عاجل - في يوم العَلَم: حتى لا نخذل العَلَم!
كتب كمال ميرزا -
يوم العَلَم الأردني، والذي اختار له المعنيّون تاريخ 16 نيسان/ إبريل من كلّ سنة، هو مناسبة استثنائية للتوعية والتذكير والتحذير من بعض الممارسات والمفاهيم التي قد تؤدّي بنا من حيث ندري ولا ندري إلى خذلان أوطاننا وأعلام أوطاننا لا سمح الله.
أول مستوى للخذلان هو ما يُسمّى بلغة العِلْم "التشيّؤ" (من شيء) أو "الفتشيّة" (من كلمة fetish الإنجليزية) أو "الصنميّة" (من صنم).
فالعَلَم، شأنّه شأن أي عَلَم وراية في العالم، هو وسيلة أو أداة للتعبير عن منظومة متكاملة من القيم والمعاني الكامنة وراءه، وهو ليس غايةً في حدّ ذاته، أو قيمةً في حدّ ذاته، أو معنى قائماً في حدّ ذاته.
وبالتالي، فإنّ الاحتفاء والاحتفال الشَكليّ البرّانيّ الاستعراضيّ الطقوسيّ بأي عَلَم، بمعزل عن تمثُّل منظومة القيم والمعاني الكامنة وراءه بشكل عمليّ ملموس في السلوك الفعليّ وتفاصيل الحياة اليومية.. هو بمثابة تفكيك وتفريغ لهذا العَلَم من مغزاه وجدواه وهيبته وهالته.
هذا التفكيك حتى وإن جاء عفويّاً أو عاطفيّاً أو غير مقصود يقود إلى المستوى الثاني من مستويات خذلان العَلَم.. وهو تناسي منظومة القيم والمعاني الكامنة التي يرمز إليها، أو إغفالها، أو التنصّل منها.
فاللون الأسود في حالة العَلَم الأردني يرمز إلى راية العُقَاب، راية الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي اتّخذها العبّاسيون فيما بعد رايةً لهم. واللون الأبيض يرمز إلى الأمويّين. واللون الأخضر يشير إلى الفاطميين وإلى آل البيت عموماً، واللون الأحمر يشير إلى الهاشميين.
وعليه فإنّ العَلَم الأردني بتكوينه وألوانه يحمل معاني "الوحدة" و"الامتداد" و"التواصل" و"الأصالة"، ولكن ليس بمعانيها "القَبَليّة" بلغة العُرْف، أو "الجاهليّة" بلغة القرآن، أو "العصبيّة" بلغة "ابن خلدون"، أو "الشوفينيّة" بلغة المعجم السياسي المعاصر.. ولكن بمعانيها الإيمانية الأوسع كما تجسّدها نجمة العَلَم الأردني السباعية التي تشير إلى "السبع المثاني"، أي سورة الفاتحة، أي القرآن الكريم بلسانه العربيّ ورسالته الإسلامية بأبعادها الإنسانية والحضارية العالمية!
وبالتالي فإنّ الأمويين ليسوا "بني أميّة" أو "بني عبد شمس"، بل هم "الدولة الأمويّة"، أي الدولة العربية الإسلامية بكامل امتدادها واتساعها، وتنوّع أعراقها وأجناسها، وثراء مشاربها وثقافاتها، وحصيلة مآثرها ومنجزاتها جنباً إلى جنب مع مثالبها وإخفاقاتها التي هي جميعها جزء من تجربتها التاريخية التي نستقي منها دروس الفخر والعِبَر في آن واحد.
نفس الكلام ينطبق على الدولة العباسية..
ونفس الكلام ينطبق على الدولة الفاطمية..
ونفس الكلام ينطبق على "بني هاشم" الذين تتوسط "السبع المثاني" لونهم الأحمر تحديداً للتأكيد على فكرة "العشيرة الإيمانية"، ورثة عهد الرسالة وميراث النبوة اللذين يجعلان شخصاً مثل "سلمان الفارسي" من "آل البيت"، ويجعلان من رقيق وموالٍ ومستضعفين أمثال "بلال" و"عمّار" و"صهيب" و"خبّاب" سادةً مكرّمين يفرش لهم الرسول رداءه ويربت على أكتفاهم بعد أن أوصاه الله بهم من فوق سبع سماوات، ويجعلان من أشخاص أمثال "أبي لهب" و"أبي جهل" و"الوليد بن المغيرة" على مالهم وحسبهم ونسبهم رموزاً للكفر والكِبْر والطرد من رحمة الله بموجب قرآن يُتلى إلى يوم الدين.
كما أنّ العَلَم الأردني مُستمدٌّ من عَلَم الثورة العربية الكبرى بكل ما تحمله هذه الثورة من معاني الحرية والاستقلال ورفض الاستلاب والهيمنة والتبعيّة والظلم.
هذه المعاني والرمزيّات تقودنا إلى المستوى الثالث من مستويات خذلان العَلَم وهو تشويه القيم والمعاني والرمزيات التي يمثّلها هذا العَلَم، أو تحريفها، أو حرفها عن غاياتها ومقاصدها.. مع التذكير مرّة ثانية أنّ ما يسري على العَلَم الأردني هنا يسري على أي عَلَم وراية أخرى في العالم.
فهل يُعقل أنّ يجعل البعض من العَلَم وما يحمله من معاني "الوحدة" أداةً للتخندق والتعصّب والاستقطاب والمناكفة، ووسيلة للتأكيد على معاني الانقسام والتشرذم والقُطرية كما أسس لها الاستعمار من خلال "سايكس - بيكو" و"وعد بلفور" و"سان ريمو". أو تبنّي فهم "عضويّ" لفكرة الشعب الواحد علماً أنّ فكرة "الشعب العضويّ" هي من الأسس الخطيرة التي قامت عليها بعض أكثر النماذج تطرّفاً في التاريخ مثل المغول (الذين لا يربطهم أي شيء آخر سوى أنّهم مغول)، أو النازيّة، أو الفاشيّة، أو الصهيونيّة؟
وهل يُعقل أن يحاول البعض اختزال معاني "الامتداد" و"التواصل" التي يمثّلها العَلَم وحصرها في جغرافيا ضيقة مُجتزأة ومُستحدثة، أو بتواريخ بعينها توحي بعدم وجود حضور وتواجد وفاعليّة للإنسان الأردني والمكان الأردني قبل هذه التواريخ؟
وهل يُعقل أن يحاول البعض تجاوز معاني "الأصالة" التي يمثّلها العَلَم بجوهرها الإسلامي وثقافتها العربية، واللهاث وراء التغريب والتسليع والتسييل والأمركة، والقطيعة مع الموروث والعادات والتقاليد أو إعادة إنتاجها وفق شروط السوق.. كلّ ذلك بذريعة مسميّات وعناوين برّاقة مثل التطوير والتحديث والعصرنة والريادة والتمكين والمجتمع المدني؟!
وهل يُعقل أن يحاول البعض تكريس فهم للولاء والانتماء يكافئ السكوت والركون والرضا والتسليم بالأمر الواقع على عواهله.. وذلك خلافاً لقيم الثورة العربية الكبرى التي تُملي على أبنائها كلٌّ من موقعه تعليق الجرس متى استشعروا أنّ هناك ما من شأنه المساس بأمن الوطن والمواطن واستقلاليّتهما وحريّتهما، أو ما يُنذر بإعادة إنتاج حالة الاستلاب والهيمنة واختلال العدالة والمساواة لصالح فئات أو قوى بعينها داخليّاً وخارجيّاً؟!
كلّنا نشأنا وجزء من ذاكرتنا ومخيالنا تلك الصورة الملحميّة لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يمسك بيمناه الراية في غزوة مؤتة الخالدة التي دارت رحاها على ثرى الأردن الحبيب، فلمّا قطع الأعداء يمينه أمسك الراية بيساره، فلمّا قطعوا يساره احتضنها بعضديه حتى استشهد.
وهو، جعفر الطيّار، أبو المساكين، عندما بذل روحه كي تبقى الراية عاليةً خفّاقةً فوق هام الرجال لم يفعل ذلك بحكم وظيفة يؤديها أو راتب يتقاضاه، أو طمعاً بالمكافأة، أو من أجل الصيت والشهرة.. ولكنّه فعل ذلك تماهياً وانتصاراً لمعانٍ وقيم سامية ومقدّسة يؤمن بها تتجاوز حدود جسده وغريزة بقائه ككائن بشريّ من لحم ودم وشهوات ورغبات واحتياجات عضويّة، وتتجاوز ولاءه القَبَلي كقرشيّ من بني عبد المطلب، وتتجاوز انتماءه القومي كعربيّ يقرع أبواب إمبراطوريات الروم والأعاجم ويقارعها.
"يوم العَلَم" هو مناسبة لنا جميعاً لاستحضار جميع هذه المعاني، وتذكير أنفسنا بها، سيما وأنّ يوم العَلَم هذه السنة يأتي متزامناً مع "طوفان الأقصى"، وحرب الإبادة والتهجير التي يشنّها الكيان الصهيوني وأعوانه على أشقائنا الفلسطينيين، الأمر الذي يُكسب المناسبة أهميةً ودلالةً إضافية، ليس فقط لأنّ فلسطين بداخلها وضفتها وغزّتها هي شأنّها شأن أي قُطْر عربيّ وإسلاميّ آخر جزء لا يتجزّأ من معاني "الوحدة" و"الامتداد" و"التواصل" و"الأصالة" المشار إليها، بل وأيضاً لما تحمله "غزّة" تحديداً من خصوصية بكونها تحتضن قبر "هاشم" جدّ الرسول صلى الله عليه وسلم وعترته الإيمانية التي تُملي على جميع أبنائها أن يتداعوا لبعضهم البعض بالسهر والحُمّى والنُصرة والإنقاذ.
كلّ "عيد عَلَم" والأردن بخير..
كلّ "عيد عَلَم" وفلسطين بخير..
كلّ "عيد عَلَم" وغزّة بخير..
كلّ "عيد عَلَم" وكلّ نفس عربية وإسلامية حرّة أبيّة عزيزة مُقاوِمة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي بخير.