"أرواح لا تقهر".. قصص لغزة بالإيطالية وجذوات من نور في حلكة الإبادة
يقع كتاب "غزة: أرواح لا تُقهر.. عشر جذواتٍ من نور في حلكة الإبادة" الصادر مؤخرا في ميلانو (منشورات لالوتشي، 2024) للكاتبة حنين صوفان، على تخوم الصحافة السردية بوصفه نوعا من الكتابة الصحفية يوظف أدوات السرد الروائي لصياغة قصص غير تخييلية، والقصة القصيرة بوصفها جنسا أدبيا قائما على التخييل وإن استلهم من الواقع.
اختارت الكاتبة دمج جنسي كتابة متناقضين ومتشابهين في الوقت عينه بما يتماشى مع ذوق السوق الإيطالية فيما يخص المواد العربية تحديدا، حيث اعتاد القارئ الغربي أعمالا تقف على حدود الواقع والخيال، وهو ما يمنح للسرد الطعم الغرائبي الذي يبحث عنه القارئ في القصص القادمة من دول الجنوب، لكن دون أن تقع الكاتبة الفلسطينية الإيطالية في فخ التسليم الكامل للصيغ المبتذلة التي عادة ما ينجر لها الكُتّاب العرب لدى الكتابة للقارئ الغربي.
ملائكية غربية وإنسانوية عربية
ففي الوقت الذي تراكمت فيه في السنوات الأخيرة مواد كثيرة لصحفيين وكُتّاب إيطاليين بشأن العالم العربي أتت في جلها شبيهة بأعمال رحالة القرن الـ17 لناحية الحذلقة السردية، مع اختلاف أن الكاتب الغربي المعاصر بات يقدم نفسه في صورته المحدثة على شكل كينونة نورانية أهم صفاتها العطف والطيبة، وكأنه نسخة علمانية عن الملائكة التي تأتي لتعانق من عليائها الأرواح المسكينة لمعذبي الأرض؛ انتشرت بالتوازي مع ذلك أعمال كُتاب من الجنوب موجهة للسوق الغربية، لا يُفهم إن كانت أعمالا أدبية أم شهادات شخصية أم قصصا واقعية أم سردا صحفيا أم تخييليا.
لكن تبقى السمة المشتركة لهذه الأعمال هي الالتزام بالخط "الإنسانوي" (مركزية الإنسان) الذي يظهر فيه الكاتب العربي وكأنه يبحث من خلال كتاباته الحزينة عن حضن غربي يبث له همومه، ويشكوه المظالم التي يتعرض لها من القوى الرجعية التي تريد أن تسحبه إلى حياة القرون الوسطى البائدة بينما هو يتفجر حداثة وتنويرا، ويرافق هذا النوع من السرد عادة الكثير من العِظات العلمانوية، والشعارات الأيديولوجية المتوافقة مع روح العصر.
نقيض البطل
عن هذه الصيغة المستهلَكة في السرد العربي المكتوب باللغات الأوروبية (أو الموجه للترجمة) تتمرد حنين صوفان (مواليد 1992) بذكاء دون كسر قالب الكتابة الهجين نفسه الذي يأتي كطُعم لجلب القارئ وصدمه لاحقا بجرعة غير متوقعة من فلسفة حياة تنهل من العمق الفلسطيني وتشكل حلقة مفقودة في شبكة المفاهيم المرتبطة بالقضية الفلسطينية لدى القارئ الإيطالي.
وهكذا نجد صوفان لا تقدم الفلسطيني في نصوصها كشخصية هشة، ضعيفة، متهاوية، بما يتناسب وصورة نقيض البطل (antihero) التي رافقت تطور السرد في العصر الحديث وكانت ملامحه قد بدأت ترتسم في عصر النهضة، بل تكاد شخصياتها تظهر في صورة البطل الكلاسيكي بالتعريف الأرسطي، وذلك من خلال اعتماد لغة سرد تلقائية فرضها موضوع العمل الذي تناول 10 قصص لشخصيات فلسطينية ارتبطت بالعدوان الصهيوني الجاري على غزة وألهمت بصمودها العالم كله، مما حوّلها لأيقونات حقيقية لم يصطنعها الإعلام أو الملاحم الشعرية.
وهنا نقرأ كلمة الناشر على الغلاف: "يقف مراسل الجزيرة وائل الدحدوح بشموخ أمام الكاميرا ليواصل نقل شهادته رغم أنه شهد مذبحة عائلته بأكملها، ومن ورائه خلفية لحرب لا إنسانية. والجد خالد الذي يحتضن جثمان روح روحه ريم، وقد غدا أيقونة لمن لا يعرف الاستسلام ولا يفقد الحنان".
ويتابع الناشر "يروي الكتاب أيضا قصة إسراء وعزيمتها اللامحدودة وهي التي نجت من النيران وجحيم الأسر، ويحكي معجزة ريم التي منحت الحياة لابنها وهي محاطة بالموت وألم لا يطاق. قصص ميس وشروق ونادين من القدس ورام الله، بين الأسر وفي أحضان كنائس غزة، نساء مسلمات ومسيحيات تجمعهن مأساة كونهن فلسطينيات والأمل في مستقبل من الحرية".
ويستدرك: "ولا يمكننا أن ننسى بسالة معتز وأحمد تحت نيران القناصة الإسرائيليين، والشجاعة المبهرة لمدير مستشفى الشفاء محمد أبو سلمية الذي لم يتخلّ عن المستشفى المحاصر. حيوات عشر تحكي عن الألم، ولكن أيضا عن البطولة والحب والكرامة والجمال والأمل لشعب لا يقهر، تمكّن في حلكة الإبادة، من إلهام العالم بنور إيمانه المذهل".
عودة البطل
مع شخصيات كهذه شاهد العالم تفاصيل أغلب قصصها على الهواء؛ يستحيل لأي سارد أن يتفادى رسم صورها بعيدا عن سمات البطل التقليدية، ذلك البطل الذي يمتلئ جمالا ونبلا وشجاعة وكرامة ويختزل في شخصه قيم الفضيلة التي من شأنها أن تنقذ العالم.
وهكذا نجد غزة تعيد إلى السرد المعاصر شخصية البطل التي كاد يؤرشفها الكتّاب من عوالمهم بعد أن اتجهوا لمنح دور البطولة لشخصيات تجسد القيم النقيضة لقيم البطولة الكلاسيكية فأصبحت صفات كالضعف النفسي والتذبذب والتهيب من مواجهة الخطر سمات يتم الاحتفاء بها على اعتبارها صفات تظهر "إنسانية" الشخصية. وهكذا مر العالم من الاحتفاء بالإقدام والجسارة إلى التأمل في مفاهيم التخاذل والإدبار على اعتبارها تمثلات من "الهشاشة" و"الرقة" الشبيهة بهشاشة بتلات الورد وأجنحة الفراشة.
الاستسلام لضعف النفس الإنسانية وتحويله إلى قيمة أدبية جمالية أخذ في السرد العربي المعاصر أشكالا مثيرة للاهتمام ظهرت من خلال أعمال سردية عديدة بدأت تحتفي بشخصيات "النذل" و"الجبان" بل حتى "الخائن" و"العميل" وتضيء عليها من زاوية فلسفية ما بعد حداثية لا بالمعنى الأخلاقي، وقد لا يكون هذا محل دراستها الآن، إلا أن كتاب صوفان أتى ليقلب الطاولة على هذه الموضة السردية التي ترسخت في السنوات الأخيرة في الأدب العربي، وتعيد بذلك الكاتبة الفلسطينية الشابة لقيم الفضيلة مكانتها في السرد العربي المكتوب باللغات الأوروبية.
ولا يبدو أن الكاتبة قد سطرت إستراتيجية مقصودة لإعادة إحياء صورة البطل والقيم الكلاسيكية للأدب من خلال عملها، ويتبين ذلك في عدم اعتنائها برسم معالم شخصياتها على نحو دقيق، وكأنها تعيد للبطل وضعه بواسطة العنونة تحديدا وتوجيه القارئ لسماته النبيلة من خلال سرد كلاسيكي يقترب للخطابة مع الابتعاد عن "تبئير" الشخصية أو وضعها في محرق التركيز السردي على نحو تام.
وقد كان من الواضح أيضا عدم رغبة صوفان في تقديم شخصياتها في صورة ساذجة لأبطال خارقين على الطريقة الهوليودية، ذلك أن البطل الحقيقي كما يظهر من بين أسطر العمل ليس هو الشخصيات العشر التي اختارتها حنين وإنما ما يعتمل في قلوب هؤلاء من إيمان.
توازن الشخصية
تخلق بذلك الكاتبة الفلسطينية حالة توازن بين لحظات ضعف شخصياتها الإنسانية بمساندة ريشة الفنان بدر الدين أبو الخير الذي التقط لحظات البكاء والحزن لكل أبطال العمل، ولحظات القوة والتجلّد التي سرعان ما كانت تمنحها لهم محطات الذكر والدعاء وتلاوة القرآن أو التقاؤهم بمن يذكّرهم بقدرة الله.
وهنا تحضرنا الصحفية الإيطالية المختصة بالشأن الفلسطيني رومانا روبيو التي حاولت شرح ظاهرة الصمود الفلسطيني البطولي في غزة خلال الحرب الجارية: "الدين لا يلعب عند الصهيوني الدور ذاته الذي يلعبه لدى الفلسطيني (…) الدين بالنسبة للفلسطينيين هو روحانيات وإيمان حقيقي، هو ما يجعلهم يتعلقون بالأمل ويمدهم بما يبدو وكأنه قدرة تفوق طاقة البشر على التحمل".
وهكذا تسجل حنين صوفان اختراقا حقيقيا على الساحة الإيطالية في باكورة أعمالها، حيث تجرأت على مقاربة الشخصية الفلسطينية إنسانيا من زاوية دينية في ظل هيمنة المقاربات اللادينية في طرح القضية الفلسطينية في إيطاليا، والتي عمدت طيلة عقود إلى فصل الفلسطيني عن مكون الدين في هويته وربطه إنسانيا بفلسفات حداثية لم تتمكن أي منها من فك لغز الصمود الفلسطيني في عين المتابع الإيطالي.
وتظهر مقاربة صوفان الجريئة بشكل واضح من خلال قصة ميس الوحيدة المفكوكة عن السياق الغزاوي الحالي والتي عمدت فيها الكاتبة لسَوق كل الصور الذهنية واللغوية المرتبطة بالسياق التقدمي والنسوي للنضال الفلسطيني في المخيال الغربي لتصل في نهاية القصة للحظة الأمل الوحيدة التي كانت تنتظرها الأسيرة الفلسطينية المحررة من داخل زنزانتها وهو سماع صوت أمها على المذياع: "نحن ندعو لك يا ابنتي. الله يعطيك القوة لمواجهة هذه المحن ويعيدك لنا سالمة".. وقد كان صوت أمها ذاك هو وحده ما يمنحها القدرة على المقاومة.
يُذكر أن ريع الكتاب يعود بالكامل بحسب تنويه الناشر لقطاع غزة، وقد وضع مقدمته الفنان والمسرحي الإيطالي اليهودي موني أوفاديا الذي دعا القارئ الإيطالي في كلمته بأن "يتعلم من هذه القصص البطولية المغموسة بوجع حقيقي محفور في أجساد وعروق وقلوب وأرواح نساء ورجالٍ عَصيين على الخضوع"، يقول أوفاديا: "فلنتعلم من هذه القصص الحقيقية على نحو مؤلم أن لا نشيح بنظرنا مجددا عن المظالم التي يتعرض لها الفلسطينيون، وهم الذين أدار العالم ظهره لهم على مدى عقود".
المصدر : الجزيرة