عاجل - في عيد الاستقلال: لأنّنا نحبّ الأردن نحن لا نسحّج!



كتب كمال ميرزا - 

يقول المثل العربي: "الصديق مَن صَدَقَني لا مَن صدّقني"، ويقول المثل الشعبي: "يا بخت مَن بكّاني وبكى عليّ، ولا ضحّكني وضحّك الناس عليّ".

ولأنّنا نحبّ الأردن فنحن نَصْدُقُه، ولأنّنا نحبّ الأردن نحن لا نُبكيه ولا نضحك عليه، نحن نَبكيه من أولئك الذين يضحكون عليه وعلينا!

هل التسحيج صعب؟!

أسهل شيء في العالم هو التسحيج، خاصةً عندما تكون المنافسة ضعيفةً وركيكةً وهزيلةً على شاكلة "السحّيجة المناوبين" و"السحّيجة المتطوّعين" الذين تزخر بهم الساحة والفضاء التواصليّ!

لو كنتُ المعنيّ بالتسحيج لما سرّني أن يُسحِّج لي أمثال هؤلاء، ولا سرّني أن يُسحَّج لي بهذه الطريقة!

ومع هذا فأنا لستُ ضدّ التسحيج، ولكن طالما أنّ هذا التسحيج موجّه للوطن، وموضوعه الوطن، وغايته للوطن.. لا أشخاص أو أجهزة!

سيأتيك أحدهم ويقول لك: لماذا التركيز على السلبيات؟ لماذا النظرة التشاؤميّة؟ لماذا النَفَس الهدّام؟ لماذا لا ننظر إلى نصف الكأس الممتلئ؟

ولمثل هذا الكلام الذي يبدو للوهلة الأولى وجيهاً ومُفحِماً.. يُقال:

لماذا يتّسع صدر الذين يدّعون حبّ الوطن والتحدّث باسمه لألف مدّاح ومزّمر ومطبّل، ولكنّه يضيق بمنتقدٍ واحد؟!

وليست العبرة في نصف الكأس الممتلئ، العبرة بأيّ شيء هو ممتلئ؟!

وللأسف، منذ عقود والأردن يعدم الإنجازات، الإنجازات الحقيقية؛ فلو أتينا على أيّ إنجاز "يُطنطَن" له، وحسبناها بالورقة والقلم، لوجدنا أنّ حجم الوقت والجهد والمال والفكر والأعصاب و"جَهْد البلا" و"غثا البال" والمخاطرة والمقامرة المبذول.. هو أكبر كثيراً كنسبة وتناسب من المُنجز النهائيّ المتأتي أو الحصيلة النهائية المتحقّقة!

هل من قبيل المصادفة أنّ هذا المنوال أو المنحى قد صار نمطاً متواتراً تقريباً منذ أن وقّعنا معاهدة للسلام؟!

ويبلغ التسحيج مرحلة السماجة عندما يتحوّل إلى مكابرة، وأسمج عندما ينقلب إلى مزاودة!

أنا أحبّ وطني حدّ الوله، وأغار عليه من نسمة الهواء، ولا أرضى أن يزاود عليّ أحدٌ في ذلك مقدار ذرّة، خاصة أولئك الذين يحبّون أوطانهم بحكم الوظيفة، والمنصب، والراتب، والعلاوات، والبدلات، والمكافآت، والامتيازات، والهبات، والعطايا.. فإذا حُرموا منها سخطوا، وارتدّوا إلى منظومة انتماءاتهم الضيقة وهوّياتهم الفرعية، يستقوون بها، ويسلِقون الوطن بألسنةٍ حِداد، ويبتزّونه بها حتى يسترضيهم ليرضوا!

أحياناً يُشعرك البعض أنّ حبّك لوطنك هو خطأ يجب أن تعتذر عنه وخطيئة يجب أن تكفّر عنها فقط لأنّك لا تنسجم مع مفهومه الخاص لما ينبغي أن يكون عليه حبّ الوطن.

حسناً، أنا آسف على هذا الاختلاف في مفاهيم يُفترض أن تكون موضع إجماع، ولكنّني قطعاً لن أعتذر!

لن أعتذر أنّني لا أقيّف الوطن على مقاس أشخاص أوّلهم أنا، ولا على مقاس مصالح أوّلها مصلحتي الشخصية.

ولن اعتذر أنّني لا أقيّف ولائي وانتمائي على مقاس حدود مصطنعة رسمها الاستعمار ذات سكرة أو عطسة، ثم أصبحت للبعض هي الابتداء والانتهاء يقدّسونها قداسةً لا يقدّسونها لله وشرعه وشعائره!

ولأنّني أحبّ الأردن فأنا أجلّه وأنزّهه من أن يُحصَر بين أربعة جدران بعيداً عن انتمائه العربيّ وعمقه الإسلاميّ وامتداده الإنسانيّ.

الأردن ليس مجرد دولة أخرى في الجوار، والأشقاء حولنا ليسوا دولاً أخرى في الجوار، نحن جميعاً الجوار.. والزرع الشيطاني النابت وسطننا المسمّى الكيان الصهيوني هو ما يفسد هذا الجوار!

"في حجم بعض الورد" نعم، ولكن انتماء الأردن بحجم الوطن الأكبر عربيّاً وإسلاميّاً، ودون ذلك ستذبل وردته وسيبقى في حجم بعض الشوك يجرح نفسه قبل أن يجرح الآخرين!

لعل سبب الالتباس واللغط الحاصل في مثل هذه الموضوعات الشائكة هو غَلَبَة العاطفة والحميّة والعصبيّة، والأهم، اختلاط المفاهيم.

هناك الوطن.. وهناك الدولة!

كلاهما بالنسبة لبعضهما البعض كوجهيّ العملة، أو كباطن اليد وظاهرها، أو كبطينيّ القلب الأيمن والأيسر، أو كجناحيّ الطائر اللذين لا يستطيع الطيران والتحليق دونهما حسب تعبير الشاعر "رسول حمزاتوف"..

ولكن المهم، والشيء الأساسيّ، أنّ العلاقة بينهما ليست متكافئةً بالاتجاهين؛ فالوطن شرطٌ للدولة ولكن الدولة ليست شرطاً للوطن!

بمعنى أنّ الدولة لا تكون دولةً إلا إذا كانت قبل ذلك وطناً، ولكن الوطن يبقى وطناً حتى لو غابت الدولة!

المثال الأقرب والصارخ والأنصع هو فلسطين؛ ست وسبعون سنة والفلسطينيون محرومون من دولة ينضوون تحتها، ولكن فلسطين، كلّ فلسطين، لم تتوقّف لحظة عن كونها وطناً لهم ولكلّ حرّ حتى في شتاتهم، وأينما حلّوا، يورثون حبّها وحقّهم فيها لأبنائهم جيلاً بعد جيل.

والمثال المقابل هو الكيان الصهيوني، فهو على الورق دولة "شرعيّة" معترف بها رسميّاً منذ ست وسبعين سنة، ولكن هذه الدولة برغم كلّ ما فعلته وما بُذل من أجلها لم تنجح بأنّ تصبح وطناً لشذّاذ الآفاق الذين ينتمون إليها، يغادرونها عند أول رصاصة، ولا تجد سبيلاً لإطالة عمرها وبقائها سوى بالإرهاب والإجرام، أو الاستعانة بالمرتزقة للذودّ عنها، أو أن تلوذ بالقوى الغربية الغاشمة التي أسّستها وتمدّها بمقوّمات استمرارها.

والأخطر من عدم التمييز بين الوطن والدولة، وجعل الدولة شرطاً للوطن والمواطنة وليس العكس، هو عندما يصبح هناك خلط بين الدولة والشركة؛ فعندها يتحوّل الوطن والدولة وكلّ ما يمتُّ لهما بصلة إلى سلعةٍ قابلةٍ للبيع والشراء وفق شروط السوق وقوانينه ومتاحةٍ لمَن يدفع!

لهذا كلّه نحن في الأردن نحبّ "طوفان الأقصى"..

ليس فقط لأنّه جهاد نصرٌ أو استشهاد..

وليس فقط لأنّه تجسيد لمعاني البطولة والصمود والفداء..

وليس فقط لأنّه نقيض السوق وقيمها، والبيع والشراء وأخلاقهما..

وليس فقط لأنّه الطريقة التي تدافع بها الشعوب الحيّة عن أوطانها ومقدّساتها ضد محتلّيها، وتكسر قيودها، وتخرق "جدار خزّانها"، وتتخلص من "أبي خيزرانها"، وتنتزع لها دولةً ومكاناً هي الأجدر به تحت الشمس!

بل لأنّ الأردن، بلدي، وسائر بلدان المنطقة، هم أول المستفيدين من "طوفان الأقصى"!

فلا سمح الله لو نجحت مساعي العدو الصهيو - أمريكي في كسر شوكة المقاومة أو القضاء عليها، فإنّ الأولوية ستنتقل مباشرة إلى بقية بلدان المنطقة لإعادة هندستها وفق مقتضيات ومتطلبات المرحلة القادمة..

وعندها للمفارقة، لن تجد الأوطان والدول والأنظمة أحداً ينتصر لها ويذود عنها سوى المغضوب عليهم حالياً من غير المسحّجين، أمّا المسحّجون الحاليّون فسيكونون أوّل مَن "يكحّل" للمغادر القديم ويهلّل للقادم الجديد!

من أحبّ الأغاني الوطنية إلى قلبي، تلك التي لم نعد للأسف نتقن تأليفها وتلحينها وغنائها منذ زمن بعيد، أغنية "يا بلادي":

"مثلما يكبر فيكِ الشجر الطيب نكبر..
فازرعينا فوق أهدابكِ زيتوناً وزعتر..
واحملينا أملاً مثل صباح العيد أخضر..
واكتبي أسماءنا في دفتر الحبّ نشامى..
يعشقون الورد لكن يعشقون الأرض أكثر"..

لن أخوض في جدليّة أيّهما أولاً وأيّهما أولى: الورد أم الأرض؟!

بل سأقول: نحن.. البشر.. الإنسان.. "النشامى" الذين يتلفّح "أبو عبيدة" شماغهم.. نحن الورد والأرض.. ونحن الوطن!

الإنسان هو الوطن، لذا فإنّ استقلال الأوطان الحقيقيّ هو بمقدار ما يتحرّر الإنسان وتصان كرامته وحقوقه، وأول حريّة وكرامة يحتاجها الإنسان من أجل تكريس معاني الاستقلال ألّا يكون مضطرّاً للتسحيج كي يثبت حبّه لوطنه وجدارته به، وألّا يكون مضطراً للتسحيج ليعيش!