القلاع البيروقراطية وتحديث التنمية.. التشخيص والحلول وهل لا يزال "العمل كالمعتاد" هو الحل؟



كتب د. جمال الحمصي - 

"في ظل موارد مالية متقلصة وصدمات خارجية متتابعة، يمكن النظر الى تحديث القطاع العام وتحسين كفاءته باعتبارهما أهم محركات تحسين الإنتاجية والنمو والتوظيف في الاقتصاد الأردني. وهذا توجه استراتيجي في ضوء القصور الذاتي للقطاع الخاص وقوى السوق الحرة والمبادرات الفردية في مجال تحديث التنمية وتعزيزها بالاستعانة بدروس الماضي. مثال ذلك اختصاص وزارة العمل في تنظيم سوق العمل من العمالة الوافدة المتزايدة. وسنصل الى نتيجة مفادها ان إصلاح القطاع العام يبدأ بتعزيز الثقة والمساءلة كما تؤكد النظرية الاقتصادية للبيروقراطية واقتصاديات الاختيار العام".

عندما بدأت حياتي المهنية مطلع التسعينيات في مؤسسة عامة ريادية، أنذرنا المدير العادل والصارم يومها بضرورة الرد والاستجابة الايجابية للهاتف الأرضي مباشرة ودون إبطاء سواء أكان الهاتف من المدير نفسه أو من الزملاء في المؤسسة أو من الجهات الخارجية، علماً بأن طبيعة عمل الدائرة آنذاك كان "داخلي" بشكل عام ولا يتطلب تقديم خدمة منتظمة أو يومية للجمهور.

الآن ونحن في الألفية الثالثة، وللأسف، تتسابق العديد من المؤسسات العامة لإقامة جدر عالية بينها وبين الجمهور تحت مسميات مثل الحكومة الإلكترونية والعصمة عن الخطأ، حيث تقديم الخدمة يتم "عن بعد" ودون تفاعل مباشر بين المؤسسة ومتلقي الخدمة.

ولتقديم الخدمات الالكترونية عن بعد مزايا مشروطة لكن لها أيضاً محاذير راجحة في سياق الدول النامية ذات الرقمنة والحوكمة الضعيفة. فهي تؤسس لقلاع بيروقراطية وتفترض التزاماً وانضباطاً ذاتياً من قبل الموظفين والمدراء معاً، وتفترض أيضاً اطلاعاً من قبل متلقي الخدمة على تفاصيل وشروط الخدمة، ومحو الأمية الرقمية لكامل أو معظم السكان، وهذا غير متحقق للأسف بالنسبة للمجتمع الأردني.

ولديّ مؤخراً تجربتين شخصيتين غير ايجابيتين عن الخدمات العامة عن بعد، تجربة واحدة في مؤسسة خدمية وأخرى في مؤسسة عامة للتدريب. حيث اضطررت للاستعانة ب"مكتب خدمات" لإتمام الخدمة ودون فائدة في المحصلة لأن معاملتي لم تكن "روتينية". الخدمات الالكترونية تؤسس لحوار الطرشان وتخلق طبقة إضافية من الروتين لا تحتاجها أي حكومة فعالة ومستجيبة. وبالتالي يجب عدم اشتراط التقديم الالكتروني للخدمات بتاتا بل اعتماده كمكمل وليس كبديل عن التفاعل الشخصي.

ويجدر بي التنويه الى ما تعرّض له قطاع التعليم العام والجامعي من تداعيات التدريس عن بعد إثر وباء كورونا، والى تراجع نوعية التعليم في الأردن رغم إنفاق مئات الملايين على رقمنة التعليم العام في ظل وصفات البنك الدولي.

وهنالك نمط سلبي آخر من "القلاع البيروقراطية" في الإدارة العامة، يفوق أهمية، وهو انفراد معظم مؤسسات القطاع العام بصنع السياسة العامة وعدم التزامها بالشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني، وحصر الشراكة بالمانحين الدوليين وفي صندوق النقد والبنك الدوليين، في مجال السياسات الكلية التقليدية وغير الفعالة على وجه الخصوص.

هذه الممارسات بلباس "الإصلاح" تضرّ بمجملها بكفاءة القطاع العام وب"ملكية" المجتمع والدولة للإصلاحات والبرامج والسياسات الوطنية، وبالتالي تقيد فضاء السياسة المحلية Policy Space وكذلك مشاركة المواطن في جهود الإنماء والتحديث الوطني. ولا داعي لتفصيل ما يؤكده المفكر العالمي في بناء الدول والحوكمة العامة فرانسيس فوكوياما (2004) من غياب وجود "علم" صارم للإدارة العامة وبالتالي لا بديل عن الشراكة المجتمعية في تقديم الخدمة وفي صنع السياسة، وفي الشؤون جميعها.

والمشكلة ان المؤسسات العامة المتضخمة، عدداً وعُدّة، على وجه الخصوص، تعتمد كثيراً على المسار التاريخي بل وتدمن عليه وتبني فوقه، مما سيضاعف من الآثار السلبية طويلة الأجل عندما تتخذ السياسات في الحاضر والمستقبل وفق مبدأ "العمل كالمعتاد" وبمعزل عن الواقع والنتائج، ويساهم في ضعف الإنتاجية ويعزز الهشاشة العامة وفرص الاستدامة والرخاء، لا سيما في ظل تراجع الأداء المؤسسي العام مع وجود استثناءات، وفي ضوء تراجع أرقام الصادرات السلعية في علم 2023 واستمرار ضعف النمو الاقتصادي لعام 2023 التي لم تتجاوز نصف المستهدف في خطة التحديث الاقتصادي، وأيضاً في ظل وجود مخاطر نحو الأسفل للنمو الاقتصادي في عام 2024 بسبب آثار خارجية إقليمية تتطلب تدابير استثنائية وسريعة (أنظر مقالي: برامج صندوق النقد تعيق النمو .. كيف نحول دون استمرار التراخي الاقتصادي وتداعياته؟ على صحيفة جو 24).

والحلول العملية رغم انها عسيرة في ضوء ظاهرة إدمان المسار التاريخي لكنها تبدأ وتشمل: 

(1) كما نوهت في مقالات سابقة: تأسيس مجلس اقتصادي أعلى وفقاً لقانون معدل للتخطيط، برئاسة شخصية قيادية تجمع بين الاقتصاد والسياسة، وبمساندة تنفيذية من قبل وزارة التخطيط (وزارة الاقتصاد الوطني( بعد تطويرها وإعادة هيكلتها لتشرف على أداء الاقتصاد الأردني ككل، وتنسق بين وحداته وسياساته بالشراكة مع القطاع الخاص لخلق بيئة أعمال جاذبة رغم الصدمات، وتقلل من الهدر والتسيب والازدواجية بالتعاون مع ديوان المحاسبة المطوّر. 
(2) تحسين أجور الموظفين والربط بين الأداء المؤسسي وفقاً لمؤشرات أداء تشغيلية رئيسية وبين التعويضات النقدية وغير النقدية لمدراء المؤسسات العامة وبقائهم في مناصبهم.
(3) تعزيز التشاركية والانضباط ورأس المال الاجتماعي للمواطن وللموظف العام في إطار وثيقة تحديث القطاع العام. 
(4) تعزيز كفاءة القطاع العام مع تقليص حجمه وإنفاقه ومراجعة رقابته التنظيمية والمالية (ما يُعرف بالإصلاح الرقابي Regulatory Reform)، مثل تخفيض العبء الضريبي والمسقفات في ظروف الانكماش الاقتصادي الممتد.
(5) تطوير المساءلة العامة بل وتحفيزها بجوائز وحوافز عامة.