الأردن أولا…من ثانيا؟؟

 
قال أحد الفلاسفة، وأظنه كان صينياً لأني نسيت إسمه: إن الحقيقة مثل الماء، تأخذ شكل الاناء الذي توضع فيه! لذلك لا تحكم على الشعارات والعبارات الرنانة ومن يطلقونها بداية، بل عليك بعدها اكتشاف التفسير المراد والقريب لان القضية والخلاف يكمن فى النوايا المبطنة دائما. كثيرا منكم لا يعلم ان مقولة ماركس ( الدين افيون الشعوب) جاءت بعد اكتشاف مادة الأفيون المخدرة واستخدامها بالعمليات الجراحية قبل نحو قرنين من الزمن، كانت نقلة عظيمة فى تاريخ الطب ولم يريد بها ماركس معنى النشوة كما فسرها من جاءوا بعده، عندما اصبح الأفيون مادة للسلطنة والكيف ! انظروا لاختلاف التوقيت ومن ثم تباين واقع الفهم والتفسير اذن؟

عندما انتشرت مقولة ( الاردن اولا)، ظننت حينها انها ليست إلا شعار يراد به الالتفات إلى حال الوطن وجعله الاولوية والغاية دائما، هكذا كان فهمي وتقديري الشخصي للأمر، لكني فى مرة دخلت دائرة حكومية وتنبّهت لوجود ذلك الشعار مصكوكا بمادة نحاسية كنيشان معلّق على قمصان الموظفين، فعرفت حينها ان الدولة والحكومة تبنت هذا الشعار وروجت له، لا اريد هنا ان اشكك بنوايا الحكومة من خلف هذه المقولة والدعاية العظيمة لها، ببساطة المسؤولون الحكوميون وضحوا فى اكثر من مناسبة ان هذا الشعار هو لبناء اردن قوي وغني بموارده ليكون دائما عونا وسندا حقيقيا لمحيطه العربي وانه لا يعني بالضرورة انسلاخ الأردن او تنصله من واجباته تجاه اخوته وأشقاؤه، والله اعلم بما فى نفوسهم!

فى حصة الرسوم والفن، اخرج لنا الاستاذ ذات مرة لوحة مليئة بالخطوط الطولية وحسب، لا شيء آخر غيرها، ثم قال : إن الجائع منكم سيراها مكرونة، والهائم العاشق يظنه شعر حبيبته، اما مريض القلب المسكين فانه سيرى فيها الأوردة والشرايين!! هذا هو منطق الفن التشكيلي وبه يقاس ايضا تفسير الأقوال والشعارات. لقد احب العنصريون منّا ذلك الشعار ووجدوا فيه غايتهم ومرادهم بنبذ كل من هو ليس اردنيا! وآخرون نهجوا نهجا اقل حدة قليلا باتباع منطق ( مالنا ومال الناس) وهكذا سار الأمر ، لكل منا فهمه ورؤيته او تفسيره.

على ارض الواقع وما يجري من احداث، رايت فى عدة مناسبات جهدا عظيما من الحكومة وأعلى مستويات فى الدولة، ترجمة حقيقية على الارض لذلك الشعار، لا انسي فوز الفنانة ديانا كرزون بالمركز الاول ببرنامج سوبر ستار وكيف تعاملت اجهزة الدولة بكل مستوياتها مع الحدث وتجييش وسائل الإعلام يومها وخلق حالة عند البعض أدت الي ملاسنات ومشاحنات طالت اشقائنا العرب للأسف، وان كانت بشكل غير مقصود، لكنها تظل حالة التفسير والفهم الخاص لدى كثير منّا كما ذكرت سابقا، اما الاحتفالات العارمة والهائجة بعد التتويج ، فإنها الترجمة الحقيقية للشعار فى هذه الحالة. كرة القدم كذلك حالها مماثل، مدربين على اعلى مستوى ودعم كبير، جماهير واعلام يطغى على كل حدث، فليس بعد الفوز وإحراز الأهداف والكؤوس غاية اخرى بكل تاكيد.

فى مرة تعطلت سيارتي امام اشارة المرور وتصاعدت منها الأبخرة ، تداركت الامر بسرعة ولحسن الحظ كانت ورشة إصلاح قريبة من المكان، فاتجهت لها مباشرة وتبين ان ( رديتر السيارة) مثقوب ويجب تغييره، سالت عن نوع جيد ورخيص، اجابني جميع من بالورشة ودون تردد : خذ رديتر اردني وما عليك، هو الافضل بالسوق ويضاهي الاصلي!! كان هذا هو اليوم الوحيد فى حياتي الذي احسست فيه ان الاردن اولا وبكل صدق!! بعدها بعدة سنوات، تعرض احد اصدقائي لموقف مماثل ونصحته بالصناعة الأردنية المميزة ، فلم يجده هنا بالسعودية حيث أقيم!

مكافحة الفساد ، تحقيق اكتفاء ذاتي، الحريات العامة، نزاهة القضاء ، النهضة بالتعليم وغيرها من الحاجات الضرورية للإنسان وكرامته هي من تجعل وطنك اولا، ليست ميدالية الذهب او الفنون بالدرجة الاولي ولا اقلل من قيمتها بالطبع.


ضعوا الأقوال والشعارات فى آنيتها المناسبة يا اعزائي واجعلوا إدراككم لها على النحو الإيجابي الامثل، ولينعكس هذا الأمر فى عملنا وجهدنا ليصبح الشعار قولا وفعلا حينها، وبعدها اتجهوا إلى أصحابه ومن أطلقوه واسألوهم: من ثانيا ؟ دمتم