أهل غزّة مؤمنون فهل نحن مؤمنون؟
منذ انطلاقته في (7) أكتوبر و"طوفان الأقصى" هو عبارة عن سيل متدفّق من المعجزات، سواء بلغة الورقة والقلم والحسابات، أو بالمعنى الإيماني لكلمة "معجزة".
ولكن لعل أكثر شيء مبهر، ويفوق الخيال، ويصل بالنسبة للكثيرين حدّ الجنون، هو قدرة المقاومة الفلسطينية بعد أكثر من (120) يوما من القتل والتدمير والتجويع والتعطيش والاستنزاف أن تقول "لا" لاتفاق هدنة، وأن تسوّف وتماطل و"تأخذ راحتها" قبل إعطاء ردّها النهائي إزاء مقترح للهدنة، بينما العدو بمعسكره وكامل ترسانة قتله وإجرامه هو الذي يترقّب بلهفة!
نظريا، ينبغي أن تكون المقاومة وأهالي غزة هم المتلهّفون حد الاستماتة لوقف إطلاق النار ولو ليوم واحد حتى يتاح لهم إلتقاط أنفاسهم قليلا، فما بالنا وهم يرفضون عروضا للهدنة تمتدّ لأسابيع!
بالنسبة للمقاومة فإنّ لها حساباتها التكتيكية والإستراتيجية التي لا تخفى على أي مراقب أو محلل، ولكن، وهنا بيت القصيد، المقاومة ما كانت ستستطيع أخذ هذه الحسابات بعين الاعتبار، أو حتى التفكير فيها أساسا، لولا ثقتها بوعي وصمود وصلابة "حاضنتها الشعبية"، وعدم تخلّي أهالي غزّة عنها رغم ما يتعرضون له من إبادة وتهجير.
هذا يقود إلى السؤال الحاسم: من أين تأتي هذه الثقة؟ وكيف يتسنّى لأهالي غزّة رغم كلّ ما يكابدونه يوما بيوم، ولحظة بلحظة، أن يبقوا على تمسكهم بمقاومتهم، وعدم التخلّي عنها أو الانقلاب عليها أو تحميلها مسؤولية الأهوال والفواجع التي يرونها، وإبطال مساعي العدو وحلفائه و"قطاريزه" الحثيثة لشق الصّف وإيقاع الفتنة وتكريس فكرة أنّ المقاومة "شيء" وأهالي غزّة شيء آخر؟!
الجواب ببساطة هو الإيمان؛ ليس إيمان الطقوس والشعائر، وليس إيمان الأوراد والتعازيم، وليس إيمان وزارات الأوقاف وعلماء السلطان.. بل إيمان اليقين والفعل والعبرة المُستقى من الحديث المأثور عن الرسول صلي الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"!
الأمر هنا لا يقتصر على الدرس الذي تعلّمه أهل غزّة شأنهم شأن سائر أبناء الشعب الفلسطيني بعد نكبة 1948 ونكسة 1967.. وكل المعاناة والقسوة والذل والإذلال والابتزاز والمسخ والتشويه الذي تعرّضوا له على مدار عقود من الزمن.
والأمر لا يقتصر على واقع معيشة أهالي غزّة ما قبل (7) أكتوبر، خاصة إذا ما سوّلت النفس الأمّارة بالسوء لأحدهم أن يخطو عبر إحدى بوابات هذا السجن الكبير نحو العالم الخارجي للدراسة أو العمل أو العلاج أو الزواج أو حتى لمجرد السياحة والاستجمام، وكيف يُعامل "الغزّاوي" أينما حلّ باعتباره شبهةً أو تهمةً أو وباءً أو إنساناً من الدرجة الثانية أو مواطناً من الدرجة الثالثة.
الأمر يتعدّى هذا وذاك ليتعلّق بالتجربة الصادمة المباشرة التي تعرّض لها أهالي غزّة بعد طوفان الأقصى!
إذا كان العالم عموما، والعرب والمسلمون خصوصا، قد تخلّوا عن أهالي غزّة، وتنصّلوا منهم، وتواطؤوا ضدهم، وتآمروا عليهم، وخذلوهم، وأعانوا عدوّهم، في أثناء ما هم يقتلّون ويذبّحون، بمعنى في الوقت الذي كانوا فيه في أمس الحاجة للعون والغوث والنُصرة.. فكيف يمكن لأهالي غزّة أنّ يصدّقوا ويثقوا الآن أنّ هؤلاء سوف يعينونهم ويغيثونهم وينصرونهم بعد أن يضعوا أسلحتهم ويتخلّوا عن حذرهم!
وكأنّ لسان حال أهالي غزّة هنا يقول:
"حسنا أيّها المجتمع الدولي، اتخذ قراراتك بحق الكيان الصهيوني، وافرض عليه العقوبات، وتوقف عن رفده بالسلاح والمال والغطاء السياسي.. وحسنا أيها العرب والمسلمون، أعلنوا حربكم على الكيان الصهيوني، أو على الأقل تعبئتكم العامّة، واقطعوا كافّة علاقاتكم معه، وقاطعوه، وأوقفوا كافة أشكال التنسيق الأمني والتبادل التجاري والتطبيع الثقافي، وألغوا مشاريع سلامكم الاقتصادي الموعود.. وعندها فقط يمكن لنا أن نثق بهدنكم ومقترحاتكم ووساطاتكم وضماناتكم وإعادة إعماركم.. وإلى أن يحدث هذا ها نحن هنا باقون وصامدون.. إمّا أن ننتصر وتنتصر المقاومة بعزّة وكرامة، وإمّا أن نستشهد جميعا أيضا بعزّة وكرامة.. وفي الحالتين لا عذر ولا عزاء للخونة والعملاء والجبناء"!
الكلام أعلاه فرصة لأن نطرح السؤال على أنفسنا أفرادا وجماعات وأنظمة، نحن العرب والمسلمون الذين نصرّ على أن نلدغ من جحر الكيان الصهيوني وجحر أميركا وجحر الغرب مرّة بعد مرّة بعد مرّة: "هل نحن حقا مؤمنون"؟!