عاجل - من "كرسنايا بولانا" إلى "جباليا": الحقّ لا يموت!


كتب كمال ميرزا - 

أحيا الشراكسة حول العالم في 21 أيار/ مايو يوم الحداد الشركسي، أو يوم الحزن الشركسي، والذي يُسمّى بلغتهم الأم (شوغه ماف).

في مثل هذا اليوم من سنة 1864 تمّ الإعلان رسميّاً عن انتهاء القتال في الحرب التي استمرت لأكثر من مائة عام بين الجحافل الاستعمارية لروسيا القيصرية الطامعة باحتلال منطقة القوقاز بسبب موقعها الإستراتيجي وثرواتها الطبيعية، وبين الشراكسة وعموم الشعوب القوقازية المدافعة عن وطنها الأم.

إعلان وقف القتال جاء بعد آخر الهزائم التي مُني بها الشراكسة، وتحديداً "الويبخ"، وذلك في عاصمتهم وآخر معاقلهم مدينة "سوتشي" على البحر الأسود.

رواية "البذرة الأخيرة" أو "آخر المهجّرين" للكاتب الشركسي الأبخازي "باغارات شينكوبا" تؤرّخ لمأساة "الوبيخ".

"كرسنايا بولانا" هي منطقة في محيط "سوتشي"، ومعناها "التلة الحمراء"، ولقد أطلق عليها هذا الاسم لما شهدته من مجازر بحقّ الشراكسة ولكثرة ما شربته من دماء!

بعد هذا التاريخ بدأت رحلة الشتات الشركسي المستمرة حتى هذا اليوم، وهي رحلة لا تقلّ تفاصيلها مأساويةً وبشاعةً عن سنين الحرب نفسها.. سواء من حيث إغراق السفن بالمهاجرين من الشيوخ والنساء والأطفال "الفائضين عن الحاجة"، والإبقاء على الشباب من أجل إرسالهم للقتال على الجبهات المترامية والمتداعية للدولة العثمانية..

أو من حيث نبذ جموع المهاجرين الشراكسة في قرى مهملة ومناطق نائية وتركهم لتفتك بهم الأوبئة والجوع..

أو من حيث إعادة تهجير المهجّرين، وتشتيتهم بين ولايات ومناطق الدولة العثمانية مخافة أن يثوروا على أوضاعهم المزرية، وعلى الخديعة التي تعرّضوا لها على يد إخوانهم في الدين الأتراك الذين توقّفوا عن دعمهم ضد روسيا، وأغروهم بترك وطنهم الأم القفقاس، والهجرة إلى "جنّة الله في الأرض" تركيا حيث جناب السلطان!

لحسن حظ الشراكسة فإنّ غالبية شتاتهم خارج الولايات التركية قد جاء في الولايات والمناطق العربية ليكسبوا إلى جانب "أخوّة الإسلام" ميزة أخرى لا تقل أهمية هي اللغة العربية، ليس فقط لأنّها لغة القرآن ولغة الدين، بل لأنّ العربية كلسان وثقافة تعتبر كلّ من أتقنها وتحدّث بها إبناً لها وجزءاً من تكوينها الحضاري.

في الأردن تحديداً، فقد وصلت أولى أفواج المهاجرين الشراكسة سنة 1872، أي قبل حوالي 50 من تأسيس إمارة شرق الأردن، وقطنوا في الخِرَب والمُغُر المهجورة في محيط المدرج الروماني والسفح الشرقي لجبل القلعة مشكّلين نواة مدينة عمّان التي لم تكن قد تأسست بعد، وما زال الشارع هناك حتى هذا اليوم يحمل اسم اول قبيلة شركسية تصل إلى الأردن: شارع الشابسوغ.

وتتالت أفواج المهاجرين الشراكسة في بضع سنين، ليقطنوا فيما يعرف اليوم بمناطق المهاجرين/ راس العين، وناعور، ووادي السير، وصويلح، والرصيفة، والزرقاء، وجرش.. والتي كانت جميعها في تلك الأيام مجاري أنهار وسيول مهجورة وغير مزروعة أو مستصلحة، يبتعد أهالي المناطق المجاورة عن السكن فيها تلافيّاً لمجاورة الماء وما يحمله من بعوض وأمراض، خاصة الملاريا التي أخذت نصيبها هي الأخرى من أرواح الشراكسة!

"الجولان" أيضاً كانت من الوجهات الرئيسية للمهاجرين الشراكسة القادمين إلى بلاد الشام، الأمر الذي عرّض هؤلاء المهاجرين الذين هُجّروا مرتين قبلها إلى هجرة ثالثة بعد قيام الكيان الصهيوني باحتلال هضبة الجولان سنة 1967.

طبعاً الحديث هنا عن الشراكسة بعد الحرب الأخيرة مع روسيا القيصرية، وبعد الهجرة الأخيرة.. أمّا علاقة الشراكسة عموماً بالمنطقة وبالعالم العربي والإسلامي فتعود إلى قبل ذلك بكثير.

فالمماليك البرجيّة، الفرع الثاني من الدولة المملوكية بعد المماليك البحريّة، هم من الشراكسة، وقد تولّوا الحكم لقرابة 135 سنة.

وقد ساهم المماليك الشراكسة إلى جانب إخوانهم العرب والمسلمين في ردّ خطر المغول ودحرهم في معركة "عين جالوت" بقيادة السلطان "قُطُز". وكذلك حسم "الحروب الصليبية" نهائيّاً، وتحرير عكا، والقضاء على آخر المعاقل الصليبية على الساحل الشامي في صور.. وذلك على يدّ السلطان ذو الأصول الشركسية الأشرف خليل بن قلاوون.

عِبَر كثيرة يمكن أخذها من الحروب الروسية الشركسية، وتهجير الشراكسة، والحداد الشركسي:

منها ما يتعلّق بمثالب الاختلاف والانقسام والتشرذم ومحاربة العدو متفرّقين..

ومنها ما يتعلّق بسلوك القوى الاستعمارية مثل روسيا القيصرية، والتي تحاول في البداية أن تستميلك وتضمك إليها بالإقناع والإغراء والاحتواء، فإذا رفضتَ، تكشّر عن أنيابها، وتصبّ عليك جحيم غضبها، وتمارس بحقّك أبشع ممارسات القتل والدمار والتعذيب والتنكيل والاغتصاب وبقر بطون الحوامل ورمي الأجنّة للكلاب وحرق القرى والحقول..

ومنها ما يتعلّق بدور الخونة والعملاء الذين يبيعون أوطانهم وشعوبهم، أو دور عِليَة القوم من أصحاب السلطة والثروة (بالشركسية تحمادات جمع تحماده) الساعين إلى حماية جاههم ومصالحهم هم وذرّياتهم وسلالاتهم قبل حماية وطنهم وأبناء جلدتهم..

ومنها ما يتعلّق بالخذلان الذي يأتيك من إخوانك وأقرب الناس إليك، مثل العثمانيين الذين واظبوا على دعم الشراكسة بالسلاح والمال طالما أنّهم يدافعون عن تخوم الدولة، وطالما أنّ هذا يساهم في إضعاف وضعضعة مصالح الإمبراطورية الروسية المُنافسة.. ولكن في اللحظة التي تغيّرت فيها أولويّات الدولة العثمانية فقد توقفت عن دعم الشراكسة، وتركتهم للهزيمة والاستسلام، وباتت تغريهم بالهجرة إليها كي تسوق شبابهم للقتال تدعيماً لجيوشها المتقهقرة..

ومنها ما يتعلّق بالدول والقوى الكبرى التي تحاول إظهار نفسها بمظهر الحريص على أرواح البشر والشعوب، وتتنطّح للعب دور الوسيط، وهي التي لديها مخططاتها ومشاريعها المضمرة التي لا تقلّ خباثةً ووحشيةً عن مخططات بقية الفرقاء، مثل بريطانيا التي لعبت دور الوسيط بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية فيما يتعلّق بتهجير الشراكسة.

العبر كثيرة..

ولكن العبرة الأهم هي أنّ الشراكسة، وبعد مرور (160) سنة على تهجيرهم من القفقاس، أي أكثر من ضعفي المدّة التي مرّت على "نكبة فلسطين".. ما يزالون يذكرون وطنهم الأم، وما يزالون يحتفظون بـ "حنين التراب" كما أسماه "غازي شمسو" في كتابه، وما تزال جبالهم وأنهارهم وصخورهم وغاباتهم مغروسة في قلوبهم، وما تزال جراح أجدادهم غضةً نازفة في صدورهم، وما يزال عويل وصرخات وآهات الأطفال والشيوخ والثكالى تتردّد في أسماعهم، وما يزالون يحتفظون بأسمائهم وأنسابهم ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. وما يزالون متمسكين حدّ الرمق بحقّهم التاريخي والقانوني والأخلاقي بوطنهم الأم القفقاس، حقّاً لا يبلى مع الزمن ولا يسقط بالتقادم!

وبالمثل، فإنّ المراهنين على أنّ حقّ الفلسطيني بفلسطين، وحقّ كلّ عربيّ ومسلم بالقدس وبالمهد وبالأقصى، يمكن أن يضيع، وأن يكون مادة للتفريط والنسيان، هو واهمٌ أعماه غروره وعنجهيته وغطرسته، مهما بذل في سبيل ذلك من دهاء، ومهما حاك من مخططات ومؤامرات، ومهما اقترفت يداه من إبادة وتهجير وجرائم!

وإذا كانت الشخصية الشركسية تمتاز بأنّها ذات عزيمة وشكيمة، فإنّ الشخصية الفلسطينية في "جباليا" وفي "الشجاعيّة" وفي "الزيتون" وفي "بيت لاهيا" وفي "بيت حانون" وفي "القرارة" وفي "خان يونس" وفي "رفح" وفي "جنين" وفي "طولكرم" وفي "نور شمس" وفي سائر قطاع غزّة والضفة الغربية وعموم فلسطين.. قد أثبتت أنّها أقوى عزيمةً وشكيمةً، بل قد تكون النموذج المقاوم الأقوى عبر التاريخ..

وإذا كان الشركسي ما يزال يحتفظ بحقّه حيّاً بعد (160) سنة، فإنّ الحق الفلسطيني لا يمكن أن يموت ولو بعد ألف سنة، ونقول ألف سنة هنا من باب المجاز، لماذا؟ لأنّ القضية الفلسطينية لن تستمر لألف سنة، بل إنّ بشائر التحرير قد بدأت تُطلّ برأسها بالفعل مع "طوفان الأقصى" الذي أعاد الثقة بالنصر ولو بعد حين.

المُحتلّ هو المُحتلّ عبر الزمان والمكان، والاحتلال هو الاحتلال، ولكن بقيت هناك كلمة إنصاف لا بدّ أن تُقال.

فروسيا الاتحاديّة اليوم هي غير روسيا القيصريّة بالأمس، وليس من الإنصاف تماماً أخذ الثانية بجريرة الأولى، والنموذج الذي تحاول أن ترسيه روسيا اليوم هو دولة قوامها التعدّد، وتحافظ على التعدّد، وتحتفي بالتعدد، وتعتبر تنوع القوميات والعرقيات والثقافات داخلها مصدر قوّة وغنى وإثراء..

هل هي جادّة أم غير جادّة؟ وهل تنجح أم لا تنجح؟ تلك مسألة أخرى..

في المقابل، فإنّ نموذج الاستعمار الغربي بشقيه "الفرانكفوني" و"الأنجلوسكسوني" اللذين فرّخا لنا "الصهيونية"، يزدادان وحشيةً وفتكاً وعنصريةً وتطرّفاً وإجراماً ولصوصيةً ولا-إنسانيةً يوماً بعد يوم، ولا أدلّ على ذلك من حرب الإبادة والتهجير و"الأرض المحروقة" التي يشنّها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين، وذلك بالوكالة عن أسياده الغربيين، وشبكات هيمنتهم ونفوذهم ومصالحهم بامتداداتها العالمية، وتفرّعاتها المحلية عبر خونة وعملاء و"قطاريز" محلّيين!

في روايتها بعنوان "الخروج من سوسروقة"، تورد الروائية الشركسية الأردنية "زهرة عمر أبشاتسه" اقتباسات من "ملاحم النارتيين"، ومن هذه الاقتباسات:

"عندما يصل بطلنا سوسروقة
إلى مجلس النارتيين
ترعد السماء
وتهتزّ الأرض
فيجفل النارتيون
ويتراكضون ذعراً
ويقولون بصوت واحد:
- مَن الفارس القادم إلينا
الذي جعل السماء ترعد والأرض تهتز؟
وتصعد دماؤهم
غضباً إلى عيونهم
ولكن عندما يرون الفارس
يقابلونه باحترام
وكعادة النارتيين القديمة
يصفّون سبعة عمالقة لاستقباله".

"نارت سوسروقة" هو بطل الشراكسة الخارق، وأمّه "ستناي" هي سيدة الشراكسة وأمّهم الكبيرة، و"النارتيون" هم الشعب الأسطوري الذي يُنسب إليه الشراكسة.

وفي غزّة تحققت أسطورة النارتيين كما تحققت أساطير جميع شعوب وأمم العالم؛ ها هو "سوسروقة"، الذي يجعل السماء ترعد والأرض تهتز، قد تجسّد في هيئة "مقاوم" ملثّم تطلّ عيناه بذكاء من وراء كوفيّته، ينتعل "شحاطةً"، ويهزّ بصوته الممتلئ ثقةً وإيماناً كلّ العروش والجيوش والكروش وهو يصيح: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى"!