عاجل اليوم التالي للحرب.. "حلف فِجَار" أم "حلف فضول"؟!
كتب كمال ميرزا -
بالتزامن مع "طوفان الأقصى"، وحرب الإبادة والتهجير التي تشنّها أميركا بالوكالة عبر الكيان الصهيوني وأعوانه على الشعب الفلسطيني، يجري خلال "الفضاء التواصلي" تداول تقارير، منها ما يُفترض أنّه تحليلات، ومنها ما يُفترض أنّه تسريبات، ومنها ما يُفترض أنّه "فتّاشات اختبار"، ومنها ما يُفترض أنّه "برمجة استباقية".. وذلك حول تصوّرات وترتيبات تُناقش هنا وهناك لما يُسمّى "اليوم التالي للحرب" في غزّة.
مشكلة هذه التقارير قبل الخوض في تفاصيلها أنّها تصوّر نجاح مساعي أميركا والكيان الصهيوني الإجرامية، وإعادة احتلال غزّة، وابتلاع الضفة، والقضاء على المقاومة، وتهجير الفلسطينيين، وإتمام "الترانسفير"، وإلغاء "حقّ العودة"، وتصفية القضية الفلسطينية نهائيا.. كلّ ذلك بمثابة القدر المقضيّ والأمر المحسوم وتحصيل الحاصل!
من بين ما يتم تداوله حاليا تجدّد الحديث عن إنشاء ما يسمّى "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي"، واختصاره (MESA)، وهو حلف أمني سياسي اقتصادي يضم الولايات المتحدة الأميركية ودول "مجلس التعاون الخليجي" والأردن ومصر، وقد تمّ كشف النقاب عن فكرة هذا الحلف لأول مرّة سنة 2017 ضمن "إعلان الرياض" أبّان زيارة الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب".
فكرة هذا الحلف أشبه بـ "حلف بغداد" جديد للأجيال التي تعرف "حلف بغداد"، ولكن هذه المرّة بقيادة أميركية وليس بريطانية، باعتبار أنّ أميركا هي القوّة الاستعمارية "المناوبة" حاليا في إطار المشروع الإمبريالي الصهيوني الغربي.
وحاليا تتمّ الإشارة إلى هذا الحلف باعتباره "ناتو عربي"، وذلك على غرار حلف شمال الأطلسي الأصلي North Atlantic Treaty Organisation، لذا فمن أجل "تعريبٍ" أفضل للاسم يُقترح استبدال كلمة Atlantic بـ Arabia، وكلمة Treaty بـ Coalation، ليصبح الاسم North Arabia Coalition Organization، أو اختصارا (NACO)!
بعيدا عن الاسم، فإنّ التعاون العسكري والأمني، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والدفاع المشترك.. جميعها مكونات أساسية في صميم هذا الحلف المُزمَع والغاية من إنشائه.
ومن أجل إرساء الأمن والسلام، وخلق بيئة للازدهار والرخاء الاقتصادي (الذي يُفضي دائما إلى نهب ثروات العرب عبر وكلاء محليين ونخب محلية طفيلية)، وتنفيذ وتأمين مشاريع ما يسمّى "السلام الاقتصادي" (بقيادة إسرائيل)، فإنّ العنوان الأساسي المرفوع لهذا الحلف أمام العرب هو "الحماية"، وذلك من خلال تفعيل "التشغيل البيني" للأنظمة الدفاعية بين الدول الأعضاء.
وطبعا عندما يُقال "الحماية" فإنّ الحديث يدور عن الحماية ضد إيران، ومجمل "تيار الممانعة"، وروسيا والصين، وأي حضور لأي نفوذ أو قوى إقليمية أو دولية أخرى في المنطقة عدا النفوذ الأميركي الصهيوني.
وكعادة كلّ ما هو "أميركي"، عندما يحاول المرء البحث وقراءة المزيد من التفاصيل حول ما يتم تداوله بخصوص هذا الحلف، لا يملك سوى الإحساس بنفس شعور الضيق والاشمئزاز، ويكاد يترحّم على أيام المستعمرين القدامى الراكزين الرصينين!
فدائما الحلول الأمريكية هي حلول صعبة، متكلّفة ومُكلِفة، غرائبية، غير واقعية، مختلّة، شاذّة، صعبة الاستدامة، غير متّزنة وغير قابلة للتوازن وكأنّها تتعمّد إدامة التوتر والقلق والفوضى.. وتتعامل مع الحياة والعالم وكأنّهما "فيلم هوليوودي" طويل متعدد الأجزاء.
كما أنّ الجنس (أحدهم يغوي الآخر)، والعنف (أحدهم يبطش بالآخر)، والمطاردة (أحدهم ينال من الآخر).. هي جزء أصيل من منطق وعقلية ومخيال هذه الحلول.
والأهم، أنّ هذه الحلول دائما عنجهية، عنصرية، فوقية، تستدعي أن يكون هناك "متبوع" يستبيح "تابعا"، و"مُنتصر" يستحوذ على كلّ شيء على حساب "مهزوم" يتنازل عن كلّ شيء، و"جشع" يأكل الأخضر واليابس على حساب "جائع" لا يجد الفتات.
وهي تتعامل مع أي منطقة في العالم خارج الفضاء الغربي باعتبارها بريّة مقفرة، وأرضا يبابا خاوية على عروشها تخلو من بشر حقيقيين أو أي تراكم تاريخي وثقافي واجتماعي حقيقي، وتنتظر بلهفة "السيد الأبيض" ليفرض وصايته عليها ويبذر نُطف حضارته المتفوقة فيها.
بكلمات أخرى، عقلية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" هي عقلية (الكاوبوي) الأميركي، وهي عقلية "الحُجّاج" الأوائل الميمّمين غربا لـ "فتح" أراضي الهندي الأحمر (أو الهمجيّ النبيل، وفي هذه الحالة الأعرابي النبيل)، وهي عقلية "الآباء المؤسّسين" الذين استعبدوا الناس باسم كونفدرالية توسّعية "من الناس وبالناس وللناس".. وذلك قبل أن تكون عقلية "الكيان الصهيوني" المحتل.
وهنا بشكل خاص تكمن نقطة ضعف "الأسطورة الأميركية" بأبطالها، و"اللاهوت الأميركي" بسدنة معابده وهياكله وبنوكه وشركاته ودولاراته ولقاحاته: الاستخفاف بالبشر وكأنّهم حشرات أو هوام، وهو الاستخفاف الذي ينقلب "عامص" على أصحابه كلّ مرّة على طريقة الحكمة الشعبية البليغة: "الحجر إلّي ما بعجبك بفجّك"، ولعلّ هذا من أهم اسباب ردّ الفعل الجنوني الذي وصل حدّ السعار إزاء (7) أكتوبر نتيجة الصفعة المدوّية التي حطّمت كبريائهم وأنزلتهم من عليائهم على يدّ أهالي غزّة ومقاومتها البطلة (أو الحيوانات البشرية والإرهابيين حسب تعبيرهم).
المشكلة أنّه بعد حوالي (140) يوما من "طوفان الأقصى"، والصمود والبطولات الحقيقية التي فاقت أفلام هوليوود وحدود الخيال.. ما يزال هناك أناس يتعاملون مع أميركا باعتبارها ربّا أعلى، ومن جملة ذلك الأحاديث والنقاشات حول موضوع "الناتو العربي" أو أي اسم آخر سيُعتمد لهذا المسخ الهجين!
وفي مثل هذه السياقات غالبا ما يدخل مصطلح "نظرية المؤامرة" على خط النقاش، وهو المصطلح المُغرِض بدوره باعتبار أنّ المؤامرة هي حقيقة واقعة وليست مجرد نظرية.
ولكن "المؤامرة" لا تعني أن أميركا والكيان الصهيوني والغرب هم أرباب مطلقو الإرادة يعيدون خلق وتكوين وترتيب العالم وفق مشيئتهم، وهي الصورة التي يُفضّل الكثيرون التشبث بها لتبرير جبنهم ورضوخهم وانسحاقهم.. بل هم مجرد بشر أتقنوا تحييد إنسانيتهم وضمائرهم ومشاعرهم، يتأمّلون الواقع الموضوعي بعين محايدة ورأس باردة، ويحاولون تفكيك بُنيته، والتعرّف على عناصره وأبعاده، وفهم عملياته وآلياته ودينامياته الداخلية، ومن ثم التدخّل من أجل تجيير ذلك كلّه لحساب هوسهم بالسلطة والتحكّم وتأليه الذات، ولحساب منافعهم ومصالحهم وملذّاتهم المادية التي لايؤمنون بغيرها، وفي نفس الوقت الإضرار بمصالح الأعداء والخصوم والمنافسين وتقويض سلطتهم واستقرارهم.
ولكن كما يُقال: أميركا تريد، والكيان الصهيوني يريد، والغرب يريد، والأنظمة العربية المتلهّفة للدخول في الحلف الأميركي تريد.. والله الغالب على أمره يفعل ما يريد!
المهم أن نريد نحن، وأن نسعى لما نريده، هذا هو "الشرط الإلهي"، أو "الشرط الترانسدنتالي" إذا كنتَ عقلانيا متنطّعا لا تؤمن بالغيب والتجاوز، وهذا ببساطة ما فعله الفلسطينيون وأهل غزّة والمقاومة، وهذا درس آخر من دروس "طوفان الأقصى" التي يصرّ الكثيرون على تجاهلها وإشاحة أنظارهم عنها.
والمفارقة العجيبة أنّ العرب لديهم استعداد وفسحة للتصالح مع الصهيونية نفسها، والتحالف معها، والتوصّل إلى أرضية مشتركة تجمعهم بها ولو على حساب تزييف التاريخ وتحريف الأعراق والأنساب والأديان، ولكن ليس لديهم نفس الفسحة والاستعداد للتصالح مع بعضهم البعض، أو مع إخوانهم في الدين، أو إخوانهم في "الاستشراق"، أو إخوانهم في الاستعمار والهيمنة والتبعيّة!
الأحلاف هي صيغة عربية قديمة حتى في "الجاهلية" قبل الإسلام، ولكن هناك فرق كبير بين أن يكون الحلف "حلفَ فِجَار" أو أن يكون "حلفَ فضول"!