الموقف الملتبس وغير المفهوم لدول الاعتدال العربي ؟

 

فكرة تفكيك وتمييع وتذويب حقيقة أنّ الكيان الصهيوني يمثّل العدو الأول والخطر الأكبر الذي يتهدّد جميع الدول العربية..

وفكرة تكريس "إيران" وما يُطلق عليها "أذرع إيران" في المنطقة باعتبارها العدو "الجديد" الذي يهدّد العرب ويتربّص بهم بدلاً من العدو "القديم"..

وفكرة تكريس أنّ الدول العربية، خاصةً ما يُطلق عليها دول "الاعتدال العربي"، تقف في خندق واحد مع الإسرائيلي والأمريكي ضد العدو المشترك الإيراني، و"الخطر الشيعي"، و"المشروع الصفوي"..

جميع هذه الأفكار ليست بالأفكار الجديدة أو الطارئة، فهي تعود لحقبة ما قبل "طوفان الأقصى" والسابع من تشرين أول/ أكتوبر، بل وحقبة ما قبل "الربيع العربي"، وهي ترتبط بالتصوّر الأمريكي للمنطقة وإعادة ترتيبها بما يخدم المصلحة والهيمنة الأمريكيتين لعقود قادمة، حيث يمثّل دمج إسرائيل في محيطها العربي كـ "حليف" و"صديق" و"شقيق" ركناً أساسيّاً ضمن هذا التصوّر الأمريكي.

وقد تمّ بالفعل إنفاق مئات المليارات من الدولارات، واتخاذ عشرات الخطوات والإجراءات والترتيبات السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والإعلامية والدعائية والعسكرية واللوجستية من أجل ترجمة هذه الأفكار عمليّاً وتحويلها إلى واقع ملموس على الأرض.. سواء باتجاه "شيطنة" إيران، أو باتجاه "ملكنة" الكيان الصهيوني (من ملائكة)!

لكنّ "طوفان الاقصى" قد جاء بمثابة صفعة مباغتة أفقدتْ المعسكر الصهيو - أمريكي توازنه، وأربكت جميع مخططاته وحساباته، وعطّلت جميع مشاريعه حتى إشعار آخر، ووضعتْ أنظمة الاعتدال العربي في مأزق حقيقي يصعب التعامل معه أو التملّص منه:

فمن ناحية، هذه الأنظمة لا تستطيع أن تعلن جهاراً نهاراً أنّ خياراتها الإستراتيجية قد بُنِيَتْ على أساس وقوفها في صفّ الحلف الإسرائيلي/ الأمريكي.

ومن ناحية أخرى، هذه الأنظمة لا تستطيع أن تبدّل جلدها وتغيّر موقفها بين ليلة وضحاها، وتعلن [ولو كلاميّاً] وقوفها إلى جانب المقاومة، وتعترف بفصائلها كـ "حركات تحرّر وطني" مشروعة..

ومن ناحية ثالثة، هذه الأنظمة لا تستطيع الوقوف على الحياد ولو تظاهُراً حتى لو أرادت ذلك، بكونها قد تماهت كثيراً وتورّطت كثيراً وأوغلت كثيراً في الحلف الإسرائيلي/ الأمريكي، وتعدّت نقطة "اللا ـ عودة" منذ وقت طويل!

والآن مع ازدياد الحديث عن قيام إسرائيل بإعلان الحرب رسميّاً على لبنان والمقاومة اللبنانية، ومخاطر توسّع رقعة القتال لتشمل المنطقة كلّها، فإنّ أول سؤال يتبادر إلى الأذهان هو: كيف ستبرر دول الاعتدال العربي وقوفها "مضطرةً" إلى جانب إسرائيل وأمريكا في حال توسيع الجبهة؟!

هل سيتم افتعال حرب تصريحات وبيانات وتراشق سياسي وإعلامي بين أنظمة الاعتدال العربي من جهة، وإيران و/أو فصائل المقاومة من الجهة الأخرى.. وذلك لتبرير وتسويغ الموقف المعادي الذي ستتخذه "أنظمة الاعتدال" من "تيار الممانعة"؟!

هل سيتم إغراق الفضاء التواصلي بفيض من الإدراجات والفيديوهات التي تسعى لتأجيج الفتنة والانقسام والعداء من خلال اللعب على ثِيَم سنّي/ شيعي، عربي/ فارسي، عروبي/ صفوي.. الخ؟!

هل سيتم افتعال أحداث أمنيّة داخل دول الاعتدال العربي، وإلصاقها بمرتزقة أو عصابات إجرامية أو جماعات إرهابية ترتبط بإيران أو بهذه أو تلك من فصائل المقاومة؟

هل سيتم اللجوء إلى توليفة منوّعة تجمع ما بين هذا الأسلوب وذاك وذاك؟!

بعد حوالي تسعة أشهر على انطلاق "طوفان الأقصى"، وعلى حرب الإبادة والتهجير المُمنهجة التي يشنّها العدو الصهيو - أمريكي على أهالي غزّة ومجمل الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية.. فإنّ السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه ليس: إلى أي جانب ستقف أنظمة الاعتدال العربي؟

وليس: ما هي الحجج والذرائع التي ستسوقها أنظمة الاعتدال العربي لتبرير انحيازاتها وتحالفاتها؟

بل السؤال الأهم هو: هل ستنطلي هذه الحجج والذرائع على شعوب الاعتدال العربي؟ وهل ستستمر هذه الشعوب بالتظاهر بالاقتناع والتصديق والتأييد تلافياً لغضب الأنظمة، أو التماساً للسلامة والدعة والحفاظ على قوتها وخبزها وكفاف عيشها؟!

أنظمة الاعتدال العربي هي أكثر طرف معنيّ بعدم توسيع رقعة القتال وفتح جبهات جديدة بكونها ستكون "الخاسر الأكبر" في هذه الحالة، والسبيل الوحيد لتلافي هذا السيناريو هو أن تضغط هذه الأنظمة بأقصى ثقلها وأوراقها، على الداخل الإسرائيلي وعلى الحليف الأمريكي، وذلك من أجل رفع الغطاء والدعم و"الشرعيّة" عن الكلب المسعور "نتنياهو"، وعصابة حربه المجرمة، والذين لا يتوانون في غمرة غطرستهم ومكابرتهم وتشبّثهم الأعمى بمصالحهم الشخصية وخرافاتهم التلمودية عن جرّ الجميع، الصديق والحليف قبل الخصم والعدو، نحو التهلكة!

خيارات أنظمة الاعتدال العربي وانحيازاتها خلال العشرين سنة الماضية للأسف قد حكمتها بشكل أساسيّ قرارات فرديّة، أو طموحات واجتهادات شخصيّة، أو مصالح ضيقة لفئات محدودة من النخب السياسية والاقتصادية الطفيلية المتغرّبة، ولا يُعقل في مثل هذه الظروف التاريخيّة الحسّاسة والخطيرة والمفصليّة الاستمرار بالتشبث بمثل هذه الخيارات، وتغليب "الأنا" أو مصلحة "الأقليّة" على المصلحة الوطنية العليا والأمنين القومي والوجودي لكيان الدولة والمجتمع و"الأغلبيّة"!