عاجل / طوفان الأقصى وحالة الإنكار العربية!
كتب: كمال ميرزا
باستثناء اليمنيّين أصحاب الموقف الصريح والعملي الوحيد، فإنّ الأنظمة العربية منذ انطلاق "طوفان الأقصى" ما تزال تعيش حالةً غريبةً ومستهجنةً من الإنكار!
هذا الإنكار تبدّى على مدار الشهور السبعة الماضية من خلال مواقف وسلوك وخطاب هذه الأنظمة إزاء حرب الإبادة والتهجير الهمجية التي يشنّها العدو الصهيو - أميركي على الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزّة والضفة.
ولقد ظهر هذا الإنكار جليّا في البيان الختامي للقمّة العربية الأخيرة التي عُقدت في البحرين، والذي جاء بصيغة تشي بأنّ الأنظمة العربية ما تزال مصرّةً على التمسّك بثلاث مقولات أو مسلّمات أو حتميات لا تحيد عنها:
أولاً: الهيمنة الأمريكية.
ثانياً: التفوّق الصهيوني.
ثالثاً: القضاء على المقاومة.
ونفس الكلام ينطبق على التسريبات الأخيرة المتعلّقة بما يُسمّى "الخطة العربية الأمريكية لليوم التالي للحرب".
وتتباين حالة الإنكار بين نظام عربي وآخر من حيث الدرجة، وهي أشدّ حِدّة في حالة ما تسمّى أنظمة الاعتدال العربي.
أكثر ما يعنينا في هذا السياق هو موقف النظامين الأردني والمصري بكون هذين البلدين هما الأقرب والأشدّ التصاقاً بالقضية الفلسطينية، وبكونهما للمفارقة أكثر بلدين أمنهما الوجوديّ عرضةً للتهديد في حال نجاح مخططات القضاء على المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية.
بالنسبة للأردن، فهو ما يزال مُصّراً على خيار السلام "صَمْ" كما هو رغم مرور ثلاثين سنة على توقيع اتفاقية "وادي عربة" وما تخلل هذه الفترة الطويلة نسبيّاً من أحداث وتحوّلات جيوبوليتيكية، ورغم نزعة التطرّف التي أصبحت السمة الغالبة على سواد المجتمع الصهيوني بكافة تياراته وأطيافه حتى أولئك المحسوبين على "معسكر السلام"، ورغم التهديدات والتصريحات المعادية التي يطلقها مسؤولو الكيان ورموزه ليل نهار ضد الأردن وطبيعة نظرتهم إليه كـ "وطن بديل" و/ أو نواياهم تجاهه كجزء من "إسرائيل الكبرى"!
كما أنّ الاردن ما يزال مُصرّاً على تنفيذ ما تسمّى سياسات التحوّلين "الاقتصادي" و"السياسي" كما هي وكأنّ شيئا لم يكن، وهي السياسات التي تتقاطع بقصد أو دون قصد مع تصوّرات وترتيبات أمريكية للمنطقة ولـ "الحل النهائي" ولدمج الكيان الصهيوني في المنطقة من بوابة المال والأعمال وتشجيع الاستثمار و"السلام الاقتصادي" تعود لحقبة ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين أول.
وبالنسبة لمصر، فهي ما تزال تصرّ على لعب دور الوسيط المحايد مع أنّ البلل قد وصل إلى ذقنها فيما يتعلّق بأمنها القوميّ، خاصةً بعد سلبها ورقة "معبر رفح"، وإقامة قاعدة أمريكية على مرمى حجر من قناة السويس بذريعة الميناء الإنساني العائم، واقتراب فرض "التهجير" عليها كأمر واقع في حال استمرت الأمور على نفس المنوال.
وحتى ما يُشاع عن موافقة مصر على المشاركة في قوّة متعددة الجنسيات لـ "حفظ السلام" في غزّة هو إن صحّ إمعانٌ في الإنكار، وتجاهلٌ لحقيقة أنّ هدف مثل هذه الصيغة هو انتشال الكيان الصهيوني من ورطته، وسلب أهالي غزّة ومقاومتهم ثمرة صمودهم والأثمان التي دفعوها. وتجاهلٌ لحقيقة أنّ الهدف الإستراتيجي الأبعد للعدو الصهيو - أمريكي هو تفكيك قوّة مصر وإمكاناتها كدولة وشعب وجيش (كما حدث للعراق وسوريا) بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم فيها، وحتى لو كان هذا النظام يُعتبر "صديقاً" أو "حليفاً".
السلطة الوطنية الفلسطينية هي الجهة الوحيدة التي يبدو أنّها قد تجاوزت مرحلة الإنكار إلى مرحلة الاعتراف والإقرار، ولكنه إقرار قد قادها للأسف إلى اتخاذ موقف عدائيّ صريح من المقاومة، ليس فقط عبر الخطاب السياسي والإعلامي، بل وأيضاً عبر الاستهداف المباشر لقيادات المقاومة ومجاهديها في الضفة، وذلك بكون السلطة قد حشرتْ نفسها منذ وقت طويل في زاوية "التنسيق الأمني" الضيقة باعتباره المبرّر والمسوّغ الوحيد لوجودها واستمرارها في العيون الصهيونية والأمريكية.
عموماً، الإنكار هو "آلية دفاعية" يلجأ إليها الشخص الطبيعي أو الاعتباري للتخفيف من وطأة وهول واقع معين، وهي آلية "طبيعية" و"تلقائية" ولا تعتبر في حدّ ذاتها مظهراً مَرَضيّاً أو شاذّاً. ولكن المشكلة تقع وقد تترتب عليها نتائج كارثية في حال عَلِق المرء في حالة الإنكار، ولم يستطع تجاوزها إلى مرحلة الإقرار بالأمر الواقع والتعامل معه على حقيقته بعيداً عن أيّ آمال أو خيالات أو تهيّؤات.
وهناك خمسة عوامل يمكن أن تؤدي إلى إطلاق الإنكار كآلية دفاعية:
أولاً: الخوف.
ثانياً: المكابرة.
ثالثاً: الانفصال عن الواقع.
رابعاً: غياب المعلومات.
خامسا: الفجيعة، حيث أنّ الإنكار هنا هو المرحلة الأولى ضمن خمس مراحل متعاقبة تشمل: الإنكار، الغضب، المساومة أو التفاوض، اليأس أو القنوط، القبول والتسليم.
الخيار الخامس مستبعد في حالة أنظمة الاعتدال العربي، فلا يُعقل أنّ "طوفان الأقصى" وصمود المقاومة الفلسطينية وبطولاتها قد تسببت لهذه الأنظمة بـ "فجيعةٍ" حتى وإن أتى الطوفان بخلاف ما تخطط هذه الأنظمة وتأمل وتشتهي.
والخيار الرابع مستبعد أيضاً، فهذه الأنظمة لديها أجهزة احترافية كاملة تعمل في الخارج والداخل من أجل مدّ صانع القرار بالمعلومات والوقائع والحيثيات أولاً بأول. ونفس الكلام ينطبق على الخيار الثالث، فلا يُعقل أن ينفصل نظام كامل عن الواقع، وهذا الانفصال إن حدث فإنّه سينحصر في دوائر ضيقة أو على مستوى أفراد معيّنين بشخصهم.
يبقى هناك الاحتمالان الثاني والأول: المكابرة والخوف:
مكابرة أنظمة الاعتدال العربي، ورفضها الاعتراف أنّ المقاومة الفلسطينية ومجمل محور المقاومة قد كانا أكثر ذكاءً وحصافةً منها في تبنّي الخيارات، وبناء التحالفات، وعقد المراهنات، والإنحياز إلى إرادة الناس ونبض الشارع، والانحياز للأمن الوجوديّ لبلدانهم ودولهم على المدى الإستراتيجيّ البعيد.
وخوف أنظمة الاعتدال العربي من المجهول؛ فبالنسبة لهذه الأنظمة وتصوّراتها للمستقبل ومخيالها وتكوينها النفسي والإنفعالي هي ونخبها.. فإنّ عالماً يخلو من النفوذ الأميركي المطلق، ووجود الكيان الصهيوني كحقيقة من حقائق الكون، هو عالم مستحيل وغير موجود وغير مُعرَّف!
الشعوب العربية أيضاً تعيش حالة ملتبسة من الإنكار المشوب بالخوف والتوجّس والتردّد، ولا يمكن لومها على ذلك، فهذه حصيلة منطقية لعقود من التضييق، والتنكيل، وتزييف الوعي، وبثّ أسباب الشِقاق والفُرقة، وابتزاز المواطن العربي في أمنه وقوته ومعيشته اليومية هو وأفراد أسرته.
وهذا بدوره سبب إضافيّ لكره الأنظمة، جميع الأنظمة في العالم وليس فقط الأنظمة العربية، لـ "طوفان الأقصى"؛ حتى لا يصبح الضالّة المنشودة والنموذج المنشود الذي تبحث عنه جميع شعوب العالم للتحرّر والانعتاق من نير السلطة بمفهومها الواسع، أي سلطة النظام الرأسمالي العالمي، والسوق، والبنوك، والشركات، والأقلية التي تملك وتحكم وتتحكّم.. في مقابل الأكثرية التي تعيش تحت وطأة الهيمنة، والاستلاب، والاغتراب، و"الدارونية الاجتماعية"، و"الانتخاب الصناعيّ"، و"التحكّم الرقميّ"!