إعادة إدراك الاستعمار


   
 
 نحن في مواجهة مباشرة مع الاستعمار بكل صوره القديمة منها والجديدة، أدرك بعضنا ذلك، ولم يدركه البعض، إما عن قصد وغرض أو عن سهو وغفلة، استعمار لا يكتفي بالأرض، ولا بالموارد، ولا بالأسواق، لا يكتفي بتجريدنا من كل ذلك، لكن يجردنا مما بقي من أطلال أخوتنا وعروبتنا وإنسانيتنا.

يجردنا من هُويتنا، من وعينا، من عقولنا، من ضمائرنا، من تاريخنا، من حاضرنا، من كافة مقومات وجودنا التي تحفظ علينا بقاءنا فوق أرضنا، كما تحفظ علينا ملامحنا وقسمات وجوهنا وكل ما به نعرف أنفسنا ويعرفنا من سوانا من شركاء الكوكب الأرضي.

تصفية القضية

إبادة المقاومة الفلسطينية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023م حتى كتابة هذه السطور في فبراير/شباط 2024م ليست مجرد حلقة – مثل حلقات سابقة – في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، لكنها تصفية للقضية الفلسطينية بما هي صراع مزمن بين طرفين، بين غزاة معتدين، وأصحاب أرض يدافعون عن حقهم ويقاومون عدوهم، تصفية تعتمد على منطق من ثلاث زوايا:

1 – أن الجزء الأكبر من الصراع قد تمت تصفيته، وذلك بخروج العالمين العربي والإسلامي – أي الحكومات العربية والإسلامية- من الصراع، خروجًا طويلًا، بدأ باعتراف تركيا بدولة إسرائيل 1950م، ثم اعتراف مصر 1979م، ثم انفتحت أبواب الاعتراف بالتدريج، حتى لم يعد بين العرب والمسلمين من يقاوم أو يمانع، فمن يعترف يخرج من الصراع، ومن لم يعترف ينتظر التوقيت المناسب.

وقد اطمأنت إسرائيل لهذا الخروج الجماعي العربي والإسلامي من الصراع، اطمأنت بصورة عملية تجريبية، وهي ترتكب أفظع الجرائم ضد شعب عربي مسلم، دون كثير غضب من عموم العرب والمسلمين، فأخذت راحتها في الإبادة بقصد التصفية.

2 – ثم اتفاقات أوسلو 1993م منحت إسرائيل اعترافًا رسميًا فلسطينيًا، وعلى أساس من هذا الاعتراف تأسست السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن ذاك التاريخ أصبح الاعتراف- وليس المقاومة- هو مصدر شرعية قطاع كبير من النضال الفلسطيني، نضال الواقعية الذي يكتفي من التحرر الوطني بما تسمح به معادلات القوة القائمة دون اصطدام جذري معها.

3 – العالم العربي – الإسلامي لم يخرج فقط من الصراع باعتبار المشروع الصهيوني عدوانًا مباشرًا على العروبة والإسلام، لكن خرج مما لا يقل أهمية، خرج من استقلاله ذاته، لم يصبر على تبعات الاستقلال الوطني – الذي ناضلت لأجله أجيال سابقة وقفت في وجه الاستعمار الغربي بكل صنوفه وأشكاله – ثم استراحَ للانضواء تحت الاستعمار الجديد.

لم يكن يعبر عن نفسه – فقط – من قال في سبعينيات القرن العشرين: إن 99 بالمائة من أوراق الشرق الأوسط في يد أميركا، كان يتحدث بمزاج المرحلة، الفارق بينه وبين غيره في أمرين: صراحته، ثم تبكيره برؤية المستقبل.

مظلة أميركيّة

وقد ترتب على هذا المنطق، بزواياه الثلاث، أمران: هوامش حركة فسيحة مطلقة متحررة من كل قيد تمتعت بها إسرائيل، وهي تمارس أعلى درجات العنف ضد المقاومة الفلسطينية.

وعلى النقيض من ذلك هوامش جد محدودة ومقيدة ومكبلة بكافة الأغلال في حالة الدول العربية – الإسلامية، بما في ذلك كبريات الدول، بما في ذلك من لها وزن إقليمي معتبر، ومن لها موقف معلن ضد إسرائيل، ومن لها تاريخ في الحروب ضد إسرائيل، ومن لها مرجعيات قومية عربية، ومن لها مرجعيات إسلامية بين شيعية وسنية.

الانضواء – سواء بمحض الإرادة أو قسرًا أو طمعًا في بعض المنافع العاجلة – تحت مظلة الاستعمار الجديد أفقد هذه الدول ما كان لها من وزن واعتبار في نظر نفسها وفي الإقليم والعالم، حتى غدت بلا وزن له فاعلية في الشتاء الدموي على الجسر بين خاتمة 2023م ومطلع 2024م. لم تفقد – فقط – فاعليتها في الإقليم والعالم، بل فقدت حيويتها الداخلية، حيوية الشعب وقواه وتنظيماته ونقاباته ونخبه وأفكاره.

نزعت حرب الإبادة في غزة الغطاء عن وجه الواقع الاستعماري الراهن والمتجدد، فقد ثبت أنه من المستحيل أن تفعل إسرائيل ما تفعل لولا تأييد أوروبا، ومن المستحيل أن يكون للتأييد الأوروبي لإسرائيل معنى لولا الحماية الأميركية التي تصل إلى حدود الضمان والكفالة والرعاية التامة الكاملة لأمن إسرائيل ووجودها وتفوقها على كل جوارها العربي والإسلامي مجتمعين، وليس مجرد التفوق على المقاومة الفلسطينية.

تطويق وحصار

هذه الإبادة – أدركنا ذلك أم غفلنا عنه – هي عمل متقدم من أعمال الاستعمار القديم منه والجديد، اجتمعت فيه كل خصائص الاستعمار بكل مراحله، وآية ذلك، أن من وقف في وجهه، بعد المقاومة الفلسطينية، هي دول أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا، أوائل الشعوب التي ذاقت المرار من عسف وخسف كافة أشكال الاستعمار من اللحظات الأولى التي بدأت فيها أوروبا تخرج من قمقمها وتضع أقدامها خارج ترابها.

تضع أقدامها في سبتة على الساحل المغربي 1415م، ثم اندفاع المغامرين من الإسبان والبرتغال في أميركا اللاتينية، ثم الهولنديين ولحقهم البريطانيون في جنوب أفريقيا، ليست مصادفة أن تكون أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا هما سند وصوت وضمير المقاومة الفلسطينية، وليس العربُ، وليس المسلمون.

صحيح أن موجات الاستعمار الأوروبي التي داست أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا هي ذاتها الموجات التي بدأت بسحق المُسلمين في شبه جزيرة أيبيريا ثم تطويقهم وحصارهم في كل مكان من العالم القديم، كل ذلك صحيح، لكنْ هناك فارق ضخم بين من حافظ على استقلاله وصبر على تبعاته ومشقاته ومن ذهب ينضوي – رغبًا أو رهبًا – تحت مظلة الاستعمار الجديد.

مع فارق أن الدول العربية في تجربة الاستعمار ليست سواء، فبعضها لم يكن لها وجود كدولة قبل الاستعمار، كانت كيانات في حالة ما قبل الدولة، وقد طواها الاستعمار تحت مظلته بموجب اتفاقات حماية، ثم خرج منها بموجب اتفاقات حماية، فلم يكن لها خبرات في مكافحة الاستعمار حين دخل ولا حين بقي ولا حين خرج، الاستعمار دخلها واستمر، ثم خرج، ثم تطورت أشكال الارتباط بينهما بعد الاستقلال الذي جاء منحة من المستعمر.

لكن البعض الآخر من الدول العربية كانت لها تجارب مريرة في مقاومة الاستعمار حين دخل، ثم مناضلته وهو جاثم على صدرها، ثم مكافحته حتى خرج، هذه الشعوب لها تجارب حقيقية في معاناة الهيمنة الاستعمارية.

شبكة كونية

لكن التنسيق بين الاستعمارين: القديم والجديد، أي أوروبا وأميركا، يسّر انتقال السلطة إلى نخب تجاوبت مع الاستعمار الجديد باستثناء الفترة الناصرية التي كانت على وعي كافٍ بحقيقة تجدد الاستعمار، وكانت – بفضل هذا الوعي – تملك قرارها وتتمتّع بهوامش حركة واسعة دون وصاية وصنعت نموذجًا في المقاومة لولا أنها هزمت نفسها بنفسها بعدد من التكتيكات الصغيرة التي أثمرت هزائم كبيرة كانت كفيلة بتفريغ النموذج مما فيه من وحي وإلهام.

هذا الاستعمار المتجدّد لا يكتفي في هذه اللحظة بالتواطؤ على إبادة المقاومة الفلسطينية، ولا بتضييق هوامش الحركة وإمكانات الفعل على الدول العربية والإسلامية، لكن وصلت قدراته إلى تقييد قدرات الأفراد المتعاطفين مع المقاومة إذا أرادوا الكتابة الحرّة على مواقع التواصل الاجتماعي أو في الجامعات أو في الصحافة العالمية أو المنظمات الدولية.

الاستعمار الجديد – وفي القلب منه إسرائيل – يملك شبكة كونية هائلة ترصد أهدافه وتتولى إحباطها في مكانها ونزع فاعليتها وتحييد قدراتها حيثما كانت.

1ـ في عام 2010 م عندما كتب أستاذ الدراسات الأفريقية الكبير الدكتور السيد فليفل كتابه: " التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لجنوب أفريقيا "، كان ذا بصيرة تاريخية نافذة وحكيمة، حينما ربط بين جنوب أفريقيا وفلسطين، وبين جمال عبد الناصر ونيلسون مانديلا، يقول الإهداء: " إلى إنسان أفريقيا في الجنوب، وقد حرر نفسه من ربقة الظلم، وحرر ظالميه من التردي في الظلم، وحرر الإنسان من سقطة العنصرية. وإلى جمال عبد الناصر أدرك وهدة العنصرية في الجنوب، كما أدرك صلتها برفيقتها الصهيونية في فلسطين المحتلة، فمد يده إلى نيلسون مانديلا ورفاقه، وما تزال مقاومة العنصرية في الميدان، سواء في جنوب أفريقيا وفلسطين ". انتهى الاقتباس.

2ـ في عام 1964م عندما أصدر الدكتور جمال حمدان كتابه: " الاستعمار والتحرير في العالم العربي " وهو يختلف عن كتابه: " إستراتيجية الاستعمار والتحرير " الذي صدر في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، الكتاب الأول صدر ومصر – بفضل وعيها الاستثنائي لمخاطر الاستعمار الجديد – تتمتع بوزن إقليمي لم يحدث من قبل وبتأثير دولي كذلك لم يحدث من قبل.

في هذا السياق صدر الكتاب بروح وثّابة متفائلة متحفزة، ترى الاستعمار في لحظة زوال، لكنها على يقين أن هذه الاستعمار الذي يشهد لحظة غروب تحل روحه وتتناسخ في استعمار جديد هو إسرائيل.

يقول الدكتور حمدان: " الاستعمار يعبر خط الزوال، ويدخل مرحلة الشفق، ولعلها الآن مرحلة الغسق، إلى أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل "، ثم يتحدث عن الهدف من الكتاب وهو أن " نرسم صورة جديدة مشرقة لموجات التحرر، مراحلها ومحركاتها، اتجاهاتها ومثلها، نقاط قوتها ومواطن ضعفها، كيف دفن الوليد الجديد – يقصد حركات التحرر الوطني – جثة الاستعمار العجوز ".
ثم يقول عن إسرائيل إنها " آخر أشباح الاستعمار بل وتناسخ أرواحه، فما العميل الغادر إسرائيل إلا محاولة لتحل روح الاستعمار الطريد – يقصد الاستعمار القديم – في جسم هذا الاستعمار الصهيوني الشريد، ولكن لنا من الآن، أن نبشر هذا وذاك – يقصد الاستعمارين القديم والجديد – بالنسخ لا بالتناسخ ". انتهى الاقتباس.
3ـ أردتُ مما سبق الوصول لهذين المعنيين:

1- أن إسرائيل هي خلاصة الاستعمار ومستقبله وأداته للسيطرة على الشرق الأوسط، هي استعمار متجدد مستمر، لا يقبل الغرب المساس به، ناهيك عن هزيمته أو إفنائه، والعكس من ذلك يقبله ضميره، فضمير الغرب يقبل هزيمة وإبادة وإفناء أي مقاومة تمثل خطرًا حقيقيًا على أمن إسرائيل.

2- مقاومة الاستعمار لن يقوم بها ولا يتحمس لها من يخضع طوع إرادته للاستعمار، والعكس صحيح، مقاومة الاستعمار تستدعي الالتفات جهة كل الشعوب الحية التي ذاقت مرارة الاستعمار وتصبر على مشقة الاستقلال ولديها ضمير حر ولم تفقد إنسانيتها تحت ضغط الهيمنة الغربية.


الاستعمار والرأسمالية توأمان، لهذا وقفت الشركات العظمى عابرة القارات مع الصهيونية، فيما وقفت الضمائر الحية من الشعوب المثقفة مع المقاومة الفلسطينية.
هذا موضوع مقال الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.

 
أنور الهواري - الجزيرة