذه الدول وحساباتها الضيقة.
- التزام الشارع العربي والإسلامي والعالمي بالمقاطعة، وإبداء التضامن، والتعبير عن الرفض والاحتجاج، والاحتفاظ بحدّ أدنى من الزخم والكتلة الحرجة التي تدعم صمود المقاومة وأهالي غزّة، وتصعّب على السلطات وأصحاب القرار والمصالح الخاصة التنصّل من مسؤولياتهم، أو اتخاذ مواقف منحازة جهارا نهارا لصالح الكيان الصهيوني ومخططاته.. ويمكن اعتبار الإضراب العام الذي تدعو إليه القوى العالمية يومي الخميس والجمعة القادمين بالتزامن مع انعقاد جلسات محكمة العدل الدولية خطوة مهمة بهذا الاتجاه.