د. الحسبان يكتب: في التحضير لليوم التالي لطوفان الاقصى...الى العشيرة در!



كتب د. عبدالحكيم الحسبان - 

منذ شهور أحرص وبشكل شبه يومي على متابعة المحتوى الذي يتيحه تطبيق تيك توك الصيني الذي بات واحدا من اهم تطبيقات ما بات عليه وسائل التواصل الاجتماعي. وتتيح خاصية تنزيل التطبيق دون أن تمتلك حسابا عليه، وهو ما فعلته بالضبط، عرضا للمحتوى الاعلامي الذي لا تتحكم فيه أنت بشكل مباشر، بل تقوم تقنيات الذكاء الاصطناعي بالموقع بترتيب عرض المحتوى المقدم اليك.

منذ أسابيع كان لافتا جدا دفق الفيديوهات القادم من سيناء المصرية، وتحديدا المتعلق بشخص اسمه إبراهيم العرجاني. الفيديوهات التي ظهرت منذ أسابيع على تطبيق تيك توك، تظهر الرجل يسير وسط مواكب طويلة أريد لها أن تكون مهيبة من سيارات الدفع الرباعي السوداء التي يتقدمها السيد إبراهيم العرجاني. وفي الفيديوهات التي تعرض على تطبيق تيك توك تسمع أغاني حماسية تغني لأبي عصام العرجاني ولبطولاته مع كم هائل من الاوصاف التي تمجد في هذا القائد البطل "فخر السيناوية" .

الشعور الذي تولد لدي بداية أمام الفيديوهات الاولى التي شاهدتها، كان شعور بالاستغراب تحول فيما بعد إلى شعور بالارتياب مما يجري، ليصل لاحقا إلى مستوى اليقين العلمي من طبيعة السيناريوهات التي يتم تحضيرها على أيدي الامريكي والصهيوني بالشراكة مع أحفاد إبراهيم. وأما مصدر الاستغراب الذي انتابني أمام الفيديوهات الاولى، فهو هذا التساهل الامني والسياسي المصري أمام ظهور بطل جديد وزعيم كبير على الارض المصرية في ظل مناخ سياسي لا يسمح مطلقا بزعيم غير الزعيم الاوحد. فقد اعتدنا أن تكون مواكب سيارات الدفع الرباعي السوداء الطويلة هي مشهد حصري للزعيم الاوحد، فما بالك إذا كانت هذه المواكب المهيبة تترافق مع أصوات مطربين وعزف لفرق موسيقية تشيد ببطولات شخص آخر غير الزعيم.

وأما الانتقال الى الشعور بالارتياب، فكان بعد أن قام السيد مصطفى بكري، العضو في مجلس الشعب المصري، ومقدم أحد البرامج التلفزيونية والذي وصف في الماضي باعتباره قوميا ناصريا معارضا لنهج كامب ديفيد، والذي تحول لاحقا لأحد اهم الداعمين والمروجين لسياسات السلطة الحالية في مصر، قام بالاعلان عن قيام "أتحاد القبائل العربية في مصر" مسميا الرئيس المصري عبدالرحمن السيسي رئيس "الدولة" بصفته الرئيس الشرفي لهذا الاتحاد وليكون السيد إبراهيم العرجاني بمثابة الرئيس القبلي لهذا الاتحاد على أرض سيناء المصرية. وأما مصدر الارتياب هنا، فكان مصدره هذا الاعلان الرسمي المفاجئ عن ولادة تجمع قبائلي عشائري على أرض مصر وفي العام 2024 وحيث العشيرة والقبيلة كان عليها أن تتفكك وتتحلل أمام تجذر ظاهرة المدينة والتحضر التي بدأتها مصر قبل معظم شعوب الارض لتستمر حتى يومنا هذا. لطالما كانت مصر مجتمعا ودولة في التوصيف السوسيولوجي العلمي، هي الدولة الاقرب لمفهوم الامة مقارنة ببقية الكيانات العربية التي ما زالت العشيرة والطائفة تتصارع فيها مع عمليات التحول باتجاه الدولة الأمة.

وأما اعلان السيد مصطفى بكري عن ولادة هذا الاتحاد القبلي على أرض سيناء المصرية، مع ظهور للسيد بكري شابكا ساعده بساعد القائد القبلي إبراهيم العرجاني، فقد أثار زوبعة لدى النخب الاعلامية وبعض النخب السياسية المعارضة. وفي القلب من السجال الذي دار حول خطوة اعلان الاتحاد القبلي، كان ماضي السيد العرجاني المثير للاستغراب. فالسيد العرجاني، لطالما عرف بأنه من كارهي الدولة المركزية المصرية ومؤسساتها، وقد وصلت كراهيته لسلطة الدولة المصرية المركزية في سيناء حد قتال الدولة مع مليشيات من أفراد قبيلته الترابين. وقبل سنوات شاهد المصريون على اليوتيوب مقاطع مصوره لقيام السيد ابراهيم العرجاني باحتجاز ضباط من الجيش المصري واهانتهم واذلالهم أمام الكاميرات، بعد أن قامت قوات الامن المصرية بقتل شقيقه.

الكيفية التي تحول بها السيد العرجاني من متمرد ومحارب لسلطة الدولة المصرية على أرض سيناء إلى زعيم يعلن الولاء للرئيس السيسي حد اعلانه قرار اتحاد القبائل العربية بإنشاء مدينة ضخمة في سيناء سيكون اسمها مدينة السيسي وحيث سيكون هو احد اكبر المساهمين ماليا في انشاء هذه المدينة، هذا التحول يثير الريبة. كما أن تحول الدولة المصرية واجهزة أمنها من اعتبار السيد العرجاني بمثابة ارهاب خطر مطلوب لاجهزة الامن المصرية، إلى شريك سياسي شرعي للدولة المصرية وتحديدا للسلطة المصرية هو أيضا يثير الكثير من الارتياب.

وأما ما بدا شعورا بالاستغراب بادئ الامر، ثم استحال ارتيابا في منتصفه، فقد انتهى يقينا أمام كثير من الوقائع التي بدأت تتكشف عن مشاريع اليوم التالي وفق السيناريوهات الاسرائلية الامريكية لمرحلة ما بعد انتهاء طوفان الاقصى، كما يتمناه الامريكيون والاسرائيليون وشركاؤهم العرب. بعض اليقين تكون أيضا بسبب تفاصيل تاريخية تتعلق بصحراء، كما تتعلق ببعض الاحداث التي جرت على ارضها قبل سنوات تؤكد وباليقين ما يحضر من سيناريوهات تتعلق بسيناء كما بغزة، كما بالاردن والضفة والمنطقة عموما.

من أجل تكوين يقين علمي حول التفاصيل اعلاه التي ذكرت، سوف أحيل القارئ إلى مقالة سابقة كنت نشرتها قبل حوالي الخمس سنوات، وتحدثت فيها باسهاب عن التسعة عشر تفجيرا التي جرت في صحراء سيناء إبان أحداث ما سمي زورا بالربيع العربي، مستهدفة خط الغاز العربي الذي يجلب الغاز المصري ألى الاردن وسوريا ولبنان. في تلك المقالة أوضحت أن تلك التفجيرات لم تكن محض أحداث عرضية وتخريبية يقوم بها بشكل عشوائي ثوار عشوائيون ناقمون. بل أكدت في تلك المقالة أن تلك التفجيرات تمت برمجتها بعناية على الارض، كما تمت هندستها اعلاميا بقمة الذكاء كي تخدم هدف استراتيجي للكيان الصهيوني لطالما سعى اليه، وتمكن من تحقيقه. فتفجيرات ثوار سيناء وبعضهم من ميليشيات السيد ابراهيم العرجاني، قطعت الغاز المصري الرخيص المولد للكهرباء الاردنية، مضيفا أعباء اقتصادية على الاردن. ولكنها ايضا خدمت الاجندة الامريكية الصهيونية في قطع الاردن اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا عن محيطه العربي. تفجيرات "ثوار سيناء القبليين" التسعة عشر كانت في خدمة الهدف الصهيوني المتمثل باجبار الاردن على تحويل مصدر الطاقة لديه من مصادر عربية شقيقة إلى مصدر صهيوني، وهو ما جرى بالفعل حين تم توقيع اتفاق الغاز الاردني مع الكيان.

على مدى عقود طويلة كانت سيناء مصدر صداع بل رعب للدولة المركزية المصرية ولمؤسساتها. فصحراء سيناء اللامتناهية تبعد كثيرا عن دلتا النيل حيث تتركز هناك الدولة المصرية وحيث تحضر بقوة في كافة مناحي الحياة، على عكس حضورها الضعيف في سيناء. وما يجعل سيناء بمثابة الخاصرة الرخوة للدولة المصرية، هو جغرافيتها السياسية والديموغرافية والتي تجعل منها فناء خلفيا تلعب به الاصابع الصهيونية بل وتتحكم في ادق تفاصيله. فوجود سيناء الشاسعة كخط فاصل يعزل العمق الصهيوني عن العمق المصري المؤثر في دلتا النيل يجعل من سيناء مكانا مثاليا للصهيوني لتحويل سيناء إلى مكان وبيئة خادمة للكيان ومعادية للدولة المصرية. كما أن تجاور سيناء مع غزة يجعل من سيناء، جغرافية وسكانا في قلب عمليات التدخل والتحكم الصهيوني واجهزة مخابراته وتجسسه.

وعلى مدى عقود نجح الصهيوني في تحويل سيناء الى بيئة آمنة له ولكنها معادية للدولة المركزية المصرية وللمصالح العربية والاردنية تحديدا. فسيناء التي يقبع في وسطها قاعدة للقوات الامريكية التي تضمن اتفاق السلام المصري الاسرائيلي والذي يشترط حضورا محدودا ومقيدا للجيش المصري شهدت الكثير من عمليات القتل والارهاب التي طالت الدولة المصرية وجنودها، وضباطها ومرافقها. استهدف الارهابيون من ابناء العشائر كل ما ينتمي للدولة المصرية، كما استهدفوا المصالح الاردنية في سيناء. وحدها القاعدة الامريكية في سيناء ومصالح الكيان الصهيوني لم تستهدف، بل إن عشرات الكيلومترات من الحدود التي تفصل الكيان عن سيناء كانت اشبه بالحدود بين سويسرا وفرنسا من حيث الهدوء ونموذجية حسن الجوار.

في الانتقال من الاستغراب إلى الارتياب فاليقين حول مقاصد تشكيل اتحاد القبائل العربية في سيناء وحول هذه العودة المصرية إلى العشيرة والقبيلة وعصرهما وزمنهما سوف اشير ألى تفاصيل أريد لها أن تكون عابرة ولا تثير الاهتمام في الخطط الامريكية والاسرائيلية المتعلقة بمحاربة حماس وتحضير اليوم التالي الذي تختفي فيه حماس.

فقبل أشهر وفي ذروة اندفاع قوات الاحتلال الصهيوني في تدمير قطاع غزة إن كان على صعيد البشر أو البنية التحتية، كان لافتا حجم الاستهداف الصهيوني لكل المؤسسات المدنية التي تدير شؤون الناس في قطاع غزة. ووسط جبال الاخبار القادمة من غزة كان لافتا تلك الاخبار التي بدأت تتواتر عن قيام الكيان بوضع خطة يتم من خلالها استبدال مؤسسات الادارة المدنية التابعة لحماس في غزة، بعناصر ومجموعات من العشائر. وكان لافتا اظهار بعض عناصر العشائر وهم يقومون بتوزيع الطعام والمياه على الناس مع التركيز على هويتهم العشائرية. ففي الخطط الاسرائيلية الامريكية، فإن حماس تواجه من خلال بث الروح في الكتل العشائرية وفي نفث الاوكسجين في العصبيات العشائرية.

وفي موازاة الجهد الصهيوني في الاستثمار في العشيرة في مواجهة حماس وايديولوجيتها، كشفت بعض تفاصيل الخطة التي تعمل سلطة رام الله وتحديدا الجنرال ماجد فرج مسؤول أجهزة أمن السلطة الفلسطينية على وضعها فيما يتعلق باليوم التالي لهزيمة حماس في غزة. تبدأ الخطة التي تحدث عنها الجنرال فرج بتوزيع المعونات والدواء وتلبية الحاجات الانسانية، لتنتقل الخطة بعدها من الانساني الى السياسي، وهنا يبدأ عمل العشيرة وعمل العشائر. فوفق الخطة فان اعضاء من عشائر غزة سوف يتولون ادارة الشؤون العامة في غزة. تدرك السلطة الفلسطينية أنها لا تملك اي حيثية شعبية معتبرة في غزة بل وحتى في الضفة، لذا فهي تراهن على العصبيات العشائرية في مواجهة حماس وطوفان حماس في غزة كما في الضفة بل وفي الاقليم كله.

ما يجري في سيناء المصرية من تشكيل عشائري وقبلي تتوضح اهدافه من خلال الخطط التي تتحدث عنها سلطة رام الله كما التسريبات والافعال الاسرائيلية. فالمطلوب من عشائر سيناء أن تكون رديفا وامتدادا لعشائر غزة. وعلى حماس وبدلا من أن تواجه الكيان الصهيوني أن تواجه عشائر غزة داخل القطاع، وان تواجه حصار عشائر سيناء التي تحالفت هذه المرة مع سلطة السيسي في القاهرة بعد عقود من التمرد عليه. بل إن ما يحضر من سياسات وسياسيات قبلية وعشائرية يتجاوز غزة وسيناء ليصل الى الاردن حيث كان لافتا تلك الهجمة التي اتخذت من اسم العشيرة في الاردن خلال الاسابيع الماضية، وكان المحرك في كثير منها اعلام خارجي بعضه صهيوني وبعضه اقليمي يريد أن يضع العشيرة في الاردن في مواجهة حماس وفي مواجهة كل ما هو فلسطيني.

في توظيف العشيرة في مواجهة طوفان الاقصى وحركات المقاومة التي تقوده، يعود الغرب والكيان إلى نفس الادوات الكولونيالية التي لطالما استثمرت تلك الشروخ والتشققات التي تتنتج بفعل العشيرة والطائفة. كما يعود الغرب ليخترع لورنس عرب جديد تكون مهمته تأليب القوى القبلية أو العشائرية لتثور ولتخدم مشاريعه وسياساته في المنطقة.