اعترف العالم بالضحيّة ولم يعترف القاتل بجريمته



تنظرُ، اليوم، إلى كلّ أب فلسطيني يرفع جثمان طفله إلى السماء، فترى فيه جدّ الأنبياء إبراهيم مضحّياً بابنه. لا فرق أكان اسحق أم إسماعيل، فكلّ الأبناء فلذات كبد، من التوراة إلى الإنجيل والقرآن، وكان فعل التضحية قرباناً إلى الله فعلاً مقدّساً. وها هو عيد الأضحى المبارك يحلّ علينا، فيحتفل نحو ملياري مسلم بالمناسبة، فيما يضحّي أهل فلسطين بأبنائهم من أجل الإنسانية والحق في الوجود والعيش بكرامة وحرية. هي الحياة التي يستحقها كلّ إنسان بمعزل عن دينه أو لونه أو جنسه. فمن سمح لإسرائيل بأن تكون ربّاً يملك حق تقرير مصير شعب بأكمله، ويمدّها العالم بالعون والدعم والعتاد ويحميها من العقاب حتى تفرغ من حفلة جنونها الحاقد الغارق في دمويّته.

في غزة لا ثياب عيد ولا أضحيات واحتفالات، لا مآدب هناك يتحلّق حولها الأجداد والأحفاد، إنّما هم يتحلّقون حول جثمان طفل أو أمّ أو أب، لا فرق. المهم أن في كلّ بيت أكثر من ضحية، ولم يحلّ الأضحى بعد. لا مفرقعات نارية، فالجيش الإسرائيلي تكفّل بالأمر وأشعل سماء المنطقة بل أشعل أرضها أيضاً. في غزة لم تحدث المعجزة بعد، ولم يظهر كبش ليحلّ محل أطفال فلسطين الذين لم يرحمهم سكين الاحتلال من الذبح ولا من النار. في فلسطين ما زالوا يؤمنون بالمعجزات. ما زالوا ينتظرون ويناجون من يعبدون، لم يبدّلوا إيمانهم ولم ينكروا أنبياءهم، كما فعل ويفعل كثيرون كلّما أشاحوا بوجوههم عن ويلات الحرب الإسرائيلية على غزة وصمّوا آذانهم عن بكاء عشرات آلاف المكلومين وأنينهم.

كانت فلسطين قضية العرب الجامعة قبل أن تكون قضية الجامعة العربية، ولكنّ العرب لم ينتظروا صياح الديك لينكروها، فأنكروها في ظلمة الليل والظالمين. أهو العجز فعلاً ما يحول دون خروج حاكم عربي يرفع الصوت ويهدّد بفعل ما؟ أيّ فعل قد يسهم في وقف شلّال الدم الهادر. هل يدرك العالم أنّ حجم الغضب والحقد الذي تولّده مشاهد ما يحصل اليوم، رغم محاولات حجبها بكل السبل، يساوي آلاف الشهادات بل الملايين حول الهولوكوست وأكثر. لا حاجة هنا إلى رواية عن جدٍّ فرّ من معتقل أو نجا من محرقة. لا حاجة إلى شهادات عن مجازر جماعية ومقابر.اليوم، يتابع العالم أجمع حرب إبادة جماعية تبثّ على الهواء مباشرة، ولا قدرة لأحد على إيقافها. حرب إبادة يقوم بها شعب بنى أسطورته على أنه ضحية إبادة، وها من بقي من هذا الشعب، أو بعضه على الأقل، يرتكب جريمة أبشع وأقسى وأفظع من تلك التي اُرتُكبت بحقه. وهو يرتكبها بحق شعب لا علاقة له بتاريخ المحرقة، بل هو الشعب الذي خسر أرضه بحجة التعويض على اليهود عمّا أصابهم.

يتحدث بعض المسؤولين العرب، اليوم، عن مبادرة السلام التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002، وتبنت مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بشأن تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية شريطة "الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان. والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية". وكأنّ شيئاً لم يحدث منذ ذاك التاريخ حتى اليوم. يتجاهلون كلّ ما ارتكبته إسرائيل من مجازر وحروب عقب طرح تلك المبادرة. حديث بعض العرب في يومنا هذا عن مبادرة العام 2002 كأنها أقصى ما يمكن أن يخرج به الإجماع العربي، يؤكّد مدى التراخي بل الترهل في هذا العالم الذي وصل إلى سن اليأس. لا يملك العرب القدرة على قلب الطاولة، ولا على الخروج على العالم بمشروع أو خارطة طريق يمكن أن تنتهي إلى حل عادل ودائم. يبدو العرب اليوم، رغم كل ما يمتلكونه من ثروات وتقنيات ومشروعية، أعجز من أن يقودوا المنطقة إلى بر الأمان والاستقرار والطمأنينة فالرخاء.

اعترفت أخيراً إيرلندا والنروج وإسبانيا، وقبلها سلوفينيا وجامايكا وترينيداد وتوباغو وبربادوس وجزر الباهاما، بالدولة الفلسطينية. هو اعتراف بمقتل نحو 35 ألف طفل وامرأة وعجوز ورجل، ذهبوا ضحية رفض إسرائيل منحهم الحق بالوجود والاعتراف بدولتهم. اعترف العالم بوجود قاتل، ولكن ليس ثمة إمكان لمحاكمته، فهو يرفض الاعتراف بجريمته، جريمة يريد لنا البعض أن نتخطاها وننسى ما شهدناه وما عشناه، وأن نرضى بأن نعيش معه جنباً إلى جنب ونتجاهل تلك السكّين التي يشهرها في وجهنا ولا يخفيها. كأنه يكفي أنّ إسرائيل ستسمح لنا بالحياة ولن تقدّمنا أضحية في أعيادها.

في فلسطين، يعيش الفلسطينيون الأضحى كلّ يوم، شاؤوا أم أبوا، ولكن لا بد للسماء من أن تفتح أبوابها لدعاء المظلومين. فـ «يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم» كما قال الأمام علي بن أبي طالب.