عاجل عن سلام توهمناه خيارا استراتيجيا فاستحال مأزقا وجوديا
كتب د. عبدالحكيم الحسبان - قبل أيام مرر معالي الناطق باسم الحكومة الاردنية د. مهند مبيضين عبارة "السلام خيار استراتيجي" وهي عبارة قيلت في وجه رأي عام بات تتملكه خليط معقد ومركب من مشاعر الغضب، والاحتقان، والرفض تجاه ما يجري من وقائع في فلسطين وفي الاردن وفي الاقليم عموماـ وبات هذا الخليط من المشاعر الذي يتملك الجماهير يشرع الابواب على مسارات خطيرة في المنطقة كلها وفي الاردن تحديدا.
وأما عبارة معالي الوزير فقد باتت أشبه بلازمة لغوية وخطابية تتكرر منذ عقود على السنة صناع القرار في الدولة الاردنية. وهي سبق وأن قيلت عملا وممارسة وخطابة الاف أو ربما عشرات الاف المرات واعتاد الاردنيون على سماعها بعد أن تكررت كثيرا على مسامعهم، وساد اعتقاد أنها صارت مألوفة بل ومحببة إلى إذن من يسمعونها داخل الاردن وخارجه.
أجزم أن عبارة معالي الوزير عن السلام الذي اعتمدته الدولة الاردنية خيارا استراتيجيا لم يكن وقعها في هذه اللحظة الزمنية كما كان وقعها في النفس على مدى العقود السابقة، فعبارة معالي الوزير التي كانت في الظاهر عبارة مكرورة ومكررة، وترديدا لغويا لصياغات لغوية سابقة مماثلة وتعبيرا عن سياسات وممارسات وافعال على الارض مارستها الدولة الاردنية ونخبها في السياسة والافتصاد والاعلام بل والاجتماع صبت كلها في الانضواء في استراتيجية أن السلام هو خيارنا الاستراتيجي، فعبارته هذه لم تكن بنفس الوقع والتأثير في النفس كالذي كانت تحدثه في الاف المرات السابقة.
ففي التوقيت وفي مدى مطابقة تصريحات معاليه مع تفاصيل السياق الذي تعيشه المنطقة والاردن والعالم، فقد بدت عبارة معاليه عن السلام خيارنا الاستراتيجي أشبه بصياغة لعوية وموقف سياسي من خارج السياق تماما، وبدت غريبة عن اللحظة الزمنية التي قيلت فيها ولا تتطابق مطلقا مع مفردات ومتطلبات اللحظة الزمنية التي قيلت أو كررت فيها، وهي كانت تشبه اللحظة التي يقوم بها ربان سفينة غارقة صرخ كل من فيها من الناس وقد تقاذقت الامواج اجساد بعضهم طالبين العون والنجاة، فما كان من ربان السفينة الا أن قام بتشغيل مقطوعة موسيقية هادئة على مسامع الغرقى بدلا من تفعيل صفارات الانذار وتشغيل اجهزة طلب المساعدة والاستنفار.
افهم أن يخاطب معالي الوزير الرأي العام العالمي باللغة التي يحبها هذه الرأي العام العالمي والغربي منه تحديدا، والتي يقبع مفهوم السلام والعدالة موقع القلب فيه، ولكن وفي مقابل الخطاب السياسي السلمي الذي تتبناه الدولة في مخاطبة العالم، فان ثمة لغة أخرى وخيارات أخرى على الارض في الاقتصاد والسياسة والعسكر والامن والاستراتيجيا يجب أن تظهرها الدولة أمام رأيها العام الداخلي، بحيث لا يبدو السلام وكانه خيار وحيد، ما ينفي عنه صفة انه خيار، ليستحيل ضرورة مفروضة على من يؤمن بها، بل ومأزقا تم سجننا داخله لنموت انتحارا فيه، ولم نعد نملك خيار الخروج منه. فعلى طاولة الحديث مع بين غفير وسموتريتش ونتنياهو لن يكون لعبارة "السلام خيارنا الاستراتيجي" سوى معنى واحد في ذهن مجانين الحرب والدم هؤلاء، وهو معنى الاستسلام وضعف الخيارات وقلة الحيلة.
في السياق الذي قيلت فيه عبارة السلام خيارنا استراتيجي لاول مرة، كانت العبارة حينها متسقة- ولو نسبيا- مع السياق التاريخي. فاللحظة التاريخية التي استدعت ذهابنا إلى وادي عربة في تسعينيات القرن الماضي، كان الاردن يعيش لحظة تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء عصر القطبية الثنائية ليدخل العالم في عصر الاحادية القطبية التي انتجت لما يقرب العقدين من الزمن ما يشبه ال Paxa Americana ، بحيث بات ميزان القوة راجحا بشكل لا غبار عليه للقوة الامريكية الصاعدة والمنتصرة حينها، وهو ما ترجم في سيطرة امريكية مطلقة على قرارات مجلس الامن الذي كان تمكن الامريكيون من صياغة عشرات القرارات الاممية في مجلس الامن في ظل غياب كامل للفيتو الروسي والصيني وغيرهما.
وفي السياق التاريخي الذي قيلت فيه عبارة السلام خيارنا الاستراتيجي، كان المنطقة تعيش على وقع نتائج حرب الخليج الاولى مع مثلته من فقدان الاردن للعمق العراقي المساند، ومع انتجته من انقسامات داخل الجسم العربي على مستوى الدول كما على مستوى الشارع والنخب بين مؤيد للعراق واخر مساند للخليج. وداخليا، كان الوضع الاقتصادي والسياسي الاردني يعيش تداعيات خطيرة لانهيار سعر صرف الدينار الاردني، ونفاذ رصيده الوطني من العملات الصعبة، كما كان الاردن يعيش تجليات العلاقة المعقدة مع الفصائل الفلسطينية التي كانت تعيش تحت ضغط معركة اثبات المرجعية الشرعية والقانونية لمنظمة التحرير وحقها في تمثيل الشعب الفلسطيني.
واما اسرائيليا، فقد كانت عبارة السلام خيارنا الاستراتيجي التي قيلت ذات يوم من تسعينيات القرن الماضي تحمل بعض الصدقية وتلقى بعض القبول من قبل بعض الشارع وبعض النخب بسبب أن تركيبة الداخل الاسرائيلي لم تشبه مطلقا تركيبة هذا الداخل كما هي عليه اليوم. فحتى تسعيينات القرن الماضي كان المشهد السياسي الاسرائيلي هو مشهد تهيمن عليه الى حد كبير بقايا النخب العلمانية من ليبرالية ويسارية التي اسسست الكيان وكانت من خلفيات ثقافية اوروبية هي إلى حد كبير نتاج التاريخ الاوروبي مع ما يختزله من مفاهيم العلمنة والليبرالية والقومية. وعليه، فحين كان هناك في الاردن من يقول أن السلام خيارنا الاستراتيجي كان يجد من يردد على الاقل كلاميا وخطابيا في الجانب الاسرائيلي من يردد نفس العبارة ونفس اللازمة اللغوية.
بين اللحظة الزمنية الاولى التي شهدت المخاض الأول لعبارة "السلام خيارنا الاستراتيجي" والسياق الزمني الذي ردد معالي الوزير مبيضين ذات العبارة فقد جرت مياه كثيرة في النهر جعلت من تكرار نفس العبارة في سياقين مختلفين ينتجان نمطين متناقضين بل ومتضادين من المشاعر. فاطلاق العبارة في تسعينيات القرن الماضي خلق شعورا بالامل وإن كان متوهما في أن تبني السلام خيارا استراتيجيا سيعني شرق اوسط كبير ومستقر ومزدهر، كما سيعني على المستوى الاردني رفاها اقتصاديا، وخروجا من الازمات الاقتصادية الخانقة حينها، اضافة إلى انه سيعني دفنا للمشروع الصهيوني الذي بدا بعض اقطاب اليمين الصهيوني حينها يتحدثون به والذي يقول بالخيار الاردني، وبالوطن الاردني البديل لوطن الفلسطينين المسلوب الذي استحال إسرائيل.
وأما عبارة معالي الوزير التي أطلقها قبل أيام فقد جاءت في سياق راكم فيه الاقليم وتحديدا الاردنيون والفلسطينيون سلسلة طويلة من الخيبات من خيار السلام، كما راكموا جبالا من الغضب من ممارسة نخبهم السياسية رقصة تانغو السلام وهي رقصة تحتاج حتما إلى شريكين متناغمين يؤدون حركاتها، ولكنهم يرقصونها وحدهم دون الطرف الاسرائيلي ما يجعلهم امام حركات قبيحة وبشعة لا تنتمي مطلقا لرقصة التانغو الجميلة.
في توصيف مفردات السياق الذي قيلت فيه عبارة السلام خيارنا الاستراتيجي التي قالها معالي الوزير قبل أيام؛ فإن من المهم الحديث سياق اقليمي ودولي لا ينتمي مطلقا للسلام. فعبارة معالي الوزير قيلت في حين يشتعل الاقليم من بحر العرب جنوبا وحتى شرق المتوسط شمالا بالنار والبارود، وباتت اخبار الهجمات وتحركات الاساطيل اكثر من أن ترصدها نشرات الاخبار. فالسلام لم يعد خيارا عالميا لا بالشعارات ولا بالممارسة. وفي مفردات هذا السياق شعب فلسطيني وأردني ومصري بشرته نخبه السياسية والاعلامية بالسمن والعسل المتدفق من السلام القادم، ولكنه بات يعيش حصيلة مختلقة تماما.
ففي السياق الاردني والذي يشبه كثيرا السياق المصري، يأتي حديث معالي الوزير عن خيار السلام الاستراتيجي في ظل وضع معيشي واقتصادي لم يسبق للشعوب أن عاشته في أوقات الحروب بحيث بات السلام الذي يعيشونه هو بطعم الحرب ومذاقها وماسيها. فبعد عقود على وادي عربة وعلى تولي النخب السياسية والاقتصادية المرتبط اسمه به، فإن حصيلة خيار السلام هي بالعمق حصيلة حرب كبرى عاشها الاردنيون كما المصريون والفلسطينيون. المصريون الذين سبقونا إلى السلام باتوا يغرقون بالمديونية، ويرون عملتهم تسقط سقوطا حرا في مقابل الدولار، كما باتوا يشهدون الخناق وهو يشتد حول عنقهم من قبل اثيوبيا التي باتت من اليوم تتحكم بالمطلق بمياه النيل، ومن قبل الكيان الذي يشعل النار في سيناء وفي غزة في عقر دارهم، ومن قبل الغرب وبعض الاقليم الذي سبق واشعل النار في شرق ليبيا وفي السودان جنوبا.
من المهم التذكير أنه وفي الوقت الذي كان معالي الوزير يتحدث عن خيار السلام بصفته فضيلة الدولة الكبرى، فقد كان المشهد الامني في اقصى درجات التوتر نتيجة الاستقطاب الحاد بين شارع حانق على الكيان وعلى الغرب، وبين نخب سياسية اصطفت في جانب الغرب و"خيار السلام"، كما كان المشهد متوترا في البرلمان على خلفية مرسوم للعفو يهدف لتفريغ السجون من نزلائها ممن دخلوا السجن على خلفية افلاس مالي أو خروج للشارع لاعلاء الصوت، او كتابة مقالة للتعبير عن ضيق الحال، هي كلها ثمار للسلام المتخيل. كما كانت الارقام الصادرة عن حال المديونية ترسم صورة مرعبة للمسار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد في ظل استراتيجية "السلام خيارنا الاستراتيجي". فحال المديونية القياسية التي زادت بحوالي الثلاثة مليارات هذا العام فقط، كما أرقام البطالة المفزعة، كما نسب الفقر المدفع المتزايدة، ناهيك عن نموذج الدولة على النسق الخلدوني وحيث العصبية هي اساس الدولة بدلا من مبدأ المواطن والمواطنة هما اساس الملك، الذي امله الاردنيون كدولة تبنت خيار السلام وخرجت من حال الحرب. هذه كلها تصف السياق الذي قيلت فيه عبارة معاليه عن السلام خيارنا الاستراتيجي.
ثمة فارق كبير بل برزخ كبير بين أن تمارس السياسة في الاعلام وفي الصورة من خلال القول أن السلام خيارنا الاستراتيجي، في حين انك على الارض تتبنى خيارات بناء القوة في الاقتصاد والعسكر كما في السياسة كما في الاجتماع وحيث القوة ولا شيء غير القوة هو من يصنع السلام، وبين أن تقول أن السلام خيار استراتيجي في سياق يعج بجوار وبعالم لا يؤمن مطلقا بالسلام بل يمارس سياسات الخنق والقتل لك اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.
لم يعد كثير من الاردنيين يفهمون الاصرار على تبني ذات النهج وذات الادوات السياسية المتفرعة من شعار السلام هو خيارنا الاستراتيجي وهم يرون اليمين الاسرائيلي الديني وقد تحلل من كل القانون الدولي ناهيك عن اتفاقيات السلام معهم، كما لم يعد الاردنيون يفهمون هذا الاصرار على بقاء البيض الاردني كاملا في السلة الامريكية واستطرادا الاسرائيلية دون الابقاء على خيارات بناء القوة في الاقتصاد والسياسة والعسكر من خلال نسج علاقات اكثر توازنا مع اقطاب عالمية واقليمية هي في صعود حقيقي وليس متوهما. وللتذكير، فقبل أيام زار مسؤول العلاقات الدولية في حزب الله الحاج وفيق صفا دولة الامارات العربية المتحدة، وهي زيارة تم الاعلان عنها اعلاميا ورسميا، ما يعني أن الامارات والخليج يصر على أن يقرأ جيدا موازين القوى المتغيرة في الاقليم، كما يصر على ابقاء الخيوط والخيارات مفتوحة مع كل مراكز القوة والتأثير الصانعة للمشهد في الاقليم. ومن المهم التذكير أيضا، أن دولة الامارات العربية المتحدة وفي ذروة عدائها مع ايران حافظت على علاقات تجارية واقتصادية هائلة بحيث تجاوز حجم التبادل التجاري مع ايران رقم السبعة مليارات دولار.
ما بين اوسلو وووادي عربة والسابع من اكتوبر وبينهما تحرير غزة، وقبله تحرير لبنان من رجس الاحتلال، وبعده تحرير العراق من رجس الاحتلال الامريكي، احداث كثيرة ومتغيرات عميقة تجعل استراتيجية السلام بالشروط الاسرائيلية والامريكية ليس خيارا نمارسه من موقع القوة، بل تجلعه اشبه بحبل مشنقة أعدت جيدا لنا وبتنا نذهب اليه ونحن مسرعي الخطى.