عن وائل الدحدوح وفايز الدويري ونزع الكاريزما.. الحلول الامنية تعبير عن ضعف الدول وافلاس قياداتها واجهزتها


كتب كمال ميرزا - 

التمتع بقوة الشخصية والحضور والقدرة على التأثير هي من المقوّمات الرئيسية للشخصية "الكارزمية"، خاصة في حالة الزعماء وقادة الدول.

لو تأمّلنا خارطة العالم خلال العشرين سنة الماضية، وتحديدا الدول التي تنضوي تحت مشروع "النظام العالمي" الذي تتزعّمه الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لوجدنا أنّ هذه الدول قد شهدت عملية حثيثة لما يُسمّى نزع الكاريزما (de-charismatisation) عن المناصب القيادية والرموز الوطنية.

يكفينا أن نستعرض قائمة الأسماء التي صعدت لسدّة الحكم خلال هذه الفترة، سواء في الدول الكبرى المركزيّة ضمن مشروع النظام العالمي، أو الدول التابعة والخاضعة لها، لنجد أنفسنا إزاء شخصيات هزيلة ركيكة تفتقر للحدّ الأدنى المطلوب من الهيبة والوقار وسطوة الحضور والقدرة على التأثير في الجماهير.

لو أتينا باسم أي زعيم أو قائد، وعدنا إلى الوراء جيلا أو جيلين أو ثلاثة، سنجد أنفسنا أمام "ولدنة" و"مهرّجين" قياسا بمَن سبقهم، وأمام منحنى يتجه نحو المزيد من "الولدنة" و"التهريج" في المستقبل!

في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال بدأ هذا المنحنى بعد انتهاء ولاية "جورج بوش" الأب، فصحيح أنّ خليفته "بل كلينتون" كان يتمتع بجاذبية بالمعنى الهوليوودي والنسائي لكلمة جاذبية، وهذه الجاذبية كانت تشفع له، وطبعا مهارته في الكذب، لكن هذا كلّه ليس كاريزما.

وبقدوم "جورج بوش" الابن أصبحت المسألة "على عينك يا تاجر"!

حتى "أوباما" الذي يبدو متّزنا ورصينا إذا ما قورن بـ "ترامب" الأهوج و"بايدن" الخَرِف، هو أيضا ليس شخصية كارزمية برغم هالة المثقف صاحب الرؤية التي حاول أن يظهر بها.

في بريطانيا، بلد "وينستون تشرتشيل" و"مارجريت تاتشر"، يكفينا أن نقول أنّ "سوناك" هو رئيس الوزراء الحالي، و"بوريس جونسون" قد سبق له شغل هذا المنصب، وتاجر الشنطة "توني بلير" ليس أحسن حالا منهما بكثير، ولن نتطرق لحال العائلة المالكة بعد رحيل "الملكة إليزابيث" احتراما لتاريخ بريطانيا العظمى!

في فرنسا لدينا "ساركوزي" و"ماكرون" في مقابل "جاك شيراك" و"فرانسوا ميتران"، ولن نعود بمقارتنا إلى أيام "شارل ديغول".

وفي ألمانيا لا داعي لأن نذهب بعيدا، يكفي أن نقارن المستشار الألماني الحالي "أولاف شولتس" بسابقته "انغيلا ميريكل" آخر "رجال" الاتحاد الأوروبي الحديديين!

وعلى هذا المنوال قِس بقية الدول!

وما يحدث على مستوى المنظومة ككلّ يحدث على مستوى كلّ بلد منفردا، حيث أصبح هرم القيادة من "راسه لساسه" يزخر بولدنة ومهرّجين وأشخاص عديمي الكفاءة والشخصية (وأحيانا شواذ)، لم يكن واحدهم يحلم أو حتى يجرؤ أن يحلم قبل عشرين سنة بأنّ يمرّ قرب المبنى الذي يحتضن الآن مكتبه الفاخر ومسمّاه الوظيفي الباذخ.

الأمر لا يقتصر على المناصب السياسية وجهاز الدولة الرسمي بشقّيه المدني والعسكري، بل يتعدّاه ليشمل جميع السلطات وكافة القطاعات وسائر المجالات بما في ذلك الإعلام والأكاديميا والفكر والثقافة والأدب والفنون.

انظر مَن هم رموز و"مؤثّري" كلّ مجال من هذه المجالات حاليا على المستوى العالمي والإقليمي والوطني!

وفي ضوء مثل هذا الواقع أصبح معيار الكفاءة والجدارة الأول أن تكون قزما وتافها، وباللهجة العاميّة "دندول"، وبحيث يبدو القزم والتافه والدندول الذي يرأسك ويعلوك في المنصب عملاقا وعظيما وذا شأنٍ إذا ما قورن بك.. وهكذا دواليك!

بكلمات أخرى، لم يعد هناك مجال لشخصيات كاريزمية ورموز وطنية حقيقية، بل إنّ المنظومة نفسها قد باتت تعمل بطريقة ترفض وتلفظ وتنبذ بشكل تلقائي مُمَأسس ومُمَنهج أي حالة كاريزمية أو وطنية وتجهضها في مهدها.

وفي المقابل، أصبح كلّ تافه وسخيف وفارغ ومحدود يتوسّم في نفسه الأهلية والكفاءة والكفاية لأن يتقلّد المناصب ويتقدّم الصفوف ويصبح رمزا ومؤثّرا في مجتمعه.

المسألة هنا أعمق مما يحلو للبعض تسميته بـ "نظام التفاهة"، فظاهرة "نزع الكاريزما" ترتبط بالتحوّلات الجذريّة التي يشهدها النظام الرأسمالي العالمي في طوره الحالي، ومساعي تفكيك "دولة السيادة" كما نعرفها، وإعادة تعريفها وتعريف دورها ووظيفتها وصلاحيّاتها ونفوذها لصالح "حكم الشركات".

نزع الكاريزما ونزع هيبة الدولة والحُكْم هما مظهران مقترنان يسيران جنبا إلى جنب وينبعان من مصدر واحد وسياسة واحدة.

وطبعا هيبة الحُكْم هي شيء آخر غير التعويل على العسف والقمع والحلول الأمنيّة، فالحلول الأمنيّة هي مظهر من مظاهر ضعف الدول واستفلاس قياداتها وأجهزتها وليس العكس.

وعلى الطرف المقابل، نلاحظ في البلدان التي تسبح خارج فلك النظام العالمي الأنجلو-سكسوني/ الصهيو-أميركي وتقاومه، أي الدول التي ما تزال تتبنى نموذج "الدولة القومية" القوية، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وإيران.. نلاحظ أنّ "الكاريزما" ما تزال مقوّما أساسيّا من مقوّمات القائد والمسؤول.

ولكن ما علاقة كلّ هذا الكلام بالمحلل العسكري اللواء المتقاعد "فايز الدويري" والإعلامي القدير "وائل الدحدوح"؟

لقد استطاع "الدويري" و"الدحدوح" في زمن قياسي أن يتحوّلا إلى "رمزين" تتعلق بهما قلوب الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، ليس فقط بسبب اقتدارهما، وليس فقط بسبب احترافيّتهما، بل بسبب وقع حضورهما على "عفوية" الأول و"هدوء" الثاني، والأهم، بسبب مواقفهما التي تتناسب مع ما هو متوقّع من شخصيتان باتتا تحملان قيمة رمزية.

وإذا كان التخلّص من أمثال "الدويري" و"الدحدوح" هو هدف عملياتيّ بالنسبة للكيان الصهيوني يأتي في سياق "الحرب النفسية" و"الدعائية"، وقد سبق للكيان أنّ حاول بالفعل استهداف "الدحدوح" وتصفيته غير مرّة.. فإنّ تهميشهما، وإبعادهما عن الأضواء، طَوْعا أو كَرْها، هي مسألة وقت، وأولوية مُلحّة إن عاجلا أو آجلا بالنسبة للأنظمة العربية وأجهزتها كلٌّ حسب اختصاصه وخلفيته ومرجعيّته، بكون حضور الاثنين ومواقفهما تكشف وتفضح ضآلة و"قزميّة" القيادات والرموز المُكرّسة الحالية وتهافت مواقفها!

ألف سلامة للدويري والدحدوح، و"إن شاء الله إللي بكرهوهم" على حدّ قول التعبير الشعبي، ونتمنى ألاّ يُطيلا الغيبة علينا، وألاّ تكون ظروفهما الصحية حجّة وذريعة لإقصائهما عن الشاشة ومواقع التواصل والجمهور نهائيا أو حتى إشعار آخر!