صراع الأقليّات والأكثريّات على الفضلات
ينهمك العالم برصد التطورات الحاصلة في منطقتنا، ويجهد في رصد متغيراتها وما يمكن أن تنتهي إليه على صعيد تعزيز نفوذ أو حضور مقابل تراجع سطوة أو سيطرة. يجهد اللاعبون الكبار في مراكمة أوراق القوة لتوظيفها في أي مفاوضات مقبلة تسعى إليها أكثر من جهة للجم التصعيد وصولاً إلى وقف الحرب، من دون إغفال سبل ترجمتها في لعبة الربح والخسارة، وإعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط وتشكيلها.
وعلى المقلب الآخر من الصراع الدائر بين شرق وغرب، بين إسرائيل وما تمثّل وبين إيران ومحورها، يواصل المسؤولون في لبنان لعبة "نط الحبل"، وهي لعبة بسيطة لا تتطلّب الكثير من الذكاء، لكنّها تحتاج إلى لياقة تسهّل القفز من طرف إلى طرف. ولا بدّ من التنويه أنّ اللبنانيين في هذه اللعبة يقومون بالقفز فقط، فيما الخارج هو الذي يمسك بالحبل. ولك أن تتخيّل إذا تباطأ اللاعب اللبناني أو تأخّر فكيف سيكون وقع الحبل عليه. اللبنانيون، كما جرت العادة، مشغولون عمّن يمسك بالحبل ويتصارعون في وسط الملعب على من سيقفز أوّلاً. خريطة المنطقة يُعاد رسمها واللاعب اللبناني مشغول بموطئ قدمه. وقديماً، قيل "نيّال اللي عنده مرقد عنزة بجبل لبنان".
يجيد اللبنانيون إضاعة الفرص، كما يجيدون تعزيز انقساماتهم على نحو يتيح للخارج قضم حقوقهم وضرب مناعتهم وإفقادهم قوتهم، في الوقت الذي يتلهّون فيه بالفضلات التي تركها الكبار لهم.
عند كل انقسام في لبنان، يلوح في الأفق خطاب "بيي أقوى من بيّك" و "نحنا الأكثرية ونحنا اللي منقرّر"، ويحصل الفرز داخلياً بين شرق وغرب، كأن واشنطن تلهث للوقوف عند رأي "جماعة السفارة" هنا على حد وصف خصومهم، أو كأن موسكو ترسم حدود نفوذها بحسب ما يهوى "عملاء إيران في لبنان" على ما يقول الخصوم.
يستمرّ الانقسام الداخلي رغم كلّ التحديات الخارجية المصيرية التي تتهّدد البلاد ومن دون أيّ تغيير. يتحدّث فرقاء عن أقليات وأكثريات ويغيب عنهم أن هوية لبنان في خطر. أيعقل ألا تكون قضية وجود ما يزيد على مليوني نازح سوري على الأراضي اللبنانية مسألة وجودية؟ بمعزل عن التهديد الأمني وعصابات سرقة السيارات والتهريب عبر الحدود، وهي غالباً بالشراكة بين لبنانيين وسوريين كما بالنسبة إلى الكثير من الجرائم والارتكابات والمخالفات التي تحصل، من دون إغفال خطورتها طبعاً.
ولكن، هل يمكن غض الطرف عن وجود 500 ألف ولادة غير مسجّلة لنازحين سوريين في لبنان حتى نهاية العام الماضي، بحسب المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري؟ هل من سأل الرئيس القبرصي الذي زارنا على عجل عن عدد السوريين الذين وصلوا إلى جزيرته فأثاروا قلقه وقلق دول الاتحاد الأوروبي من تدفق اللاجئين إلى بلادهم، وهو الاتحاد نفسه الذي يرفض إعادة السوريين إلى بلادهم لأسباب سياسية، بحيث لا يمكن ادعاء الحرص عليهم ورفض استقبالهم واحتضانهم في الوقت عينه.
يبدو أركان السلطة، اليوم، كأنهم في إجازة مستمرة، إذ يكتفون بتصريف الأعمال وفق الأجندات والمشاريع الرابحة لا وفق المسائل الملحة والمصيرية. وإلا فما الذي يمنع رئيس حكومتنا من ترؤس وفد وزاري وزيارة دمشق على عجل لبحث مسألة "الوجود السوري في لبنان". صحيح أنّ التعبير كان يستخدم للإشارة إلى القوات السورية العاملة في لبنان قبل العام 2005، ولكن لا بأس من الإقرار بأن أغلب النازحين السوريين في لبنان سبق للرجال منهم أن كانوا في بلدنا جنوداً في قوات ردع عربية، فهل نحتاج في مستقبل قريب إلى قوة ردع تفصل بيننا وبين السوريين على أرض وطننا؟
صحيح أن الحكومة وضعت، عقب جريمة قتل باسكال سليمان خلال محاولة سرقة سيارته على يد عصابة سورية، خريطة طريق لمعالجة أزمة النزوح السوري. ولكنّ تلك الخريطة تظل حبراً على ورق في انتظار بدء تطبيقها، لأنّ المشكلة لم تكن في الخطط وسبل المعالجة بل في اتخاذ القرار أولاً، وبالقدرة على تطبيقه ثانياً، وببدء التطبيق ثالثاً.
فهل نحن مقبلون على معالجة هذا التحدي الوجودي فعلاً؟
المطلوب هو توافق الفرقاء اللبنانيين بين أكثريات وأقليات على نبذ العنتريات والشروع في إنقاذ مستقبل لبنان وهويته. ولا بد من ترك الصراع على المكاسب بحسب الأحجام إلى مرحلة تصبح فيه الوطنية هي المعيار والمقياس. يجيد اللبنانيون إضاعة الفرص، كما يجيدون تعزيز انقساماتهم على نحو يتيح للخارج قضم حقوقهم وضرب مناعتهم وإفقادهم قوتهم، في الوقت الذي يتلهّون فيه بالفضلات التي تركها الكبار لهم.