عاجل - 7 أكتوبر تكشف واقع “الحريات الأكاديمية” و”الأخلاق” في الجامعات الأميركية!
كتبت ميرنا السرحان -
مقدمة
تستمر آثار حرب 7 أكتوبر عالميًّا وتمتد في أبعادها لترتطم بأعقد الإشكاليات التي يتم دفنها حال بزوغها اللحظي، لتُشكل بوابة لطرح العديد من التساؤلات وتمحيص بعض الفرضيات التي تم إهمالها في أحداث أخف وطأة من هذه الحرب لتعود وتظهر على طاولة النقاش. ولعلّ الحالة الأمريكية (جامعيًّا) تُمثل واحدة من الأمثلة التي يمكن أن نبني عليها الترابط والجدل الفكري، المؤسسي والمادي التي بدأت شرارته منذ 7 أكتوبر ولغاية هذه اللحظة. فهل خطابات الكراهية والاعتداءات بأشكالها النفسية والجسدية والمطالبات بفصل الهيئات التدريسية وتحويل الطلبة للاستجواب تُعتبر في حيز المعتاد لحرب معقدة كهذه؟ وهل ستقوم جامعات النخب الأمريكية بحسم جدل (الحياد المؤسسي) والإبقاء على الجامعة كبيئة للفكر الحر النقدي والسقوف غير المحدودة كاستراتيجية عمل لما بعد الحرب؟ أم المال الأكاديمي والتحيزات السياسية هي واقع لا مفر منه في الولايات المتحدة؟
مشـاهد من الكليات الأمـريكية
تعد الولايات المتحدة بكافة معاهدها وجامعاتها الأكاديمية والمهنية واحدة من كبريات حواضن الطلبة ذوي المنابت والخلفيات المتنوعة والتي تشهد رغبة وإقبالًا واسعين من جميع الطلاب في أنحاء العالم للانخراط في مميزات التعلم فيها، وهذه الحقائق المرنة ارتطمت بقوة مع بعضها خلال حرب أكتوبر، لنشهد صفوفًا من الطلبة المطالبين بإدانة حماس ورفع شعارات الحقوق اليهودية من جهة؛ ومن جهة أخرى هنالك الطلبة المطالِبين بإدانة إسرائيل لقيامها بإبادة جماعية بحق أهالي غزة والفلسطينيين بوجه عام.
يعتبر وصف المشهد بهذه الصيغة المبسطة طبيعيًّا جدًّا مقارنة بأي اختلاف وجدل فكري يشهد انقساما في الآراء والتصورات والتحيزات بأشكالها كافة، لكن تصاعد وتيرة الاحتدام بين الطلبة التي تزايدت يومًا تلو الآخر وبلغت ذروتها المتكررة حد المشاجرات بين الطلبة داخل الحرم الجامعي والتعرض لإصابات طفيفة واعتقالات واسعة، وفتحُ الشرطة ملفات تحقيق للطلبة، وتعرّض الطلاب العرب واليهود لتهديدات خطية والكترونية، بالإضافة لإدراج الطلبة المشاركين في بعض المظاهرات والقوائم الطلابية على "القائمة السوداء” في مكاتب محاماة وشركات متعددة، تثير علامة استفهام كبيرة عمّن يملك الرأي العام ومن يوجهه وهل فقدت البيئة الأكاديمية الميزة الإضافية التي تنادي بها بابتعادها عن تناقضات حياة الأسهم السياسية وتعقيداتها؟
نجد أيضًا في المواقع الالكترونية للتجمعات الطلابية انتشارًا ملحوظًا وتوظيفًا لمصطلحات "خطاب الكراهية” وبلا شك ” معاداة السامية” و”الاسلاموفوبيا” وموجات غضب يهودية عارمة من جمل مثل "من البحر إلى النهر” بوصفها إقصاءً للشخصية اليهودية، وشهدت الجامعات تراكمًا في الحرمان من حقوق التعبير وموجات غضب عارمة إزاء (التصريح واللاتصريح) من رؤساء الجامعات واعتبار أن ما تم تقديمه غير كافٍ، هذا إن لم يتم رفضه والاحتجاج عليه من الجانبين، وقد قامت جامعة كولومبيا بإغلاق الحرم الجامعي كإجراء أمني إزاء الاحتجاجات الدائرة فيها، ووقعت مجموعة استقالات واسعة من كوادر إدارية وتعليمية تم التجييش عليها من الممولين وأصحاب التبرعات والتجمعات الطلابية.
في ظل هذا الاحتدام من ناحية أخرى أعلنت جامعة ستنافورد حياديتها تجاه المواقف من الحرب الدائرة بينما أعلن رئيس جامعة نورث وسترن أنه لن يصدر أي بيان رسمي حول موقف الجامعة بشأن هذه القضية أو أي قضايا جيوسياسية مستقبلية، حيث ظهرت موجات تطالب بتصحيح أكاديمي للتصورات "المشوهة” التي يتلقاها الطلاب من الانترنت ورغبة واسعة باستدخال المفاهيم الجدلية من الصفوف الأولى في المدارس ما يخفف وطأة التنافر الطلابي الحالية ويسهل عملية التفاعل معها عند وصول الطلبة للتعليم العالي.
المانـحون والداعمـون
تعد الجامعات أكبر مستفيد وأكثر جهة حاجةً للتبرعات وأشكال الدعم المادي المختلفة ضمن ميزانياتها التي تتلقاها من المجتمع مما يساعد على تخفيف الأعباء المادية ويوسع مساحة التركيز على مستوى الخدمات وجودة التطور العلمي والبحثي، ولا تكاد تكون هناك أي اعتبارات لانتقادات هذه الأبجديات المنطقية ولكن نصطدم في هذا السياق مع ” التوظيف المادي” أكاديميًّا ما يعمل على تحجيم مساحات الحوار واعتبار الجامعة شركة تابعة للفرع السياسي الأم الذي يقوم بتمويلها، مما يترتب عليه فقدان بوصلة العلم والتعلم لحساب المانحين ومصالحهم.
نأخذ في فهم العامل المادي-الأكاديمي في الجامعات مثالًا من خلاله نقرأ بين سطوره بعض الملاحظات، ففي بيان تم فيه إعلان وقف التبرعات والدعم المادي (المليوني) التي أصدرها السفير الأمريكي وحاكم ولاية يوتاه سابقا جون هانتسمان الذي صدر باسمه واسم عائلته (كمؤسسة) إلى جامعة بنسلفانيا التي تخرج منها هو ووالده وأفراد من عائلته على إثر عدم وجود تعليق على هجمات حماس في 7 أكتوبر، والتي تم تداولها على نطاق واسع. حيث تعد هذه حالة من مئات الحالات التي تضع مجالس إدارة الجامعات في حيز الأمر الواقع في التعاطي مع المسألة الطلابية وأمام قرار اتخاذ موقف من عدمه.
بغض الطرف عن القضية الراهنة، فإنّ مثل هذه السلوكيات فتّحت الهواجس والقلق على حيادية المؤسسات الأكاديمية واستقلالها، بل ملف الحريات الأكاديمية بأسره، إذ تضع الجامعة الفكرية في أي حادثة غير متوقعة رهان رغبة الداعم المادي في توجيه مسارها القيمي.
البعض اعتبر أن ما حدث بعد 7 أكتوبر للعديد من الطروحات والتساؤلات حول الجامعات وملف الحريات والاستقلالية والسؤال الأخلاقي في عمل مراكز إنتاج المعرفة بمثابة فرصة لتبيان بوصلة الطريق بشكل أفضل، لأنّها نبهت إلى عوامل كثيرة أصبحت مؤثرة على عمل الجامعات، بخاصة ما يتعلق بالضغوط المالية، وأظهرت حقيقة عمل الطابع المؤسسي الجامعي في الولايات المتحدة مما يسهم في فهم "حدود التداخلات المادية في الشؤون الأكاديمية” وماهية الحيز المتروك للجامعة في مجالاتها الإنسانية والبحثية من منطلقات أكاديمية.
الثقـة في التعليم العالي الأمـريكي
في استطلاع للرأي أجرته شركة غالوب الأمريكية للتحليلات والاستشارات في واشنطن الذي نشر في 2023 أظهر انخفاض الثقة الأمريكية بالتعليم العالي بنسبة 36% وذلك ما تم اعتباره نزولًا حادًّا مقارنة باستطلاع عام 2018 الذي وصل نسبته 48% واستطلاع عام 2015 بنسبة ثقة 57%؛ ومثل هذه النسب قد تتجدد في الأعوام القادمة لمستويات أدنى بناء على التوقعات والتطلعات من خريجي وداعمي الهيئات الأكاديمية وبين الساعيين لرفع تصنيف الجامعات من عدة نواحٍ أكاديمية وسلوكية وعالمية، فقد تم استخدام التصنيفات التي تنشرها مؤسسة فاير الأمريكية التي تعد مؤسسة غير ربحية معنية بحماية حرية التعبير في حرم الجامعات، إذ تم عمل مقارنات بين تصنيف الجامعة في الولايات المتحدة وبين نوعية البيانات التي قامت بإصدارها، فمثلًا أخذت جامعة هارفرد وفق مقياس مناخ حرية التعبير (248 – سيء) وذلك ما يجعلها آخر الجامعات ترتيبًا في حرية التعبير وما قوبلت به من شكاوٍ في تفاعلها مع المظاهرات وفقدان المسؤولية المؤسسية بالتعامل مع الطلبة بالإضافة لعاصفة غضب عارمة إزاء ما يفترض أن تتبناه الجامعة.
الحياد المؤسسي: قراءة بعدسة ماكس فيبر
ننطلق هنا من اعتبار (الجامعة كساحة فكر لا مسرحًا سياسيًّا) إذ تعتبر الجامعة البيئة الأنسب لضمان أسلم طريقة للتعبير عن الآراء شديدة الاختلاف بوضوح وشفافية، وذلك ما ينتج عنه توليدًا لأفكار وطروحات أكبر ما يخلق بشكل تفاعلي طرقًا وأساليب جديدة تًمكِّن الطالب والأستاذ الجامعي من توظيفها لإيجاد الحلول أو صياغة واقع أفضل يساعد الأجيال على تجاوز المعضلات وتأطير المفاهيم المعقدة وتبسيطها.
ولعلّ تحول الجامعة الجذري من دورها (السامي) في الفكر والنهضة المعرفية واصطدامها في معترك الاضطراب السياسي وموازين الربح والخسارة والحسابات الضيقة يجعل من الصورة المرجوة بمثابة قضيةٍ مستحيلة؛ لأن الفكرة في البيئة النقدية التي تحفزها الجامعة قبل أن يتم إطلاق العنان لها ستصطدم بالحواجز التي تم بناءها مسبقًا على حساب رفعة الفكر وحيادية الجامعة والكلية كمؤسسات تعليمية فقط على فرض من ذلك.
وفي ميزان الحيادية فإن الإشكالية يسهل تبسيطها حالما تنطلق الجامعة من منطلق تقبل الاختلاف على ما هو والعمل على خلق مساحات طلابية تستوعب وجودها ضمن كيان مؤسسي يقبل الجميع ويهيئ لهم الخطوات لكن لا يرسم طريقها لهم.
إن الانطلاق من اعتبار الجامعة أنها تعمل على خياري (نعم/ لا)، وفي الإجابتين تشهد الجامعات الأمريكية امتعاض جميع الأطراف من الموقف واللاموقف فإنّ ذلك يدخل الجامعات في خضم المشكلات والأزمات السياسية ويضعها في مشكلة واضحة، فوفقًا لجوناثان فانسميث (نائب رئيس المجلس الأمريكي للتعليم) "هناك خط رفيع يفصل ما بين حرية التعبير والإساءة الذي يضع الجامعات بوضع صعب أساسا في تصدير موقفها كجامعة وموقفها إزاء تصرفات الطلبة ويتعقد موقف الجامعات أكثر في مثل حادثة 7 أكتوبر وآثارها الضخمة”.
سؤال الجامعة والانحيازات السياسية والأيديولوجية وملف الحريات والقيم ليس جديدًا، فقد تناوله بصورة واضحة السيسولوجي الأشهر، ماكس فيبر، عندما طرح إشكالية السياسة والفكر وخصوصيتها في الجامعات وقام بحسم المسألة بشكل واضح في جزئية من كتابه (العلم والسياسة بوصفهما حرفة) عندما اعتبر أن الفصل ما بين السياسة والأوساط الأكاديمية يضمن للعملية الأكاديمية نضوجها بلا مؤثرات دخيلة من كل حدب وصوب تصطدم بلا محالة بالمصالح السياسية التي تقوم بتشكيل الفكر بقوالب تتغير بتغير الأوساط واتجاهاتها.
اعتبر فيبر أن المدرس الجامعي لا ينبغي عليه أن يشارك آراءه الشخصية وسط العملية التعليمية بل عليه أن يفتح أبوابًا جديدة للآراء النقدية ويقوم بتشجيعها بناءً على أسس المنطق والنقد التي تعد دعامة الفكر وأساس صقله وتجويده، وهذا ما يمكن قياسه في حالة الجامعات الأمريكية حيث أن الحرب الحالية ضمن معادلة المادة والجو السياسي تسحب الأستاذ الجامعي لفرض آراء وتبني تصورات مخالفة لصفته الأكاديمية وتهدر مصداقية العلم والمنطق والحلول للمعادلات الصعبة في أتون الإشكاليات السياسية الإنسانية التي تورطت الجامعات بدخول معتركها.
وبالتالي، فإن الوضع الذي نقوم بقراءته يشير لصعوبة مستقبلية بفرص إعادة تشكيل الحياد من الصراعات في الجو الجامعي بسهولة وذلك ما يُنبئ ببيئة خصبة نوعًا ما لاستقطابات أسرع بين الطلبة وتنامي انعدام رغبة الطلبة في الانخراط في أشكال البيئة المتنوعة مع أفراد متنوعين بناءً على هذه التجربة وهذا يقع عاتقه على استدراك العامل المؤسسي للحلول الفعالة في بيئة "تحت الإنشاء” مثل الجامعات.
الخاتمة
إن ما يجعل من الجامعات مكانًا أفضل هو قدرتها على احتواء الكم الهائل من التنوع والاختلاف بل والترحيب به بحفاوة لخلق تعقيدات قابلة للفك والتركيب ضمن معادلة المجتمعات المتجانسة التي تستطيع ولو بالحد الأدنى حل مشكلاتها بأكثر الوسائل تحضرًا ومنطقية، وعلى النقيض من ذلك فإنّ مما يثير الرعب اليوم في صورة التداعيات التي نشهدها للحرب على غزة على الجامعات الأميركية وحالة الاصطفاف والتخويف والدور الكبير للعامل المالي والضغوط الأيديولوجية فإنّه يمثل تحديًا قد يكون غير مسبوق بهذه الكيفية منذ عقود طويلة لاستقلالية الجامعات وحياديتها وملف الأخلاق المهنية والحريات الأكاديمية.
إنّ هذه المعطيات تُضاف إلى السؤال الآخر الأكثر خطورة المتمثل في مصداقية ملف حقوق الإنسان والديمقراطية وهو الملف الذي تبناه المجتمع المدني العربي مدعومًا من الأجندات الغربية والأميركية، قبل أن يتم انكشاف حجم الخواء والزيف في هذا الملف مع مواقف العالم الغربي من حرب الإبادة في غزة، وما يحدث في الجامعات الأميركية اليوم يلفت النظر إلى أنّ المشكلة لا تمسّ فقط الجوانب السياسية بل أصبح يطاول ما هو أخطر من ذلك، وما كان مميزًا للغرب والأميركيين عمومًا، والمقصود هنا حرية الفكر والمعرفة والبحث العلمي!
* الكاتب مساعد باحث في معهد السياسة والمجتمع