عاجل في يوم الأرض: فلنصمت.. ولندع الأرض تتكلم!


كتب كمال ميرزا  - اليوم هو يوم الأرض، وهو يصادف هذه السنة خروج الأردنيين المبارك في جميع محافظات ومناطق المملكة نُصرةً لغزّة، وحصاراً لأي تمثيل للكيان الصهيوني الغاصب وحلفائه وأعوانه على ثرى الأردن الطاهر أرض الحشد والرباط.  خروج الأردنين، من كلا الجنسين، ومن سائر الأعمار، ومن مختلف الخلفيات.. هو في حدّ ذاته نُصرة، وهو رسالةٌ بليغةٌ تصل إلى أهلنا في غزّة ومقاومتهم البطلة وإلى العدو وأعوانه في آن واحد.. أكثر من أيّ هتاف أو شعار مهما بدا هذا الهتاف لأصحابه وجيهاً أو ذكيّاً أو متذاكياً.  

هذه دعوة للقائمين على الحِراكات والمظاهرات المؤيدة لغزّة، أن يعلنوا مظاهراتهم في يوم الأرض بوجه خاص، وحتى في الأيام القادمة، وقفةً صامتةً دون هتافات، ولتمتدّ للوقت الذي اعتادتْ أن تمتده في الليالي السابقة. 

 مرّة أخرى، العبرة في الخروج والاحتشاد والوقوف نُصرةً لغزّة وتأييداً لها، والهتاف "نافلة" لن يضير تركها، بل ويصبح "كراهةً" من الأولى اجتنابها إن كان ضرّها أكبر من نفعها.  

طبعا يستطيع المحتشدون أن يزجوا وقتهم بتبادل الأحاديث، أو بالتسبيح وقراءة القرآن، أو بقيام الليل والتهجّد، أو بالتعارف وتمتين أواصر المعرفة والمودّة بينهم.. ولكن دون هتاف و"هتيّفة" وتسابق على اعتلاء الأكتاف واحتكار السمّاعات!  تبنّي أسلوب "الوقفة الصامتة"، خصوصا في يوم الأرض، وفي الظرف والسياق الحاليين.. ستترتب عليه العديد من الفوائد العظيمة:  

أولاً، سدّ الذرائع أمام أيّ مندسّين أو مُغرضين يريدون المُصادَرة على الغاية من الخروج والتظاهر، واستغلال الهتافات والشعارات لشقّ الصفوف وإثارة الفتن كي يفشل المحتشدون الذين لبّوا نداء غزّة وتذهب ريحهم. 

 ثانياً، سدّ الذرائع أمام كلّ مَن يحاول حَرْف التظاهر عن غاياته ومقاصده، وتجييره لتحقيق مكتسبات شخصية أو انتخابية أو حزبية أو فصائلية ضيقة، أو لتصفية حسابات عالقة أو "غباين" قديمة.

  ثالثاً، سدّ الذرائع أمام أيّ يافعين محدودي الخبرة والنضج قد يجرفهم الحماس، فيسيؤوا لأنفسهم وللآخرين، ويضرّون من حيث يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً.  

رابعاً، سدّ الذرائع أمام كلّ مَن يريد أن يحرف البوصلة ويشتّتها، ويُنسي الناس أنّ الأولوية هناك والمعركة هناك والإبادة والتهجير هناك في غّزة والضفة والأقصى، ويلهيهم من خلال افتعال معارك جانبية وعداوات وهمية ومُزاودات سمجة.  

خامساً، سدّ الذرائع أمام المتصيّدين في الماء العكر، ومنهم المتموّلون، ومنهم المتكسّبون، ومنهم الذين أُشربوا في قلوبهم العدو الصهيوني وأميركا ومن لفّ لفيفهما، وينتظرون أيّ هفوة أو زلّة بقصد أو غير قصد لكي يشيطنوا الحِراك والتظاهر، ويطعنوا بالقائمين عليه والمشاركين فيه، ويرفعون عقيرتهم التي سكتت عن الإبادة والجرائم مطالبين بفض المظاهرات بالقوّة، والضرب بيد من حديد، والتنكيل بمن تسوّل له نفسه الاستمرار أو معاودة الكرّة. 

 سادساً، سدّ الذرائع أمام المتصلّبين ومحدودي الأفق داخل دوائر صناعة القرار في الأردن الذين ينحازون دائماً لخيار العسف والتنكيل واستخدام القوة وإساءة توظيف منطوق النصوص القانونية.. وفي المقابل تقوية موقف العقلاء أصحاب الأفق الواسع والحِس العالي داخل دوائر صناعة القرار، والذين يرون في الحِراكات الشعبية والموقف الشعبي ورقةً رابحةً، ورافداً مهمّاً للموقف الرسمي يعكس مدى اللُحمة الوطنية وصلابة الجبهة الداخلية، ويقّوي موقف الأردن إزاء أيّ ضغوطات يمكن أن تُمارس عليه أو تُتخذ ذريعة للقبول بأيّ خيارات أو ترتيبات قد تحاول بعض القوى النافذة فرضها فرضاً إقليميّاً ودوليّاً.  

سابعاً، وهو الأهم، ضمان استمراية الحِراك الشعبي والحفاظ على زخمه، فالغالبية العظمى من الذين يخرجون هم يخرجون من أجل فلسطين والأقصى وغزّة والمقاومة، وليس لديهم حسابات شخصية أو أجندات سياسية.. وفي اللحظة التي يشعرون فيها أنّ الحِراك يخرج عن مراميه، ويتحوّل إلى مناورات ومهاترات، فإنّهم سينفضّون من حول هذا الحِراك، وسيُؤثرون المكوث في منازلهم، والاكتفاء بوِسْعِهِم الشخصي مقاطعةً و"إدراجاً" و"تشييراً" ودعاءً لا يحتاج إلى واسطة وليس بينه وبين الله حجاب. 

 قد لا تروق الدعوة إلى "الوقفة الصامتة" للكثيرين ويعتبرونها تنازلاً أو تقهقراً أو "بدعةً" أو "شيئاً فريّاً"، ولكن ألم يجعل الله الصمت "برهاناً" لسيدة نساء العالمين "مريم" في الموقف العصيب الذي وجدتْ نفسها فيه أمام قومها؟ وألم يجعله "آيةً" لسيدنا "زكريا" في البشرى التي بشّره بها؟  في المثل الشعبي نقول: "قلّة الرد رد"، وفي الظرف والسياق الحاليين فإنّ قلّة "الهتاف" هو هتاف!  ونقول أيضاً: "بدك عنب ولّا مقاتلة الناطور"؟! والذين يخرجون يخرجون لأنّهم يريدون العنب لفلسطين والأقصى والمقاومة.. وليس تلبيةً لنوازع الذين يعشقون مقاتلة الناطور! 

 كلنا سبق لنا أن ترنمنا بأغنية الراحل "سيد مكاوي" التي يقول فيها: "الأرض بتتكلم عربي قول الله.. إنّ الفجر لِمَن صلّاه".. وفي هذا المقام، وفي يوم الأرض، يكفي أبناء الأرض ومِلْحُها أن يحتشدوا معاً في صعيد واحد، مُخلصين النيّة مُحتسبين مُرابطين، وعندها ستتكلم الأرض وحدها بأفصح لسان، وستصدح بأبلغ لغة.. أبلغ من أي هتاف أو شعار قد يتفتق عنه ذهن فرد واحد، ويردّده الآلاف دون تمييز أو تمحيص أو رويّة.