تصنيف وكالة "موديز" لقدرتنا على الاستدانة.. فرصة ام مصيدة ؟
لا زلت اذكر الحوارات الاقتصادية الساخنة التي كانت تخوضها الصحف اليومية الرسمية خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بين كبار المخضرمين من الاقتصاديين، بمن فيهم د. عبد الله المالكي ود. فهد الفانك ود. جواد حديد وغيرهم من كبار الاقتصاديين. الحوارات المنتظمة كانت حول تشخيص الواقع الاقتصادي وعن خيارات الرؤية والسياسة الاقتصادية في المملكة.
وقتها، كان الاعلام الاقتصادي والمالي في ذروته من حيث الحرية والتنوع والتدافع في الأفكار وفلترتها على أمل تحقيق مستقبل اقتصادي أفضل. ويدعم ذلك: بيئة حرية التعبير، وعراقة المؤسسات الصحفية الرسمية، ونوعية التعليم الجامعي وقتها، وكذلك استجابة الحكومات والمؤسسات الرسمية للرأي الاقتصادي المستقل آنذاك.
والكاتب هنا لا يركز على نوعية أو جودة مخرجات الحوار الاقتصادي (فهذا يصعب القيام به بعجالة وبمصداقية في آن واحد الآن)، وانما التركيز على "العملية" التحاورية بحد ذاتها وعلى حرية الرأي والرأي الآخر.
حالياً، وللأسف، دخل على مسرح الإعلام الاقتصادي متغيرات معاكسة عديدة جعلت من القيمة المضافة لأفضل الآراء والكتابات الاقتصادية أقل نفعاً، بل هي في نهاية المطاف أقرب ل: صرخة في وادٍ، أو مجرد "ضجيج" أمام قلاع بيروقراطية. ناهيك عن التطفل الاقتصادي ل "بعض" الكتّاب والكتابات غير المؤهلة أو المتحيزة، إضافة الى نوعية الآراء القابلة للتفنيد من قبل طالب فطين أنهى درجة البكالوريس في الاقتصاد في المملكة المتحدة. ولو أراد أمثالنا شهرة التواصل الاجتماعي لعمل على التعليق والنقد الحاد لتسونامي "الخواطر" الاقتصادية في الصحف المحلية الرسمية وغير الرسمية. طبعاً أقول هذا دونما تعميم مخل، فلا يزال هنالك فكر ومقالات اقتصادية تُرفع لها القبّعات، لكنها للأسف محدودة.
وبخصوص مراجعة وكالة "موديز" مؤخراً لتصنيف الاقتصاد الاردني، اعتبرتها جهات مصرفية ورسمية نصراً اقتصادياً، فيما قلل آخرون من حجم هذا الانجاز بالمقارنة مع حجم التحديات وتعقّدها واستجابة الحكومات لها. هذا الكاتب يتعاطف مع الرأي الثاني، ومن الممكن ايراد العديد من الحجج القوية لصالحه، من أبرزها:
1-هنالك حالياً ثلاث وكالات كبرى للتصنيف الائتماني الدولي، هي موديز و"ستاندارد آند بورز" و"فيتش"، ووكالة موديز هي الوحيدة التي رفعت من تصنيفها للملاءة المالية للاقتصاد الأردني مؤخراً، في حين أكدت البقية على تصنيفها السابق دون اي تغيير ايجابي أو سلبي.
وقد يُقال هنا: ان مجرد التثبيت هنا هو انجاز أيضاً في ظل هذه الظروف، لكن هذا يعتمد على عدة اعتبارات:
أولاً: حجم الاستجابة الحكومية للتحديات الراهنة والمتراكمة على مختلف الصعد المالية والاقتصادية والاجتماعية والاستثمارية والتصديرية، وبمختلف الأدوات التشريعية والضريبية والتمويلية (الائتمانية) والرقابية (التنظيمية) والمؤسسية (الإدارية) والمعلوماتية،
ثانياً: الموازنة الحصيفة بين مختلف مؤشرات التنمية الاقتصادية (بما فيها البطالة الهيكلية والنمو المستدام والتنافسية الدولية) ومختلف مؤشرات الاستقرار المالي (بما فيها المديونية العامة والخاصة والقدرة على السداد)، ودرجة الاستدامة فيهما (في ظل دعم "الصندوق" أو غيابه).
ثالثاً: النقطة التالية أدناه.
2-ان مفهوم "التثبيت" و"الاستقرار" و"التوازن" في تقييمات وكالات التصنيف الائتماني تحديداً لا يحمل -بالضرورة- مضامين ايجابية من منظور شمولي، فقد يكون التثبيت عند مستويات سلبية أو غير مرغوبة أصلاً. كما إن "التوازن المالي" الراهن قد يكون مصاحباً لمستويات عالية من المديونية والبطالة وشح السيولة وتعثر الشركات لأسباب عائدة حصراً الى ثبات ثقة المستثمرين الماليين الأجانب (وليس المستثمرين المحليين) فيما يخص الجدارة الائتمانية والمقدرة على السداد (وربما بسبب تصاعد المديونية المحلية على حساب نظيرتها الخارجية).
3-تركز مراجعات مؤسسات التصنيف الائتماني وكذلك تقييمات صندوق النقد الدولي على قدرة الدولة على السداد والوفاء بالالتزامات الخارجية وقدرتها على الاستدانة من جديد وعلى حفظ حقوق الدائنين (من خارج الأردن فحسب)، وبالتالي تعطي هذه المراجعات والتقييمات وزناً عالياً للإصلاحات الحكومية المالية وأداء الموازنة العامة وميزان المدفوعات (التوازن المالي الحكومي).
أما مؤشرات التنافسية الدولية والتنمية الاقتصادية ومؤشرات التنمية الاجتماعية والمديونية الخاصة للأفراد والشركات والقطاع الخاص، فهي بالنسبة لأجندتهم أقل أهمية أو ضعيفة الصلة.
بناء عليه، ووفقاً لتأويل معين على الأقل، فان مدح هذه الوكالات -إن تحقق عندها كلها- ليس مرغوباً بالضرورة، فلسنا بحاجة الى مزيد من الاستدانة والتنمية التابعة غير المستقلة.
4-تخفيض تكاليف الاقتراض الخارجي هي من مزايا التصنيف الأفضل لوكالات التصنيف الائتماني، لكن هل نحن بحاجة الى التمويل الخارجي الميسر، في ضوء: (أ) التوجه الحالي لتبني خيار الإقتراض المحلي من البنوك والضمان، و(ب) ارتفاع المديونية العامة الى مستويات قياسية. وباعتقادي لابد من دراسة فعالية التمويل الإضافي عموماً في تحقيق غايات التنمية خلال العقد الأخير. أما الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI)، فهو يعتمد أكثر على اعتبارات طويلة الأجل مثل: حجم السوق المحلي (والإقليمي) ونموه واستقراره وتنافسيته في مجال الأجور وتكاليف الإنتاج والتشغيل الأخرى (كالطاقة) وانتاجية العامل، الى جانب جوانب تشريعية ومؤسسية ورقابية وضريبية متنوعة.
5-وأخيراً، ووفقاً لما تم التأكيد عليه في مقال سابق للكاتب (في تقييم الأداء الاقتصادي 2019)، فان التقييم الاقتصادي هو الى حد كبير تمرين معياري ولا تستطيع الاحصاءات الاقتصادية الواقعية والتفسيرات المالية الجزئية -مهما كانت دقيقة ونهائية- أن تحسمه لوحدها.
لكن من السذاجة انتقاء بعض المؤشرات للدلالة على اتجاه معين، مع تجاهل مؤشرات أخرى لإظهار ان «الإقتصاد بخير» أو العكس. على اية حال، يبقى «النمو الاقتصادي التشاركي والمستدام وطويل الأجل»، مع أخذ النمو السكاني وتوزيع منافع النمو بعين الاعتبار، هو المؤشر الأشمل لتعافي الاقتصاد واستجابته للخطط والسياسات الرسمية. والبقية عندكم. وباختصار، تصنيف "موديز" الأخير (وثناء صندوق النقد الدولي الاعتيادي على برامجه) هو خطوة إيجابية إذا ما تم استثماره والبناء عليه لتحسين مستويات معيشة وملاءة الأفراد، وهو مصيدة إذا ما ضخّمناه واكتفينا به.