عودة الحريري والحرب بين القرار والفرصة
عاد سعد الحريري الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية إلى بيروت لإحياء ذكرى 14 شباط، تاريخ اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. عودة أُعدّ لها لتكون رسالة في اتجاهات مختلفة. تزامنت مع تصاعد حدّة المعارك عند الحدود الجنوبية وصولاً إلى منطقتي النبطية وصور. ليبدو لبنان مجدّداً أمام مشهدين مختلفين، المشروع السياسي للبلد يقابله الواقع الحربي.
يبدو أنّ المشروع السياسي لم يحن وقته بعد، لذا كان التلويح بعودة رُبطت بما يشبه الترتيبات والشروط والعناوين التي تنتظر الفرصة المناسبة، "كل شي بوقتو حلو...". إلّا أنّ الأحوال الجوية الماطرة والسماء الملبّدة بالغيوم التي تزامنت مع زيارة الحريري للضريح في وسط بيروت لا يبدو أنّها تختلف كثيراً عن الأجواء والظروف السياسية الراهنة المتّصلة بـ"العودة السياسية". إطلالة سعد رفيق الحريري عبر "قناة الحدث" ليعلن جملة من المواقف أعادت إلى الأذهان إطلالته عبر شقيقتها قناة "العربية" ليعلن استقالته من رئاسة الحكومة خلال زيارته الرياض في العام 2017. إطلالتان، لكلّ منهما توقيتها وظروفها، وما بينهما استقالة ... واعتكاف واعتزال ووعد بعودة.
قرأ البعض في إطلالته الأخيرة ما يشبه "إعلان نوايا"، فهل يعود الحريري بشروطه أم وفق ترتيبات محدّدة، هذا ما يجب رصده في قابل الأيام. فهل قرار العودة يرتبط بظروف الرجل أو البلد أو المنطقة. للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد أولاً من الإحاطة بمواقف اللاعبين على المستويين الدولي والإقليمي. إقليمياً، لا يزال الاتفاق الإيراني السعودي على حاله، من دون تقدم يُذكر أو تراجع يُرصد، ولكنّه يحافظ على كونه ضامناً للاستقرار في المنطقة بشكل أو بآخر. دولياً، لا تزال الولايات المتحدة حاضرة بقوة من خلال اللجنة الخماسية المعنية بمتابعة الشأن الرئاسي في لبنان، وإليها تنضمّ فرنسا ومصر وقطر مع المملكة العربية السعودية طبعاً. واشنطن المعنية بمتابعة الوضع الأمني عند الحدود اللبنانية الجنوبية انطلاقاً من موقفها مما حصل ويحصل في غزة، تضغط باتجاه تسوية تصلح لتوظيفها في معركة انتخاباتها الرئاسية. ولا يمكن إنجاز أيّة مسألة في هذا الإطار من دون شاغل لكرسي الرئاسة في بعبدا.
فهل استُبدل اسم سعد الحريري باسم نواف سلام في تسوية تأتي بسليمان فرنجية إلى سدّة الرئاسة؟ وهنا لا بد من الوقوف على رأي الرياض من جهة، وطهران من جهة أخرى. فهل عدنا إلى معادلة السين سين؟ سعد وسليمان؟ من المؤكّد أنّ الأمر اليوم بات رهن قرار وقف الحرب على غزّة. هذا ما أعلنه حزب الله مراراً وكشف أمينه العام السيد حسن نصرالله أنه أبلغ جميع الموفدين الدوليين به. الحزب الذي اتخذ قرار مشاغلة الجيش الإسرائيلي عند الحدود للتخفيف عن غزة، كان قد التزم معادلة توازن الردع وتحييد المدنيين وعدم توسعة منطقة العمليات، يجد نفسه، اليوم، وقد خرقت إسرائيل هذا التوازن، بحاجة إلى إعادة التوازن والرد بالمثل. وها نحن، اليوم، بإزاء تطورات عسكرية متسارعة تسابق فرصة الحل أو قد تقضي عليها وتطيح كل ما كان الفرقاء يمنّون النفس به.
من لبنان إلى غزة مع اللاعبين أنفسهم بات واضحاً أنّ قرار وقف الحرب على غزة، إن اتّخذ، يمكن أن يشكّل فرصة حقيقية إذا ما صفيت النيّات. اشترطت المملكة العربية السعودية قبل القبول ببحث التطبيع مع إسرائيل وقف الحرب على غزة والاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967. وفي هذا الأمر ما يمكن البناء عليه واعتباره خطوة على طريق تطبيق مبادرة السلام التي أعلنت في قمة بيروت العربية للعام 2002. وعلى الضفة الأخرى، تقول إيران إنّها تدعم ما تريده المقاومة الفلسطينية وهو ما أكّده نصرالله بالأمس أيضاً. فرصة هي إذاً في حال اتّخاذ القرار بوقف التصعيد والسير بالعملية السلمية وفق حلّ الدولتين.
ولكنّ قرار الحرب، كما بات جلياً، ليس بيد الخارج والإقليم بل بيد الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو الذي يرى فيه فرصته الأخيرة للخروج من مآزقه التي تبدأ مع نهاية الحرب ولا تنتهي. ومن الواضح أن المجتمع الإسرائيلي لا يستطيع تقبّل أيّة تسوية بعدما جاهرت جميع أحزابه واطرافه بمواقف معادية للفلسطينيين تدعو إلى القضاء عليهم وطردهم خارج فلسطين. فمن البديهي أن كل تسوية ستعني عودة بعض الحقوق إلى أصحابها وتزايد الخوف من الخطر الديموغرافي مع تصدّع عقيدة الأمن والاستقرار وتراجع الإحساس القومي اليهودي بالانتماء إلى الأرض.
حال الإسرائيليين الرافضين للتسوية لا يمكن حتّى مقارنتها بغضب الشعب الفلسطيني حيال ما ارتُكب بحقّه من مجازر. تالياً، لا يمكن تصوير وقف لإطلاق النار أو استرجاع بعض الحقوق على أنّه انتصار ما دامت دماء من قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية لم تجفّ بعد، وما دام دخان الحرائق وغبار الدمار يحجبان كلّ المشهد. في فلسطين لا يمكن الرهان على فرص إن لم يصنعها قرار. ومن يملك قرار الحرب والسلم وحده يستطيع صناعة الفرص والبناء عليها.