حديث مستفيض في كلام عابر نسب لوزير التربية والتعليم!
كتب د. عبدالحكيم الحسبان -
قبل أيام نسبت تصريحات إلى وزير التربية والتعليم ووزير التعليم العالي والبحث العلمي د. عزمي محافظة وردت ضمن سياق محاضرة ألقاها في حضرة تجمع نظمته جمعية الشؤون الدولية. وفي المحاضرة التي القاها معاليه وقامت بعض المواقع الاخبارية بتداول مقاطع منتقاة منها، كان ثمة تسليط للضوء على بعض العبارات وردت على لسان معاليه. اعترف انني تمنيت لو اتيحت لي قراءة النص الكامل لهذه المحاضرة، لان امتلاك النص الكامل لها سيحدد فيما اذا كان ما نسب لمعاليه من كلام حول قضايا هي في العمق خطيرة ووجودية، كان من باب المرور العابر عليها، أم أن التغطية الصحفية أوحت وكأن تعرض معالي الوزير لها كان عابرا. فما ورد على لسان الوزير وكانه جمل عابرة وسريعة حول قضايا يعاني منها التعليم والعملية التعليمية والتعلمية في الاردن، هي قضايا مفتاحية ومركزية ولا يمكن المرور عليها سريعا ببعض الجمل أو الانشاءات اللغوية القصيرة، فهي تستحق أن تكون في قلب الخطاب التربوي بل وفي قلب خطاب الدولة وعقلها.
ففي حديث معاليه كانت هناك اشارات الى بعض المفارقات أو الاختلالات التي تواجه قطاع التعليم في الاردن من قبيل وصول بعض الطلبة الى الصف العاشر دون امتلاك القدرة على القراءة والكتابة. كما كانت اشارات إلى بعض المشاكل المالية التي تواجه الجامعات. وكان من ضمن ما ورد في تصريحات معاليه إشارة إلى وجود بعض الطلبة في مجتمعنا ممن لا يتحدثون العربية مطلقا بل باتوا يتحدثون بالانجليزية، ما جعل معالية يستنتج بأن هذا الحال يذهب بنا إلى ما هو أخطر من الطبقية وهو التغريب. وعن التعليم العالي ومديونية الجامعات قال معاليه أن 60 بالمئة من المديونية الكلية للجامعات تتمركز في جامعتين هما جامعة اليرموك وجامعة مؤتة.
سوف استهل مقالتي معترفا بأن عبارتين وردتا على لسان معاليه قد استفزتا رغبتي في الكتابة والتي تعاني منذ بعض الوقت من نزعة وجنوج نحو الكمون والهدوء. إحدى العبارتين التي وردت على لسان معاليه تتعلق بجامعة اليرموك وقضية المديونية الكبيرة التي باتت اسما أو وسما خاصا بجامعة اليرموك.
وأما العبارة الثانية فكانت تتعلق بحديث معاليه عن التعليم الذي بات يذهب بنا ليس نحو الطبقية بل نحو التغريب بسبب الابتعاد عن اللغة العربية. فكتابة مقالة عن المصير الحزين الذي تعيشه جامعة اليرموك يحيلني إلى الشأن العام الخاص بالنظر إلى ارتباطي الطويل بهذه الجامعة في شمال البلاد، وأما الكتابة عن المشكل اللغوي وعن الواقع اللغوي الذي يعيشه التعليم في الاردن فهو يحيلنا إلى الشأن العام جدا. وعليه فقد قررت أن اكتب مقالتي الاولى مفككا ومحللا لحديث معاليه عن واقع لغة الضاد ولغة القرأن داخل المنظومة التعليمية في الاردن، وأن تكون مقالتي الثانية خلال أيام حول حديث معاليه عن مديونية جامعة اليرموك.
بداية اسجل الشكر لمعالي الوزير الذي اثار ملاحظات تتعلق بالعملية التربوية والتعليمية في البلاد من خلال الاشارة للعنصر اللغوي وواقع اللغة العربية داخل هذه المنظومة التعليمية والتعلمية، وهو كلام لم يسبق لنا أن سمعناه ممن يتولون قضايا التعليم المدرسي والجامعي، فالقضية اللغوية هي في موقع الهامش داخل النقاشات التي تخوضها النخب الاكاديمية والسياسية في هذه البلاد. واسجل هنا مفارقة هي حتما في صالح معاليه وهي أن الاشارة إلى المشكل اللغوي في البلاد، يصدر عن رجل ليس من المتخصصين في علوم الانسان، واللغة، والاجتماع، والثقافة، بل يأتي الكلام من رجل ينتمي لحقل العلوم الطبية أو الطبيعية وحيث اعتادت النخب القادمة من هذه التخصصات أن تتجاهل حد الاحتقار كل ما ينتمي للعامل الانساني او الاجتماعي او الثقافي أثناء حديثها وتخطيطها ووضعها لسياسات التعليم والتعليم العالي. ففي الخطاب السائد لهذا النخب، فان التعليم العالي كما عملية التعليم والتعلم، هو مجموع لعمليات تقنية معرفية ادارية محضة يغيب الانسان والثقافة والمجتمع والتاريخ عنها.
وفي تناول كلام الوزير العابر أو الذي تمت تغطيته اعلاميا كي يبدو عابرا، اسجل ايضا احترامي الكبير لاستاذنا الكبير المبدع ذوقان عبيدات الذي لم يسمح لكلام معالي الوزير أن يكون عابرا وأن يدعه يمر سريعا كمرور الكرام، بل قام بكتابة مقالة عميقة حول تصريح الوزير عن هذه الغربة اللغوية التي باتت منظومتنا التعليمية والتعلمية تعيشها.
في تطوير كلام الوزير الذي بدا عابرا حول أزمة اللغة العربية داخل النظام التربوي الاردني، سوف أثير العديد من القضايا النظرية والمفاهيمية التي تبين ماهية اللغة، وتعريفها، وما هو الدور الكبير والمحوري والمفتاحي الذي تلعبه في الظاهرة الانسانية العامة اجتماعيا ومعرفيا واقتصاديا وسياسيا ودينيا. بحيث يتم تجاوز النظرة التقليدية التي تختزل اللغة باعتبارها مجرد منتج تعبيري صادر عن ذات فردية او جمعية، او باعتبارها في احسن الاحوال مجرد اداة، أو وسيلة للاتصال والتواصل بين الفرد والجماعة أو بين الجماعة والجماعات الأخرى.
في تعريف اللغة قدمت الانثربولوجيا محتوى يتجاوز كثيرا التعريفات السائدة منذ الاف السنين. ففي كثير من الدراسات الانثربولوجية تم تبيان العلاقة القوية بين اللغة وبين عمليات التفكير بحيث لم تعد اللغة محرد وعاء او أداة لاحقة لفعل التفكير، بمعنى أن الانسان يفكر ويعقلن الظواهر ثم يقوم بترجمتها وتحويلها إلى محتوى لغوي، بل صارت اللغة كما يقول الخطاب الانثربولوجي هي المحرك للفكر والتفكير؛ فنحن نفكر من خلال اللغة، ونحن نفكر ونحلل ونعقلن الظواهر بحثا وتفسيرا من حيث التشخيص والتعريف والمقارنة وتحليل الاسباب من خلال اللغة. وعليه، فان اللغة ليس اداة للاتصال فقط بل هي موتورا أو محركا للتفكير، وبالقدر الذي تمتلك فيه مستوى لغويا قويا، فان مقدرتنا على فعل التفكير والتحليل والاستقراء تكون اكثر قوة. وعليه، فانه لا يمكن تخيل اي قدرات للانسان على التفكير وعلى فعل التفكير والعقلنة دون أن يتمكن من اللغة، فاللغة هي ما يمكننا من التفكير، واما فعل التفكير والتفكر والعقلنة فهو غير سابق للغة لانه غير منفصل عنها، ولانه لا يتم الا من خلالها.
لم تكن من باب المفارقة أو المصادفة هذه القرابة بين لفظة لوغوس الاغريقية ولفظة لوجي باللغة الانجليزية ولفظة لغة باللغة العربية. فالثلاث كلمات تعني وتشير للغة ولكنها تشير أيضا للمنطق. وهي بهذا المعنى تشير لعلاقة التكامل والتطابق والتماهي بين الظاهرة اللغوية وفعل التفكير والقدرة على صناعة المنطق. فالمنطق هو اللغة بنفس القدر الذي تكون فيه اللغة هي المنطق. وهذا الخلط بين المنطق واللغة لم يكن من باب التخبط أو الجهل والغباء بل يعكس مستوى العلاقة العضوية بين اللغة والتفكير وصناعة المنطق. والاسنتناج المنطقي هنا، هو أنه بالقدر الذي نكتسب فيه اللغة، وبالقدر الذي نتمكن فيه من اللغة بمفرداتها، وتعبيراتها وقواعدها، ومعاني مفرداتها، وتطور اشتقاق هذه المفردات، بالقدر الذي نتمكن فيه من التفكير وممارسة فعل التفكير تأملا، وتحليلا، واستقراءا، واستنباطا، ومقارنة، وتفسيرا..الخ.
وعلى مستوى الدراسات التطبيقية، فقد بينت بعض الدراسات التي اجريت على أبناء المهاجرين الهسبانك في الولايات المتحدة ممن تكون الاسبانية لغتهم الاصلية، أن التلاميذ القادمين من عائلات المهاجرين ممن كانوا متمكنين جيدا من لغتهم الام، كان متسوى تحصيلهم العلمي والمعرفي افضل كثيرا من نظرائهم من نفس العائلات ممن كان مستواهم في اللغة الاسبانية ضعيفا. فالقدرات اللغوية كانت تنعكس مباشرة في عمليات الاكتساب المعرفي. فلا تفكير أو اكتساب لمعرفة بدون اللغة. القانون هنا، هو انه وبالقدر الذي تزداد فيه قدراتك اللغوية تتحسن قدرتك على التفكير وبالتالي على اكتساب المعرفة والتحصيل العلمي.
وأما السطوة التي تمارسها اللغة ودورها اللامحدود الذي تعجز نخبنا عن ادراكه، فقد تجلى كثيرا في بعض الشعارات التي رفعت في احداث الثورة الطلابية التي شهدها الحي الللاتيني وحيث جامعة السوربون العريقة ، حين رفع طلابها شعارا يدعو لتحرير الانسان من سطوة اللغة وبناها التي تشكل كل مفاهيمنا، وطرائق تفكيرنا وتجعلنا حبيسي الانساق الاجتماعية بكل مظاهر الطبقية والعبودية والهرمية فيها. ففي مظاهرات الطلاب كان هناك من يردد ويرفع لافتات كتب عليها، فلتسقط البنيوية. في اشارة الى النظرية البنيوية اللغوية التي سادت على المسرح الاكاديمي والعلمي في فرنسا واوروبا في خمسينات وستينات القرن المنصرم. فاللغة تستحيل إلى بنية معرفية، واخلاقية، وقيمية جمعية تمارس الفرض والقهروالقسر على الفرد فتضعه في سجن الجماعة، فتخنقه، فكانت الصرخة ضد اللغة التي تسجننا وتحبسنا التي صدرت عن احد المثقفين الفرنسيين " سوف أبقى اقول الكلمات حتى تقولني". فاللغة التي نقولها، هي تقول بالضبط ما تريده الجماعة والمجتمع والثقافة منا، ولا تقول اللغة ما يريد أن يقوله الفرد منا.
وفي الاشارة أيضا، للدور الذي تلعبه اللغة، لا بد من التوقف عند ما يورده المثقف الامريكي الفلسطيني الاصل ادوارد سعيد على سبيل الاستعارة من الفيلسوف الالماني نيتشه الذي يرى أن اللغة ليست مجرد حشد للمفردات والاحرف والكلمات والجمل والاستعارات، بل هي جيش حقيقي وفيالق من المقاتلين واطقم كاملة من المدافع والدبابات والقذائف التي تصنع واقعا وتلغي واقعا قديما.
اشارة معالي الوزير إلى شكوى بعض معارفه من أن احفادهم باتوا يتحدثون بالانجليزية ويعجزون عن الحديث بالعربية، تذهب بمعالي الوزير ليستنتج أنه المحصلة لهذا الوضع هي نشوء طبقية وحالة اغتراب لدى الاجيال التي لا تتقن العربية، وهو بالتاكيد استنتاج صحيح، ولكن التشخيص العميق يبين أن الازمة لن تقتصر على الاغتراب وعلى موضوعة الهوية والانتماء السليم لهذه الهوية، بل ان الازمة تتجاوز موضوع الهوية والانتماء الوطني على اهميته، ليتعداها إلى أزمة على مستوى عمليات التفكير وقدرات التفكير وانتاج المعرفة، وهي جلية وواضحة في واقعنا الاردني. أجزم أن ازمة التنمية الاقتصادية الاجتماعية في هذه البلاد هي في العمق أزمة لغوية أيضا.
المشكل اللغوي الذي أشار اليه معالي الوزير يحيلنا أيضا إلى مفاهيم العولمة والكونية التي يختبئ وراءها بعض من كان السبب في هذا الازمة اللغوية التي تنعكس عضويا في أزمتنا التعليمية والمعرفية وفي أزمة التخلف المعرفي والاقتصادي والاجتماعي الذي نعيشه. فالبعض منا، بات يرى في حديث شطر معتبر من الجيل الشاب باللغة الانجليزية عنصر حداثة لانه يدلل على مستوى العولمة والكونية والخروج من المحلية التي بدأت تتجه اليها الاجيال الشابة. المقاربة هنا، هي سطحية وقاصرة بالتأكيد. وهي تعجز عن تعريف الكونية والعولمة.
فالكونية لا تعني مطلقا أن تلغي المحلي لتحل محله العالمي أو الاجنبي كما يحصل حينما نستبدل الانجليزية بالعربية، بل الكونية تعني أن تكون متجذرا ومتعمقا في المحلية وبما يغني ويثري ثقافتك المحلية وبما يزيد من قيمة محليتك ويثريها، ويجعلها ذات قيمة لدى الشعوب والثقافات الاخرى، وبحيث يصبح ما ينتمي لثقافتك واللغة الخاصة بك والتي تختلف عن اللغات والثقافات الاخرى ما هم قيم وجذاب وذات فائدة في أعين المنتمين للثقافات الاخرى، فيضيفون عناصر من لغتك وثقافتك الى تراثهم الكوني الانساني. الكونية تعني أن تمعن في المحلية، وان تعلي من شأن المحلية كي تثريها وكي تجعلها تراثا انسانيا مشتركا تأخذه الثقافات الاخرى، كما اخذنا عن الثقافات الاخرى مفاهيم لها كانت محلية، ولانها قيمة محليا، صارت ذات قيمة كونية انسانية.
الكونية لا تعني مطلقا أن تلغي المحلي والخصوصي والخاص بك كي تحل مكانه ما ينتمي للاخرين، بل يعني أن تتشارك ما لديك وقد تعمقت به وأكسبته قيمة في نفسك، وخلقت فيه معنى وقيمة كبيرة تجذب الشعوب والثقافات الاخرى كي تمسي راغبة في تشاركه معك، حينها تصبح ثقافتك أو لغتك أو أجزاء منها تنتمي لك، ويتشاركها اخرون من ثقافات اخرى معك. فما اشار اليه معالي الوزير من عدم تمكن شرائح واسعة من الجيل الجديد الاردني من اللغة العربية وتواصلهم بغير اللغة العربية، لا يضغ امام اعيينا مطلقا نماذج لللكونية كما يتوهم البعض، بل يجعلنا امام كائنات مسخ بالمعنى الثقافي والانساني والعلمي والتاريخي.
وفي الحديث عن اللغة، وسطوتها ودورها، لا اجانب الصواب مطلقا اذا قلت أن ثمة علاقة توأمة بين ما نشهده من عنصرية وطائفية ومن هيمنة الهويات الفرعية المتصارعة والقاتلة وبين هذا الضياع اللغوي. فمن يتعمق في اللغة العربية ويتمكن كثيرا من ناصيتها سيجد نفسه أمام منظومة لغوية واحدة تشكلت بجهد عبقري من قبل المسيحي ومن قبل المسلم، الذي كانوا دوما شركاء في الارض، والتاريخ، والثقافة كما اللغة، بحيث يستحيل معها فصل الحالة المسيحية عن الاسلامية. فالتطور التاريخي للغة العربية التي باتت لغة القرأن كان للمسيحي وللغة المسيح اي الارامية تأثير كبير فيها بحيث لا يمكن الفصل ما بين اللغة العربية والارامية والسريانية باعتبارها لغات تنتمي لنفس العائلة اللغوية. والحال، انه وبالقدر الذي ننتج أنفسنا ككائنات لغوية وثقافية باللغة العربية فاننا نعيد انتاج نفس التراث والهوية العربية الاسلامية المسيحية الجامعة، والعكس أيضا هو الصحيح بحيث أن ابتعادنا عن اللغة العربية وجهلنا الكبير باللغة، وحولها، جعلنا ننتج هويات مختلقة ومتضادة ومتصارعة في بعض الاحيان.
الاغتراب عن اللغة ساهم كثيرا في خلق وهم بهويات اسلامية مسيحية متضادة، وزاد الطين بلة حين رافق عدم الامساك بناصية اللغة العربية لجوء بعض الشرائح للغات غربية كالانجليزية او الفرنسية مع تمثله هذه اللغات في المخيلة الجمعية العربية من رمزية سلبية التي ترى في البريطاني والفرنسي عدوا مستعمرا متسلطا ومتجبرا.