عاجل فليكن طوفان الأقصى هو عيد العمّال!

 
كتب: كمال ميرزا

هناك "العمل"، وهناك "الشغل".

"العمل" تكريم، و"الشغل" ابتلاء.

العمل هو مظهر لتكريم الله للإنسان، واستخلافه، ومنحه العقل والتمييز والإرادة، وتسخير الموجودات من أجله.. والشغل هو جزء من ابتلاء الإنسان وامتحانه في الدنيا.

العمل هو كلّ ما يسهم في إعمار الكون بالمفهوم الأوسع للإعمار وتقدّم البشريّة وخيرها.. والشغل هو من أجل اقتضاء الحاجات وتسيير شؤون الحياة اليومية.

العمل هو من أجل طلب الأجر، والشغل هو من أجل طلب الأجرة.

العمل ينطبق عليه قوله تعالى في الآية (17) من سورة الرعد: ((..فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض..".. والشغل ينطبق عليه قوله تعالى في الآية (6) من سورة الانشقاق: ((يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه)).

العمل موجّه لمنفعة الآخرين وفائدتهم في المقام الأول، ولا ضير لو ترتب عليه منفعةً أو فائدةً شخصيةً كأثر جانبيّ أو تابع.. والشغل موجّه بشكل أساسي للمنفعة الذاتية والشخصية، ومنفعة وفائدة الناس ـ إن تحقّقت ـ تكون هي الأثر الجانبي أو التابع.

طبعاً ما تقدّم لا يعني بالضرورة مدح العمل وذمّ الشغل، فكلاهما عبادة، وكلاهما يقتضيان الإخلاص والاتقان والمثابرة، ولكن موضع العبادة فيهما مختلف.

العمل هو جزء من مقتضيات أداء الأمانة المشار إليها في الآية (72) من سورة الأحزاب: ((إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولاً)).. والشغل هو من مقتضيات التكسّب والسعي في طلب الرزق كما يستفاد من الآية (10) من سورة الجمعة: ((فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلّكم تفلحون))، والآية (15) من سورة المُلك: ((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور)).

و"العمل" مُسبّق على "الشغل" وأولى كما يستفاد من قوله تعالى في الآية (77) من سورة القصص: ((وابتغِ فيما آتاكَ الله الدار الآخرة [الأولويّة، المطلب الأساسي] ولا تنسَ نصيبك من الدنيا [المطلب اللاحق أو التابع أو الثانوي] وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إنّ الله لا يحب المفسدين)).

في ضوء جميع الفهم أعلاه، لو أتينا على أغلب المهن والوظائف التي نمارسها هذا الزمان ونكرّس من أجلها أنفسنا ونفني في سبيلها أعمارنا وعافيتنا وأعصابنا وتفكيرنا.. لوجدنا أنّه ينطبق عليها وصف "الأشغال" لا "الأعمال"، ومن حيث المبدأ لا ضير في ذلك، ولكن المشكلة تحدث في حالتين:

الحالة الأولى عندما يلهينا "الشغل" الذي هو ضرورة ومُتطلّب عن "العمل" الذي هو أولويّة ومطلب كما يستفاد من قوله تعالى في الآية (24) من سورة التوبة: "قُل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)).

والحالة الثانية عندما يصبح "الشغل" مُسبّقاً على "العمل" ومهيمناً عليه كما يستفاد من الآية (20) في سورة الشورى: ((مَن كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومَن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب))، والآيتين (21) و(22) من سورة القيامة: ((كلا بل تحبّون العاجلة. وتذرون الآخرة)).

وعندها نصل إلى الحالة الموصوفة في الآية (41) من سورة الروم: ((ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبتْ أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون))، ولفظ "بما كسبتْ" هنا يفيد الكسب بمعناه المادي المباشر ويفيد الكسب بمعناه المعنوي الواسع.

أمّا أولئك الذين يستكفون بالأشغال التي يزاولونها والوظائف التي يباشرونها والمناصب التي يتقلّدونها، ويتلقّون نظيرها الأجور والرواتب والمزايا وصولا إلى التقاعد/ نهاية الخدمة والعمر، ويحسبون ذلك كلّه "أعمالاً" مكتملة المُقتضى الإيمانيّ والشرعيّ ويأملون أن يحظوا نظيرها بأجر "العامل" وثوابه، ومنها الذي لا ينفع الناس، ومنها الذي يقوم أساساً على أذيّة الناس ومضرّتهم والتضييق عليهم وسلبهم ونهبهم والعسف والتنكيل بهم.. فأولئك مِمّن ينطبق عليهم قوله تعالى في الآيتين (103) و(104) من سورة الكهف: ((قُل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً))!

السؤال الفيصل الذي يحتاج كلّ شخص منّا أن يسأله لنفسه هنا حتى يحسم يقينه هل هو "عامل" بالمعنى الرحمانيّ للكلمة أم مجرد "شغّيل" بالمعنى المحايد أو حتى الشيطانيّ: على فَرَض أنّني مكتفٍ ماديّاً، أو بلغتُ مقداراً معيّناً من الاكتفاء الماديّ، هل أنا على استعداد حقاً للقيام بما أقوم به، والاستمرار في ذلك، وتكريس حياتي ووقتي وجهدي ومالي من أجله دون أجرٍ أو مقابلٍ ماديّ مباشر أو غير مباشر (كالصيت والسمعة مثلاً)؟

وتزداد أهمية ووجاهة هذا السؤال في حالة أولئك الذين يفعلون ما يفعلون بحكم وظائفهم ومناصبهم ورواتبهم ومصالحهم، ثمّ يزاودون على الآخرين باسم المصلحة الوطنية العليا، والأمن والأمان، والولاء والانتماء، والرخاء والازدهار، والتطوير والتحديث.. الخ، ثمّ يطمعون وكلّهم ثقة بالفوز بأجر وثواب ونعيم الدنيا والآخرة!

اقتران مفهوم "العمل" بالمقابل والأجر الماديّ هو من أخطر المثالب التي أورثتنها إياها الرأسماليّة، ورسّختها في العقول والوجدان، وجعلتها الثقافة السائدة ومنطق الأمور والقاعدة التي لا تحتمل الاستثناء.. مُفسِدةً بذلك "العمل" بمفهومه الإيمانيّ الرحمانيّ الأوسع، بحيث أصبح يُنظر على سبيل المثال إلى أعظم عمل يمكن أن يقوم به إنسان في الدنيا، وهو الأمومة وما يندرج تحتها من رعاية وعناية وتربية، باعتبارها ليستْ عملاً، أو عملاً بلا قيمة، أو تعطّلا عن الإنتاج والمساهمة الاقتصادية، أو حتى ضرباً من ضروب الاستغلال والاستلاب الذي يجب تحرير المرأة منه.. وعلى ذلك قِس!

في ضوء ما تقدم، سنجد أن ما نحتفل به في الأول من أيار/ مايو من كلّ سنة هو ليس عيد العمّال، وإنّما "عيد الشغّيلة"، والشغّيلة يستحقون عيداً لهم بطبيعة الحال، ولكنّنا بحاجة إلى تاريخ آخر نعتمده ليكون عيداً للعمّال الحقيقيين والعمل الحقيقيّ!

وللعثور على التاريخ المطلوب نحن بحاجة إلى عمل تنطبق عليه مواصفات "العمل" أعلاه، عمل يصبّ في مصلحة الآخرين ومصلحة العامّة ومصلحة البشرية، ويكرّس القائمون به أنفسهم وحياتهم وعلمهم ومالهم وصحتهم وعافيتهم وزهرة شبابهم من أجله دون انتظار مقابل ماديّ أو مكاسب ماديّة.. وأكثر عمل تنطبق عليه هذه المواصفات في وقتنا الحاضر وسياقنا الحالي هو "المقاومة" و"طوفان الأقصى"!

بالعودة إلى الآية (17) من سورة الرعد نجدها تقول: ((..وأمّا ما ينفع الناس))، الكلام هنا عن منفعة الناس كافة وعلى إطلاقهم، وليس المسلمين حصراً، أو المؤمنين، أو فئة معيّنة دون غيرها.. و"طوفان الأقصى" هو أعظم عمل وأعظم خدمة قُدّمتْ للبشرية في العصر الحديث منذ أن تمكّن الروس من هزيمة النازيين والقضاء على "هتلر" ومشروعه والنازية وشرورها.

فطوفان الأقصى لم يُعد الحياة فقط إلى القضية الفلسطينية، ويبُث في أوصالها الدماء والحيوية، ويحبط مخططات إجهاضها وتصفيتها نهائياً على يدّ العدو الصهيو – أمريكي وحلفائه الغربيين وأعوانه الإقليميين..

بل إنّ طوفان الأقصى قد شكّل هزّة وعي عنيفة أيقظت شعوب العالم كلّها، وأعادت تذكيرهم بالقيم والمعاني الإنسانية التي كادت تختنق وتضمحل وتتلاشى بفعل العولمة وهيمنة السوق وسطوة نمط العيش الاستهلاكي القهريّ، وتذكيرهم بحالة الاغتراب والاستلاب والتضليل والتزييف والقمع والاستبداد والاقصاء والتهميش والعجز والضياع وفقدان الإحساس بالمعنى والجدوى التي يعيشونها من حيث يدرون ولا يدرون بفعل المنظومة الرأسمالية الصهيونية التي تتلاعب بهم، وتتحكّم بأبسط تفاصيل حياتهم، وتسلبهم أدنى شعور بالأمان والاستقرار والرضا، وتسخّرهم وتسخّر مجتمعاتهم ودولهم ومواردهم ومقدّراتهم من أجل مراكمة الأرباح والمزيد من تركّز الثروة واحتكار السلطة..

وها نحن نشهدّ بأمّ أعيننا الأثر الذي أحدثه "طوفان الأقصى" في وعي الناس ووجدانهم من مشارق الأرض إلى مغاربها، لذا فإنّ السابع من أكتوبر/ تشرين ثاني كتاريخ هو الأجدر بأن يكون "عيد العمّال" الحقيقيّ الذي يحتفل به جميع أهل الأرض!

بقي توضيح جزئية مهمة فيما يتعلّق بالعمل وهي أنّ "الفعل" كمفهوم يأتي على أحد وجهين: إمّا فعل إتيان، أو فعل امتناع.. وبالتالي فإنّ الامتناع عن القيام بأفعال معيّنة قد يكون بمثابة "عمل" مكتمل الأركان والعناصر ومؤثّر ومنتج لآثاره الإيمانية والدنيوية أكثر من أفعال الإتيان.. ومثال ذلك "المقاطعة"!

وبالمثل، امتناع الشخص عن مهاجمة المقاومة وانتقادها وإيذائها بلسانه، أو امتداح أعدائها وخصومها والطواغيت والعملاء المتآمرين ضدّها والتماس الأعذار والمبررات لهم.. ذلك أيضاً يمكن أن يكون "عملاً" مكتمل الأركان ومستحقّاً للأجر والثواب إذا قام به الشخص إيماناً واحتساباً.

"طوفان الأقصى" هو فرصة لإعادة التأمل في قوله تعالى في الآية (105) من سورة التوبة: ((وقُل اعملوا فسيري اللهُ عملكم ورسولُهُ والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون))، والمسألة أحياناً لا تحتاج إلى كثير من التعمّق والتقعّر، يكفينا هنا أن نعقد مقارنة سريعة بين أولئك الذين يبنون "الأنفاق" تحت الأرض وهم يطمحون بفردوس الآخرة الموعود، وبين أولئك الذين همّهم في الحياة "التطاول في البنيان" فوق الأرض ويظنّون أنّهم بذلك قد عمروا الدنيا وملكوا زمامها وبلغوا ذروة الرقي والتقدّم وحقّقوا الفردوس الأرضيّ المنشود!