عاجل - آخر الصقور شُرْدُم: لو أنّك وافقتَ يا باشا!
كتب: كمال ميرزا
أمس، بالتزامن مع احتفالات الأردنيين بيوم الجيش، تناهى لأبناء الأسرة الشركسية وعموم أبناء الأسرة الأردنية الواحدة خبر وفاة الفريق أول ركن الطيّار "إحسان شُرْدُم" رحمه الله.
جميع الأردنيون يعرفون الشهيد الطيّار "موفق السلطي" تقبّله الله في عِليّين، والذي قضى نحبه في معركة "السمّوع" التي كانت إرهاصةً لخوض الأردن حرب الـ 67 بعدها بأشهر قليلة..
وجميع الأردنيون يعرفون الشهيد الطيّار "فراس العجلوني" تقبّله الله في عِليّين، والذي التحق بالرفيق الأعلى في حرب الـ 67 نفسها بعد أن "قضى العدوّ على سلاحنا الجويّ الطريّ العود بالرغم من شجاعة طيارينا واستبسالهم" على حدّ تعبير الملك الراحل "الحسين بن طلال" في كتاب "حربنا مع إسرائيل".
الجميع يعرفون البطلين "موفق" و"فراس"، وهناك الكثير من المرافق العسكريّة والمدنيّة في الأردن التي تحمل اسميهما، وهناك جيل كامل من الأردنيين الذين اسماهم أهلهم "موفق" و"فراس" تيمّناً بهذين الشهيدين البطلين.
ولكن مثلث البطولة في السماء في تلك الحقبة، لا تكتمل أضلاعه دون أن يُضاف إلى "موفق" و"فراس" اسم "إحسان شردم" رحمه الله.
"موفق" و"فراس" أثخنا في العدو واستشهدا، و"إحسان شردم" أثخن في العدو أيضاً، بل أثخن فيه أكثر مما أثخن أي طيّار أردنيّ آخر.. وإرادة الله تعالى شاءتْ أن تُكتَب له الحياة.
في تلك الحقبة، عندما كان الصراع في أوجه، والبوصلة تشير إلى فلسطين ولا شيء غير فلسطين، كان "موفق" و"فراس" هما الشهيدان الغائبان، وكان "إحسان" وزملاؤه هم الشهداء الأحياء!
المرحوم "شردم" قد أُنصف وظيفيّاً في حياته، فقد ترقّى وتدرّج في سلاح الجو الملكي الأردني حتى صار قائداً له، وبلغ رتبة فريق أوّل وهي رتبة لا يبلغها إلّا القلّة القليلة من منتسبي القوات المسلّحة.
وبعد تقاعده أصبح عضواً في مجلس الأعيان الأردني لفترة من الزمن، إضافة لكونه أحد وجهاء وأعيان الشراكسة البارزين في الأردن.
ولكن على المستوى الشعبيّ والرمزيّ فإنّ "إحسان باشا"، هكذا نناديه، لم يحظَ بحفاوة وشهرة تتناسب مع حجم مآثره في قتال العدوّ الصهيوني أسوة بشقيقيه "موفق" و"فراس" وبقيّة صقور سلاح الجو و"نشامى" جيشنا العربي.
هل هذا تقصير من قبل القائمين على الإعلام بشقّيه الرسمي والخاص والتوجيه المعنويّ؟
هل هذا تقصير من القائمين على مناهج المدارس ومقرّرات التربية الوطنية في الجامعات؟
هل هذا مثال على سحر الشهادة، وذلك الألق والغموض وتلك الهالة والهيبة التي يضفيها على اسم الشخص موته بطولةً وفداءً.. في مقابل أولئك الذين يبقون على قيد الحياة؟
هل هذا مثال على الفارق بين أن يقضي المرء نحبه في زمن الحرب والمواجهة.. وبين أن يتطاول به العمر فيدرك زمن السلام الذي لا يحتمل الحلول الوسط: إمّا أن يُقصيكَ أو يطالكَ أو يحرقكَ؟!
أم أنّ المسألة مزيج مركّب من هذا وذاك وذاك وذاك؟
بالنسبة لإحسان شردم "الشخص الطبيعي" فإنّه قد انتقل إلى رحمة بارئه، وأفضى إلى ما قدّم، ولم يبقَ له في ذمّتنا ولنا في ذمّته سوى الدعاء له بالرحمة والمغفرة.
وبالنسبة لإحسان شردم "الشخص الاعتباري" فإنّ له تجربةً طويلةً وسيرةً حافلةً تستحق أن تؤرّخ وأن تُستخلص منها الدروس والعِبَر.
وبالنسبة لإحسان شردم "الشخص الرمزي" فإنّه يمثّل إلى جانب أبناء جيله ممّن نازلوا العدو وطاعنوه ولم يهنوا في طلبه منظومةً من قيم البطولة والفداء والإقدام والمواجهة نحن أحوج ما نكون لاستحضارها وتمثّلها.. وذلك في ضوء هذا الظرف العصيب الذي تمرّ به الأمّة والقضية الفلسطينية، والشرور والمخططات التي تحيق بالدول العربية، وحرب الإبادة والتهجير المُمنهجة التي يتعرض لها أشقاؤنا في فلسطين.
في حدود علمي فإنّ "إحسان شردم" قد كان "آخر الصقور"، أي آخر أبطال سلاح الجوّ الأردني ممّن أدركوا حرب الـ 67 وأبلوا فيها أقصى جَهْدهم في حدود الإمكانات والقدرات المتوفّرة بين أيديهم أيّامها.
ولا أدري ما إذا كان "إحسان باشا" بهذا المعنى هو أيضاً آخر الصقور العرب؟
شخصيّاً لا تربطني بـ "إحسان باشا" قرابة مباشرة أو معرفة شخصيّة.
وآخر عهدي به أنّني اقترحتُ على أصدقاء ممّن يعملون في مجال صناعة الأفلام قبل خمسة أو ستة أشهر صناعة فيلم عن حياته، وقد تحمّسوا للفكرة، وطلبوا مني التواصل معه وعرض الفكرة عليه وأخذ موافقته.
وبالفعل، فقد تواصلتُ مع "إحسان باشا"، وعرضتُ عليه الفكرة، وقد اعتذر بكل دماثة ولطف نظراً لـ "حساسيّة الظرف الحالي"، وكم كنتُ أتمنى لو أنّه وافق لسببين:
أولاً، أنّ سيرة وتجربة أشخاص مثل "إحسان باشا" وغيره من أبناء هذا الرعيل عسكريّين ومدنيّين كلٌّ من موقعه هي شهادةٌ على عصر، وحقٌّ للوطن والأجيال القادمة.
ثانياً، أنّ إحجام أصحاب الشأن عن الإدلاء بدلوهم وتقديم شهاداتهم المعزّزة بالمعلومات والحيثيات.. يشرع الباب أمام اجتهادات الآخرين، ويضع الكرة في ملعبهم من أجل ملء الفراغ برواياتهم ورؤيتهم الخاصة للأحداث والوقائع والأشخاص.
الرحمة لروح الفقيد "إحسان باشا شردم"، وحسن العزاء إلى أبنائه وأسرته ومحبيه. وتالياً اقتباس من كتاب "حربنا مع إسرائيل" يتطرّق فيه "الملك الحسين" إلى البلاء الحَسَن الذي أبلاه "شردم" في حرب الـ 67:
((... جمعتُ الطيّارين الأربعة عشر الذين سَلِموا وخاطبتهم قائلاً:
ـ دمّر العدوّ طائراتنا كلّها. فيجب أن تضعوا أنفسكم بتصرّف العراق أنتم والعناصر التقنية التابعة لسلاح الطيران، وذلك قبل انتهاء المعركة.
وأعددتُ بنفسي تلك الليلة ترتيبات سفرهم بواسطة النقل الوحيدة المتوفرة: سيارة نقل عسكرية. فأقلّتهم إلى القاعدة العراقية H.3 الواقعة على الحدود الأردنية - العراقية. وفور وصولهم وضع العراقيون بتصرّفهم طائرات من طراز (هوكر هنتر). وتمكّن ثلاثة من طيّارينا من إسقاط تسع طائرات معادية منها عدد من (الميستير) وثلاث (ميراج) وذلك خلال هجوم جوي إسرائيلي على القاعدة العراقية وعلى الرغم من افتقارهم إلى رادار ينذرهم ويرشدهم.
وقد أسقط نقيب طيّار هو "إحسان شردم" وحده طائرة (ميراج) وطائرتي (ميستير) وطائرة (فوتور) كانت عائدة من إغارة على محطة H.3. ولمّا كانت (الميراج) أسرع من (الهوكر هنتر) وأفضل تسليحاً، كان النقيب "شردم" ينتظر عودتها من الغارة بسرعة معتدلة وقد نضب الوقود في خزّاناتها أو أوشك، ليهاجمها في ظرف مواتٍ له. وخلال أحد الاشتباكات حاول "شردم" إنجاد رفيق له كان في مأزق، وتمكّن من إسقاط طائرة معادية، ولمّا همّ بالانقضاض على طائرة أخرى، طرأ عطل على الرشاش فانتهز الطيّار الإسرائيلي الفرصة ونجا بنفسه وبطائرته.
واستمرّ طيّارونا في بذل ما في وسعهم حتى اللحظة الأخيرة. فيوم الأربعاء 7 حزيران، يوم وقف إطلاق النار، هاجمتْ ستّ طائرات إسرائيلية مرّة أخرى قاعدة H.3 العراقية، فتمكّن طيّارونا من إسقاط أربع منها، وقد قُتل طيّاران معاديان، ووقع في الأسر طيّاران آخران)).