استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق: عودٌ على بدء؟
شهدت العاصمة السورية دمشق، قبل يومين، قصفًا جويًّا استهدف مبنى القنصلية الإيرانية أفضى إلى مقتل سبعة قياديين في الحرس الثوري الإيراني، أبرزهم العميد محمد زاهدي، قائد فيلق حرس الثورة لسوريا ولبنان والذي كان يشكل حلقة الوصل ما بين إيران وكلا البلدين.
تعيد هذه الضربات التصعيدية فتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات تُطرح بين آونة وأخرى، منذ السابع من أكتوبر، مع كل ضربة جوية إسرائيلية؛ فهل تعتبر هذه الضربة استكمالًا لسلسلة من الفعل ورد الفعل الكمية التي تبرز منذ الحرب على غزة، ما بين إيران وحلفائها في المنطقة أو ما يعرف بـ "محور المقاومة” وبين إسرائيل؟ أم هي ضربة نوعية قد تشكل نقطة تحول في الصراع، بحيث تشكل منطلقًا لتدحرج كرة الثلج، الذي قد يفضي إلى إشعال حرب على مستوى الإقليم بالضرورة، والتي قد تتقاطع مع أهداف نتنياهو الداخلية في احتواء الشارع الإسرائيلي واختلاق ذريعة لإدامة الحرب؟
رغم أن هذه التساؤلات دائمًا ما كانت تطرح مع سلسلة الاغتيالات التي لحقت بعناصر الحرس الثوري التي كان من أهمها اغتيال العميد "رضى موسوي” في ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، إلا أن هذه المرة جاء الاستهداف لمقر إيراني رسمي يخضع لأحكام وشروط القانون الدولي واتفاقيات فيينا، ويمثل امتدادًا لأراضٍ إيرانية معنوية على الأراضي السورية.
بلغت الاستهدافات العسكرية الإسرائيلية للعناصر الإيرانيين وللقوى المحسوبة على جبهة المقاومة الموالية لإيران في الأراضي السورية، ما يقارب الـ31 استهدافًا خلال العام الجاري، كان أبرزها الاستهداف الأخير، إذ ترى إسرائيل ما يقوم به محور المقاومة الموالي لإيران من ممارسات هي معيقة لتحقيق أهداف حربها على غزة، والتي وعدت بالتصدي لها. الأمر الذي استدعى مهاجمة قاعدة "التنف” الأمريكية بطائرة مسيرة بعد إيقاف الهجمات على القاعدة لأكثر من شهر، إذ أن القوى المحسوبة على إيران قامت بهجمات كرد فعل على الضربة الإسرائيلية للقنصلية، في الوقت الذي تُعرب فيه كل من طهران وواشنطن منذ بداية الحرب على غزة بعدم رغبتهما بتوسيع نطاق الأزمة والانزلاق نحو حرب إقليمية مفتوحة.
إلا أن الحدث في المقابل، أثار تساؤلات عديدة، متعلقة في الجانب الاستخباراتي وكيفية حصول إسرائيل على معلوماتها، بدءًا من كيفية الرصد وتأكيد وجود قيادات الحرس الثوري في مبنى القنصلية، في ساعات ما بعد العصر، إضافةً إلى آليات تسريب المعلومات الأمنية الدقيقة والمتكررة عن أماكن القادة الإيرانيين في سوريا، وهو ما قد يثير الجدل حول قدرات الاستخبارات الإيرانية، وقدرتها للقيام بالرد المماثل، فمنذ اغتيال الجنرال قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020، بدت إيران تدرك بشكل حقيقي أن الأهداف التي تحددها إسرائيل ليست عصية عليها وعلى استهدافها، سواء أكانت خارج إيران أو داخل أراضيها، كما حدث في اغتيال العالم الإيراني فخري زاده، إلى جانب أن الردود الإيرانية، كما هو واضح، لم تكن بحجم فداحة الاستهداف. إلى جانب ذلك، فإن الحادثة تثير التساؤلات أيضًا حول مدى ارتباط تلك الخروقات بجدوى التغييرات في الأجهزة الأمنية والاستخبارية التي أجراها نظام الأسد مؤخرًا على مستوى الهياكل والقيادات مع استمرار سلسلة الاستهدافات والاغتيالات على الأراضي السورية.
على الرغم من توعّد طهران بالثأر، إلا أنها -ربما حتى اللحظة- قررت الاحتفاظ بحق الرد والاحتفاظ بقواعد الاشتباك المحدود حرصًا على ألا تُجر في صراع يحتدم في أنحاء الشرق الأوسط، مع استمرار الممارسات التي يقوم بها حزب الله والجماعات الموالية لإيران، والتي تنفذ ضربات تكتيكية تجاه إسرائيل منذ الحرب على غزة، لكنها لم ترقَ بمستوى الحرب إلى مستوى إقليمي. الرد الإيراني المنتظر أو المحتمل والذي تتوعد به طهران، سيُبنى عليه رد فعل آخر قادم من تل أبيب؛ فالمحاولات الإسرائيلية بدا عليها طابع إرسال طُعم لزج لإيران وحلفائها لاستدراجها نحو توسيع الحرب، مع إقحام الولايات المتحدة على نطاق أوسع؛ هذه المؤشرات تستدعي قراءة اهتمامات اسرائيل من خلال سلوكها، فيبدو أن القيادة الإسرائيلية تحاول العمل على استوفاء شروط إشعال حرب إقليمية؛ نظرًا لاهتمامها في تدمير قدرات حزب الله في لبنان على غرار الانهاك الذي أصاب حركة حماس، خاصة وأن تيار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يركز اليوم على الاستمرار في الحرب لتحقيق أهدافه على المستوى السياسي والعسكري.
قد يبدو تكرار طرح السيناريوهات مع كل ضربة إسرائيلية بات تقليديًّا، إلا أن المكنون بدلالات القصف يفتح آفاقًا أمام التكهنات والتوقعات لا سيما أن الحدث ليس عرضيًا، بل متكررًا ويتصاعد، وبالتالي فإن السيناريو الأول هو تنشيط إيران لوكلائها وحلفائها للاشتباك مزيدًا في الحرب، لكن الإشكالية تظهر هنا، وهي في مدى القدرات العسكرية التي تمتلكها تلك القوى في مقابل القدرات الإسرائيلية والضربات الجوية الدقيقة التي تنفذها كلًا من الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما أظهره -على سبيل المثال لا الحصر- الرد الأمريكي على مقتل جنود أمريكيين في قاعدة برج 22. في مقابل هذا السيناريو، يظهر السيناريو الأخطر وهو تدخل إيران بشكل مباشر وهو مستبعد حتى الآن، إذ أن إيران ماتزال تؤطر ممارساتها ضمن ما تطلق عليه "الصبر الاستراتيجي”، لكن التساؤل يبقى مفتوحًا حول مدى قدرة إيران على الاستمرار في هذا المسار في حال اتسعت رقعة الاستهداف لمزيد من قادتها، أو اتسعت حدود تلك الضربات لتصل إلى طهران نفسها، حتى وإن كانت ظروفها الداخلية والخارجية لا تساعد في الانخراط المباشر في هذه الحرب.
فرح أبو عياده - معهد السياسة والمجتمع