د. الحسبان يكتب: كيف تغيرت الجامعة من أعلى ومن أسفل لتشيخ قبل الأوان؟؟



كتب د. عبدالحكيم الحسبان - 

وفي اليوم الاخير من هذا الشهر كانون الثاني تلقى العاملون في جامعة اليرموك إشعارات الرواتب التي ستحدد قيمة راتبهم وما يتلقونه من مال نهاية كل شهر على مدى العام المالي كله. وكما في كل الاعوام الاخيرة، وصلت إشعارات الرواتب للعاملين في الجامعة وسط أجواء من الحزن والترقب والتوتر مغلقة باحساس كبير من الخذلان وهم يتبلغون بإن رواتبهم هذا العام ستكون أقل من العام السابق، تلك باتت أشبه بطقوس حزينة اعتاد عليها اليرموكيون، وصارت أشبه بايقاع دائري لنمط حياتهم وطرائق عيشهم؛ فشهر كانون بات يتكرر عليهم كل عام حاملا البرد والصقيع ممزوجا بأخبار حزينة حول تخفيض رواتبهم التي باتت تتناقص كل عام في حين تتزايد أقساط البنوك والقروض التي يتوجب عليها سدادها نهاية كل شهر.

وفي حين يمثل تخفيض الرواتب الفصل أو الحلقة الاخيرة من الطقوس السنوية التي يعيش عليها اليرموكيون، فان الحلقة الاخيرة الحزينة على مدى أشهر العام الكثير من قصص النجاح في الجامعة، كما يقرأوا الكثير الكثير من قصص توقيع مذكرات التفاهم، كما يشاهدوا الكثير من الصور الملونة عن أنشطة وأحداث يفترض أن تثير التفاؤل والفخر في نفوسهم، بل إن اليرموكيين يقرأون ومنذ ما يصل إلى السبع سنوات الكثير من ألاخبار عن تحقيق الجامعة مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية، ومن جبال شهادات الحصول على الاعتمادية في بعض برامجها الاكاديمية وحيث يقول المنطق أن الاخبار الجيدة حول تصنيفات الجامعة تنعكس ايجابا على سمعة الجامعة ما ينعكس مباشرة على إيراداتها من رسوم الطلبة الذين ستزداد أعدادهم عند تحسن تصنيف الجامعة. والحال، فانه وبرغم كل الاخبار والصور السعيدة على مدى أشهر العام يأتي شهر كانون بالحصاد، وهو حصاد مر وحزين وثقيل؛ فإشعار الرواتب في الشهر الاول من العام المالي يأتي ليوقظ الجميع من حلم الصور الجميلة، وتوقيع مذكرات التفاهم الكثيرة، واخبار التصنيفات العديدة على مدى أشهر العام.

وأما تخفيض الرواتب، فهو ليس التخفيض الوحيد الذي يعيشه مجتمع العاملين في الجامعة. فمنذ السبعة أعوام تقريبا يتحرك مقص الاقتطاع يمنة ويسرة، وشرقا وغربا وهو لم يشعر بالتعب قط من كثرة الاقتطاعات التي طالت موازنات تنظيم المؤتمرات والانشطة العلمية، كما طالت مخصصات مشاركة أعضاء هيئة التدريس في المؤتمرات الدولية، كما طالت مخصصات التدريب العملي، وطالت أيضا رواتب الاكاديميين ممن يمضون سنة التفرغ العلمي الخاصة بهم. وبرغم الحركة الدؤوبة لمقص الاقتطاع، فان الازمة المالية في الجامعة تتعمق كل عام، بل إنها تتعمق مع كل اقتطاع تقوم بها إدارة الجامعة، ما يعني أن المشكلة ليست في خانة الانفاق، ولا في البنود التي يتم الانفاق عليها، بل إن الازمة هي في العقل الذي بات لا يرى في الجامعة إلا بنودا للانفاق يمكن بسهولة الاستغناء عنها.

من البدهي القول أن كل اقتطاع في المخصصات يعني أن خدمة تقدمها الجامعة للعملية التدريسية، قد تم شطبها، أو أن مهارة علمية أو عملية عند الاستاذ او الطالب أو الاداري قد تم التضحية بها، أو إن دورا وطنيا أو على صعيد المجتمع المحلي تقوم به الجامعة قد تم الاستغناء عنه أو تم الاضرار به. فمنذ سنوات باتت الأدارات المتعاقبة تتخلى عن كثير من المهام والواجبات التي إذا انتفت لم تعد الجامعة حينها جامعة. نفهم أن يقوم العقل الاداري بتخفيض النفقات التي تسمى اصلا بترشيد النفقات، ولكن العقل الاداري يعمل طوال الوقت على بندي النفقات والايرادات، فصحيح أن مقص الاقتطاعات ينبغي أن يكون نشطا، ولكن في مقابله يجب أن صندوق الايرادات يعمل باقصى كفاءة نتيجة القدرات الادارية والمالية والعلمية الخلاقة لرئاسة الجامعة والفريق الاداري التي اختارته. فالانفاق الكبير لا يعني مطلقا شرا مستطيرا، ولا يعني دائما منكرا كبيرا، بل هو دليل صحة، بنفس القدر الذي لا يمثل فيه ضغط النفقات دليل نجاح وعافية، والدليل أن الشخص الاقل انفاقا والذي يكون الانفاق عليه صفرا هو الشخص المتوفي في قبره، وحصل على لقب المرحوم.

ولأن أزمة الجامعة لا يمكن مقارنتها بالازمات التي قد تضرب أي اماكن اخرى في المجتمع بالنظر لطبيعة البناء المؤسساتي الذي تشغله الجامعة وسط المؤسسات المختلقة التي يبنى عليها المجتمع الحديث، وبالنظر إلى مستوى تكثف وتكدس افضل الخبرات البشرية والعلمية داخل المجتمع في الكيلومترات القليلة التي يشتمل عليها الحرم الجامعي، وبالنظر إلى أن المدرسة والجامعة باتتا القناتين التي يجب أن يمر من خلالهما أي فرد بالمجتمع ليتحول من مجرد كائن او مخلوق بيولوجي إلى كائن اجتماعي وسياسي واخلاقي وقيمي، اجدني استحضر مرة أخرى تلك الخلاصة التي يصل اليها واحد من أهم علماء الاجتماع الفرنسيين حين يلاحظ أنه وفي الدولة الحديثة وعلى عكس الدول والممالك القديمة التي كان ينتجها السيف ونبالة الفرسان وخيولهم، فإن الدولة الحديثة لا تنتجها قوة الفرسان، ونبالة سيوفهم، بل تنتجها نبالة الثوب الجامعي. فالدولة الحديثة ينتجها ببساطة معلم المدرسة والاستاذ الجامعي. فالطبيب والممرض ومهندس الطرق والمزارع تتحدد مستوى انتاجيتهم بالقدر الذي تبدع الجامعة واساتذتها في زرع المهارات المعرفية والعملية والقيمية والاخلاقية في كل واحد منهم.

وبالعودة إلى أزمة الجامعة واستطرادا الجامعات، فإن التحليل العميق يقول إن ازمة الجامعة هي بالجوهر أزمة مجتمع ودولة وموقع أمة بالنظر لما مثلته الجامعة وما زالت تمثله على صعيد بناء المجتمعات والامم المعاصرة والحديثة. ففي عصر ما بعد القرون الوسطى لم تعول الامم على أداة وعلى ذراع يمكنه أن يخلق التنمية والنهضة والصعود الوطني كما عولت على الجامعة. فلا أداة يمكنها أن تحدث التغيير الشامل، وأن تستبدل مجتمع تقليديا بآخر حداثي، وأن تستبدل رأسمال بشري اقتصادي تقليدي بآخر حداثي وعصري أكثر من الجامعة. واما الأزمة التي تعصف باليرموك فلا يمكن عزلها مطلقا عن أزمة عامة باتت تضرب البلاد مجتمعا ودولة منذ عقود.فمنذ سنوات وانا اكتب كثيرا عن الجامعات وعن التعليم العالي، وبالقدر الذي كنا نكتب فيه عن أزمة الجامعة ، وكنا ننبه لمواطن الخلل كانت الازمة تتعمق أكثر وأكثر، وكان الاصرار على الاستمرار والايغال في النهج يتجذر. والنتيجة أنه عاما بعد عام، فقدت الجامعة الكثير من أدوارها ومن الوظائف التي كانت تقوم بها، تماما كما يحدث مع البشر حينما يتمكن المرض والاهمال وسوء العناية بالصحة من اعضاء الجسم عضوا عضوا وصولا للحظة الموت والاحتضار.

لقد سبق وأن تم التطرق إلى ضرورة تعريف الجامعة أو بالاحرى إعادة تعريف الجامعة في ضوء التحولات التي طرأت داخل الجامعات نفسها، وفي ضوء اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الاردن، كما في ضوء التحولات العالمية على صعيد دور الجامعة والمدرسة في الدولة والمجتمع. ولم يكن التطرق إلى هذه المسألة من باب الانشاء وتكوين الصور الشعرية أو اللغوية، بل كان من باب التشخيص العلمي المستمر والدقيق. وبعد أن تم رصد جملة من التحولات التي طرأت داخل الجامعات في الاردن، ومن تلك التي طرأت على العلاقة بين الجامعة والمجتمع والدولة والسياسة في هذه البلاد. ففي اقل من نصف قرن حدث تحول كبير في معنى الجامعة وفي تعريفها داخل المجتمع وداخل الدولة وصناعة القرار فيه، كما حدث تحول في فهم النخب الجامعية لمعنى الجامعة وتعريفها، كما في تعريفهم لمعنى العمل الاكاديمي وعلاقته بالعمل العام، بل إن تعريف الاكاديمي الناجح قد تغير كثيرا داخل البيئات الجامعية.

في أزمة تعريف الجامعة والتي انعكست موتا واحتضارا على الجامعات، لا بد من التوقف عند معنى أن تنفق السياسة في البلاد على الامن ارقاما مليارية وفق معهد ستوكهولم، في حين لا يتعدى الانفاق الحكومي على الجامعات كلها السبعين مليونا من الدنانير. ثمة عقل سياسي يرى أن صناعة الامن لا يكون من خلال الجامعة والمدرسة، وهي من واجب رجل الامن فقط في حين يقول المنطق أن صناعة الامن هي جهد مؤسساتي متكامل ترى في المصنع والمستشفى والمزرعة والمسجد والكنيسة. وفي أزمة تعريف الجامعة، من المهم التوقف عند الكيفية التي تحولت بها جامعات اليوم إلى هياكل بيروقراطية فقام البعض ونجح باخضاعها لسلطة ديوان المحاسبة الحكومي، وقام باخضاعها لنظام الخدمة المدنية في الاردن، وهو غير مدرك أن الفضاء الجامعي هو فضاء مختلف في الجوهر والبناء والهدف عن كافة البنى والهياكل البيروقراطية في الدولة. وفي أزمة الجامعة بات من المهم التفكير في علاقة الجامعة بالسياسي والامني والاجتماعي والثقافي، بعد أن اختلطت الامور وباتت الجامعات تبتعد كثيرا عن تعريفها كفضاءات علمية ومعرفية وأخلاقية حداثية.

في مرحلة التأسيس وحتى وقت قريب كان الكثثيرون يمتلكون القناعة أن العمل الاكاديمي واتميز العلمي تدريسا وبحثا ونشرا هو ما يجلب امكانية الصعود المهني داخل الجامعة وداخل جهاز الدولة البيروقراطي، ما يعني أنه ولكي تصعد مهنيا واجتماعيا عليك بالنشر والبحث والقراءة والتدريس، وأما في جامعة اليوم فقد تم اختفت هذه القناعة وعلى نطاق واسع وبات الشعور بأن الصعود المهني لا يتحقق من خلال التميز بالتدريس والبحث والنشر بل باتت القناعة أن الرافعة التي تمكن من الصعود هي في مكان ما خارج الجامعة ولا علاقة لها بالاداء داخل الجامعة، فمراكز النفوذ الاجتماعية والسياسية خارج الجامعة باتت وفق قناعة الغالبية العظمى من اساتذة الجامعات هي الشرط الضروري والحاسم في الصعود المهني.

وفي مرحلة التأسيس كانت المحاضرة والصف الدراسي والمؤتمر العلمي والمشروع البحثي هي نقطة الانطلاق الطبيعية في الحياة الاكاديمية للاستاذ الجامعي، واما بعد تحول الحال والاحوال، فقد بتنا نشهد جيلا أو جزءا غالبا من جيل بالكاد دخل قاعات التدريس، وبالكاد دخل المكتبة وقرأ الكتب، ولكنه ومنذ لحظة عودته من الابتعاث ملتحقا بجامعته، تراه يتنقل من مكتب لمكتب داخل مبنى رئاسة الجامعة، وتراه مطاردا شخص الرئيس في اي مناسبة يذهب اليها، وحيث صار النجاح الاكاديمي هو بححم الكرسي الذي تتحصل عليه داخل البناء الهرمي الاداري في الجامعة.

وفي مرحلة التأسيس ثمة نماذج لقيادات جامعية، صدرت الارادات الملكية بتسميتهم رؤساء لجامعات لم تتوافر فيها المباني والبنية التحتية بعد، فكان على بعضهم أن ينجب وأن يلد جامعة لم تتكون بعد، فبعض رؤساء الجامعات عرف عنهم أنهم كانوا يسهرون في الحرم الجامعي حتى التاسعة ليلا في انتظار صهاريج المياه القادمة ليلا كي يشرف على سقاية الاشجار في جامعته التي اقيمت في بيئة صحراوية جافة. وأحد رؤساء الجامعات وبمجرد أن صدر قرار تعيينه رئيسا لجامعة طرفية، قرر أن يترك العيش في مدينة عمان التي كانت تتوافر فيها بعض عناصر حياة الرفاهية على النسق الغربي، وحيث يحمل هو احد الجنسيات الغربية، ليعيش وسط المجتمع المحلي الذي بنيت فيه جامعته برغم افتقادها لكثير من عناصر الرفاهية في عمان، وكانت فلسفته أن رئيس الجامعة في الاردن لا يشبه رئيس الجامعة في الغرب، وأن عليه أن يعمل مع محافظ المدينة ورئيس بلديتها ونخبها المختلفة كي يتمكن من بناء الجامعة وتعزيز مكانتها. وفي مرحلة الازمة، لم تعد عينا رئيس الجامعة على ما تنتظره الجامعة من انجازات على يديه، ومن اضافات سيراكمها، بل باتت عينا الرئيس على القدر الذي يمكن لهذه الجامعة أو تلك أن تحققه من شعور بالرضى عن شخصه وعن مكانته وبريستيجه الشخصي، وبات موقع رئاسة الجامعة بمثابة سلم مرحلي يجب أن يمكن للصعود إلى درجة أكثر ارتفاعا في السلم.

هناك الكثير مما يمكن قوله أيضا عن سياسات القبول الجامعي التي تغيرت ما بين مرحلتي التأسيس والمرحلة الحالية التي نعيشها، وربما ندع نقاش ذلك إلى مقالة قادمة.

في مجتمعات الغرب بلغ عمر بعض الجامعات ما يقرب من الثمانية قرون. وأما المفارقة، فهي تكمن في أن الجامعات التي بلغت هذا القدر من العمر هي الاكثر قوة، وحضورا، واندفاعا، أي أنها الاكثر شبابا، فالجامعات الحقيقية هي تلك التي بالقدر التي تزداد فيها سنوات عمرها، تزداد معها خبراتها المتراكمة، وتزداد فيها عناصر العافية والصحة. وأما ما يثير الحزن أنه وفي أقل من خمسين عاما فقدت الكثير من جامعاتنا كثيرا من عناصر القوة والاندفاعة، وتحولت في معظمها إلى هياكل هرمة لا تقوى على أداء كثير من الوظائف والادوار المناطة بها، والتي كانت تقوم بها حتى وقت قريب.