عاجل هذا اكبر خطأ يمكن اقترافه في زمن الحروب!


كتب: كمال ميرزا

يقول مطلع شارة النهاية للجزء الأول من مسلسل "حمام القيشاني" السوري الشهير:

"الأصل إنّك ما تقول بعمرك آاااه.. إن كان عدوّك بسمعك"!

هذا المقطع على بساطته يُلخّص جوهر الدعاية الحربية والحرب النفسية!

أكبر خطأ يمكن أن تقترفه في زمن الحرب هو بث أي رسائل وصوّر تُظهرك بمظهر الضعيف أو المهزوم أو مجرد المهزوز؛ ويجب دائما أن تظهر بمظهر القوي والواثق حتى لو كان الواقع على الأرض خلاف ذلك.

الكيان الصهيوني يلتزم حرفيا بهذا المبدأ منذ اليوم الأول لـ "طوفان الأقصى"، وحرب الإبادة والتهجير التي شنّها تاليا على أهالي غزّة وعموم الشعب الفلسطيني.

هل رأيتَ إعلام العدو يبث أو يسمح ببث صور لمظاهر الدمار التي يتعرّض لها جرّاء قصف المقاومة جنوبا وشمالا؟

هل رأيتَ إعلام العدو يسمح بنشر صور جثث وأشلاء ودماء قتلاه وجرحاه؟

حتى عندما يسمح العدو بنشر اسم قتيل جديد، فهو لا ينشر صورته مُصابا أو كجثة، بل ينشر صور أرشيفية له تُظهره بمظهر القوي أو السعيد (كصورته مع صديقته أو زوجته وأطفاله أو رفاق سلاحه) وذلك لضرب عصفورين بحجر واحد: الحفاظ على مظهر القوة ورباطة الجأش لجنود الكيان وجيشه، ولتكريس فكرة إنسانية هذه الجندي، وبالتالي فداحة الجريمة التي اقترفها قاتلوه!

وبالمثل، عندما يبث الكيان صور جنوده الذين تعرضوا لإعاقات جسدية وبتر أطراف، يعرضهم ضاحكين فرحين واثقين محاطين بالحفاوة والتقدير بعد أن حصلوا على أقصى علاج ورعاية وحلول بديلة ممكنة.

هل رأيتَ إعلام العدو يسمح بنشر صور الخوف والهلع والارتباك والفوضى وشلّ الحياة العامّة التي تعتري جبهته الداخلية؟

كلّنا سمعنا عن وجود خيم للنازحين الصهاينة من "مستوطنات" الجنوب والشمال منذ الشهر الأول للقتال، هل سبق وأن رأيتَ صورة واحدة لخيمة واحدة من هذه الخيام، أو تقريرا لصحفي أو مراسل أو ناشط أو حتى نازح من هؤلاء النازحين يتجوّل بين الخيام ويتحدّث عن معاناة الأهالي والمصاعب التي يواجهونها وانهيار روحهم المعنوية؟

الكيان الصهيوني متورّط و"ملتعن سنسفيله" عملياتيا وعسكريا على أرض الواقع، ولكنّه يصرّ في حربه الإعلامية على أن يتحدّث بنَفَس القوي والواثق والمُسيطر والمُمسك بزمام الأمور، ويناقش بكل وقاحة تفاصيل ما بعد الحرب وكأنّ "النصر" مسألة محسومة و"تحصيل حاصل"، ويهدد بكل عنجعية بتوسيع رقعة الحرب وضرب الجميع، ويمنع بثّ أي رسائل إعلامية تتعارض مع صورة "القوة" التي يصرّ على تكريسها ولو كذبا!

في المقابل فإنّ وسائل الإعلام العربية بصحفييها وإعلامييها ومؤثريها ومستخدمي السوشال ميديا تشنّ منذ اليوم الأول حربا شرسة على المواطن العربي من خلال التسابق على بث صور القتل والدمار والجثث والأشلاء والدماء والجرحى والمصابين ومظاهر المعاناة من جوع وبرد وتشرّد وتزاحم وتدافع وبكاء وعويل.. وكلّ ما من شأنه تحطيم الروح المعنوية للمتلقّي، وغرس إحساس بالضعف والهزيمة والاستسلام واليأس والقنوط داخله، وتكريس قناعة كامنة لديه بالعجز واستحالة النصر وعبثية المقاومة، وجعل "المعاناة الإنسانية" عنوانا لما يجري وليس الصمود وإرادة النصر والتحرير!

ولولا الجهود الجبّارة التي يبذلها الإعلام العسكري للمقاومة من أجل موازنة وتعويض هذا الإخفاق الفادح للإعلام العربي.. لانهارت الروح المعنوية للجماهير العربية منذ وقت طويل!

إذا كان هدف الإعلام العربي هو توثيق جرائم الاحتلال، فإنّ توثيقها من أجل استخدامها في الموضع الصحيح بالتوقيت الصحيح والطريقة الصحيحة هو شيء.. وبثّها جزافا وكيفما اتفق هو شيء آخر يُفقدها قيمتها حتى كوثيقة.

وإذا كان الهدف هو استنهاض الجماهير العربية، فإنّ ما يستثير الناس ويستنهضهم ويفجّر إرادة المقاومة والتغيير داخلهم هو صور البطولة والشجاعة والصمود والفداء، وليس صور الموت والدمار والمعاناة والألم!

وأحيانا يصبح تتبّع وتسقّط مثل هذه الصور نوعا من الإدمان، وتصبح البكائيات واللطميات المصاحبة لها ضربا من "التطهّر الدرامي" الذي يفرّغ مشاعر الغضب والاحتقان والتناقض التي تعتمل داخل الفرد، وتجعله بخلاف المتوقع قابلا لاستقبال وتقبّل المزيد من هذه الصور والتعايش معها!

هذا الدفق الهائل من الصور المُحطِّمة للمعنويات يأتي مصحوبا بدعوات ومناشدات تطالب الناس بإلحاح بأن "لا يألفوا المنظر" و"لا يعتادوا المنظر" بطريقة تزيد الطين بلّة.

علميّا، النتيجة "الطبيعية" للتعرّض الدائم لمثل هذه الصور/ المستثيرات هو أن يألف المرء المنظر، وأن يعتاد المنظر!

ومحاولتك إنكار ذلك، أو جلدك لذاتك، أو تشكيكك في إخلاصك وصدق نواياك ويقظة ضميرك، كل ذلك سيؤدي طال الوقت أو قَصُر إلى نتائج عكسية، إما باستسلامك لحالة اليأس والقنوط، أو محاولتك تجاهل ما يجري وتناسيه، أو أن تعاف المسألة برّمتها وتتمنّى في قرارة نفسك أن تغمض عينيك وتفتحهما فتجد كلّ شيء قد انتهى مهما كانت النتيجة!

ما هو الحل؟

في مثل هذه المواقف تبرز أهمية "الوعي"؛ فالمقاومة هي حالة ذهنية وطريقة للرؤية ومنطق في التفكير قبل أن تكون فيضا من مشاعر وانفعالات معيّنة.

بل إنّ التعويل على المشاعر والانفعالات هو عموما منهج غير علميّ ولا عمليّ، ورهان خاسر بغض النظر عن الموضوع أو القضية، بكون المشاعر والانفعالات تتأجج بسرعة، وتخبو بسرعة، وتتعوّد بسرعة، وتتبلّد بسرعة، ويتم "تطبيعها" بسرعة.. خاصة عندما تكون "الصورة" هي الشكل الرئيسي لـ "المستثيرات" المستخدمة والمتداولة.

ولعل هذا من أهم الدروس التي يمكن أن نستلهمها من المقاومة نفسها؛ فلو أنّ المقاومة كانت تعتمد على المشاعر والانفعالات، ولو كانت تعتمد على الشحن والتهييج العاطفي، ولو لم تمتلك درجة الوعي اللازمة للتفكير باتزان وبنَفَس طويل وبرأس باردة.. لما استطاعتْ أن تصل إلى ما وصلتْ إليه وتحقيق كلّ الإنجازات التي حققتها لغاية الآن.

كلمة "الوعي" هنا تكافئ "العقيدة" وتكافئ "العقل" أو "التعقّل" (اعقل وتوكّل)؛ بمعنى أن لا تترك مشاعرك وانفعالاتك هي التي تُملي عليك أفعالك وما أنتَ على استعداد للقيام به أو الإحجام عنه، بل اجعل عقلك وإرادتك هما اللذان يُمليان عليك في كلّ موقف أفعالك وتصرفاتك في ضوء ما تؤمن أنّه "صواب" أو "خطأ"، وبغض النظر عن حالتك الانفعالية عند تلك اللحظة.

بكلمات أخرى، سواء استثارك المنظر أم لم يستثرك أو شعرتَ تجاهه بحياد أو برود، الحل هو أن تذكّر نفسك، وأن تعيد تذكير نفسك، وأن تجبر نفسك على التذكّر إن هي حاولتْ التجاهل أو التملّص بأنّ ما تراه جريمة، وأنّ ما تراه وحشي وهمجي وشيطاني، وأنّ ما تراه يستدعي في كلّ مرّة الرفض والمقاومة والقصاص كما لو أنّه يُقترف لأول مرّة!

"المقاومة" و"التحرر الوطني" هما معركة وعي وليسا معركة عواطف، لذا بدلا من النظر إلى تلبّد المشاعر والانفعالات كمظهر لضعف الإرادة والعقيدة واليقين (وهو ليس كذلك)، انظر إليه كـ "فرصة" لتحييد العامل العاطفي، وجعل كامل تفكيرك وتركيزك ينصبّان على حالة الوعي التي تؤمن بها، والأفعال الإرادية التي تمليها عليك، كالاستمرار بالتظاهر والاعتصام والتعبير عن الرفض، أو المقاطعة، أو أي سلوكيات أخرى يتفتق عنها وعيك وتقع تحت نطاق إرادتك الحرّة وسلطتك المباشرة.

طبعا نحن أولا وأخيرا بشر من لحم ودم، وليس المطلوب أو المتوقّع أو السويّ أن نتحول إلى حجارة أو عقل محض خالٍ من العواطف والمشاعر والأحاسيس، ولكن الجَلَد والإصرار والتحمّل والعناد والمثابرة التي تبديها على الملأ وفي مواجهة الشأن العام، تستطيع أن تعوّض عنها بَوْحَاً وشجناً ودموعاً في خلواتك أو صلواتك أو إلقائك برأسك المُثقلة على رأس أو صدر أو حِجْر مَن تحب.

التجمّع والتكاتف والتآلف وتجنّب الوِحدة والعزلة هي عوامل حاسمة أيضا في الحرب النفسية، وهذا من المعاني التي يمكن استلهامها من الحديث المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "..فإنّما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

لا تدعوا ذئب الحرب النفسية يأكلكم!