“إخفاء صدام حسين”.. قصة الخندق الغامض بلسان المزارع الذي حفره

هل سمعت يوما الجملة الشهيرة "ماكو عراق بدون صدام”؟ لم تعد هذه الجملة عراقية خالصة، بل إنها باتت تلخّص توجها سياسيا عربيا آمن به كثيرون، استمرت تلك الجملة سنوات طويلة يتندر بها البعض نتيجة الحال القاسية التي وصل إليها العراق، دولة الخير القديم، يتناقلونها سواء في الجلسات السياسية أو حتى في جلسات السمر والنميمة.

"ماكو عراق بدون صدام” تعني أنه لا وجود لدولة العراق دون سيادة صدام، فدمار العراق أو بقاؤه مرهون بوجود صدام حسين فقط، مأساوية الجملة ومحوريتها تستمر حتى كتابة هذه السطور ربما، تتناقل تاريخ الدولة العريق الذي يُحكى على جثث أهلها، بوصفه بات تاريخ سلسلة من الحروب الداخلية والخارجية، ربما لذلك سخّرت له السينما والأدب نفسها على مدار كل تلك السنوات منذ بداية الألفية الحالية، وهو ما يبدو مفتتحا جيدا للحديث عن العراق، وللحديث أيضا عن فيلم "إخفاء صدام حسين” (Hiding Saddam Hussein) الذي عُرض في الدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر في جدة السعودية.

ابتسامة العراقي علاء نامق الذي خدع 150 ألف جندي أمريكي بكامل عتادهم وأخفى صدام حسين قرابة عام

منذ حوالي 20 عاما، كانت قوات الاحتلال الأمريكي تبحث في العراق عن الرئيس صدام حسين الذي اختفى قبيل سيطرتها على أغلب الدولة، وبعد عام تقريبا وجده الجنود في مدينة الدّور، بعدما كان يعيش في خندق بين أشجار النخيل في بستان حفره سائقه وحارسه الشخصي وطبّاخه الذي وجده صدفة في آخر أيامه، ووثق فيه كما لم يثق في أحد.

هذا الرجل هو المزارع العراقي علاء نامق البالغ من العمر الآن أكثر من 50 عاما، وقد أخفى صدام حسين مدة 235 يوما، عندما وضعت أمريكا على رأسه ملايين الدولارات.

صدام.. "أضحية كما يفعل المسلمون عادة في هذا العيد”

ثمة تواريخ ربما من الواجب وضعها في الاعتبار لفهم السياق أكثر، في 20 مارس/ آذار 2003 قررت أمريكا اختلاق أسباب لإشعال حرب لإسقاط نظام صدام حسين في العراق، ثم في 9 إبريل/ نيسان 2003 دخلت العاصمة بغداد وأسقطت النظام، لانعدام تكافؤ الحرب معها، لكنها لم تستطع القبض على رئيسها، لقد اختفى صدام حسين أشهرا.، لكن خطوات آلاف الجنود ومعداتهم ظلت تتعقّبه خلال عام، حتى قبض عليه وأُعدم بعد ثلاث سنوات في عام 2006 صبيحة عيد الأضحى، وربما لن ينسى أي عربي طوال حياته التعليقات الأجنبية التي قالت إنه كان يقدم بمثابة "أضحية كما يفعل المسلمون عادة في هذا العيد”

صورة حقيقية للحظة إعدام الرئيس العراقي صدام حسين في عام 2006 صبيحة أول أيام عيد الأضحى المبارك

بشكل عام ستشغل هذه القصة المخرج الكردي العراقي هالكوت مصطفى، وتظل في رأسه حتى تدفعه لعمل محاولات صناعة فيلم عن الرجل، يسرد قصته للمرة الأولى في هذا الفيلم الوثائقي الذي استغرق صنعه حوالي 14 عاما، وكان من الضروري إحاطته بقدر كبير من السرية، فحتى فريق العمل لم يكن يعرف الموضوع الحقيقي للفيلم.

يبدو الفيلم حاملا لكل شيء في السينما الوثائقية، وهو من إنتاج "جان هيلتنيس” و”أندرس هيريد” و”هالكوت مصطفى”، وفيه ستجد العراق الأم في ظلال المزارع المثير الذي أخفى صدام، ربما كان التفكير في صناعة هذا الفيلم أساسا شيئا ذكيا جدا على رغم من كل ما فيه، حتى عرضه في ظروف احتلال مماثل، تقتل فيه إسرائيل الفلسطينيين بمباركة أمريكية، وتحت حماية الرجل الأبيض الغربي أيضا.

 

 ويضيف هالكوت أنه لن يقدم على تجربة بمثل تلك الصعوبة مرة أخرى، وأن أكبر عقبة تمثلت في داعش التي احتلت المنطقة في 2014، لقد توقف المشروع بطريقة ما، وكانت هناك عقبة أخرى هي رغبتي في إبعاد الجانب المادي عن المشروع، حتى نجعل سبب إنتاجه معنويا، ولكشف الحقائق، وأن نمنح الفرصة لرجل عراقي لسرد قصة شغلت العالم سنوات، عن حكاية رجل لا يمكن الحديث عن دولة العراق دونه.

يمتنع المخرج عن التورط في الحديث أكثر عن أماكن التصوير، أو كيفية التسجيل على مدار أكثر من 10 سنوات لمواد فيلمية كان يخفيها حتى عن الطاقم الذي صوّر معه كما يقول، وكل ما يكتفي بقوله هو السعي الخطر لصناعة هذا الفيلم، ومبرره أنه يحافظ بذلك على حياة بطل الفيلم علاء نامق.

سرد الأحداث.. مكاشفة مباشرة تدعمها المشاهد التمثيلية

يبدأ الفيلم مباشرة بمشهد تأسيسي يقول كل شيء عن وجهة نظر المخرج في صناعة هذا الفيلم، يتربع علاء المزارع على الأرض، يدخن سيجارته بتأنٍّ وارتقاب، وينظر للكاميرا أمامه مباشرة، ليقول كل شيء حدث له في هذه الرحلة الاستثنائية.

هكذا يقرر المخرج أن يكون فيلمه مكاشفة مباشرة يقولها الرجل أمام الكاميرا، إلى جانب مشاهد تمثيلية يستحق ممثلوها جوائز تكريمية لأدوارهم التي كانت أكثر ما ساعد في المعايشة مع هذا الفيلم.

لا يخلو الفيلم بسبب ذلك من ملل نسبي، فعلاء يتربع على الأرض من أول الفيلم حتى آخره، أمامه الكاميرات في كل اتجاه، وقطعات مونتاجية بين تلك المشاهد التمثيلية والمشاهد الأرشيفية الأخرى التي صورت العراق القديم وقت الحرب.

يقول مصطفى "لدي 25 ساعة مصوّرة بخلاف ما عرض في الساعة ونصف الساعة التي عرضتها في الفيلم”، وربما ذلك ما يجعلنا ننتقل إلى بعض نقاط الضعف النسبي في القصة، ومن سخرية القدر أنها هي الأسباب ذاتها التي يمكن أن تصبح نقاط قوة.

 

إرضاء الجماهير.. موضوعية مفرطة في مادة هائلة

ربما من أهم تلك النقاط أن محاولة عمل قصة كهذه في فيلم، كانت تستدعي التأسيس أكثر للتورط مع علاء الذي يحب صدام ويهابه حتى في أصعب لحظات ضعفه، في لحظة خانقة قد تتسبب في موته تماما، كما تستدعي التأسيس للمقاومة وقتها، والدخول الأمريكي، والمأساة العامة التي تسبب فيها صدام، حتى يصبح المُشاهد معه.

باتت المادة الزائدة على الحد عبئا نسبيا على سرد القصة الذي جاء مرتكزا على سرد قصة وحيدة، وهي قصة حفر الخندق من قبل مزارع يعامل صدام معاملة الوالد، وهو يحكيها بشكل لا يجعلها سياسية بأي حال، ويتجاهل كل شيء آخر حولها يحتاج أن تُغلق استفساراته.

مخرج فيلم "إخفاء صدام حسين” هالكوت مصطفى

الأمر الآخر هو حرص المخرج الشديد على التعامل مع المادة الهائلة بموضوعية مفرطة حتى يتجنب الجدل السياسي حول الفيلم، وربما ذلك ما جعل أغلب من شاهدوا الفيلم لم يتورطوا بشكل كامل في الفيلم، الرهان الأساسي للسينما الوثائقية هو محاولة عرض وجهة نظر ما، إلى جانب وجهات النظر الأخرى، بينما يصعب على الإنسان أن يحقق الرضا لجميع من يشاهد فيلمه، وقد حاول المخرج محاولة مستحيلة لنيل رضا الجميع، فأصبحت نقطة ضعف نسبي في فيلم مذهل وواعد.

"مذكرات كلب عراقي”.. سيرة ذاتية مأساوية على لسان الحيوان

في كتاب "مذكرات كلب عراقي” نجد الكاتب عبد الهادي سعدون يحكي ما يريد على لسان الكلب العراقي المدعو "ليدر”، أو ما يمكن أن يعبر عن شخصية الكاتب نفسه، تقارب بأسلوبها الروايات الصعلوكية، عبر تتبع حياة الإنسان منذ ولادته حتى موته.

يسرد البطل في مذكراته الوقائع الغريبة والأحداث العجيبة التي جرت له في 28 فصلا، منها ولادته عند نهر دجلة، ورفقته لصاحبه المعلم المعارض السياسي لأوضاع البلاد في ظل الحكم البعثي، ورحلات الصيد، وظروف تشرده وحبسه وانفصاله عن صاحبه، وفقدانه لعائلته وتهجير أشقائه، ثم موت معلمه على يد الغوغاء بعد أن عانى من سجون الحكم السابق.

غلاف كتاب "مذكرات كلب عراقي” للكاتب عبد الهادي سعدون

كل ذلك يقدمه من خلال كلب، أو ما يريد أن يوضحه تحديدا هو أن الحياة التي عاشها داخل العراق لم تكن أكثر من حياة حيوانية قاسية نتيجة الحرب والتشرد، وربما لم تتخطَّ تلك القسوةَ عدةُ كتابات وأعمال سينمائية تناولت القصة، بينما يبدأ فيلم "إخفاء صدام حسين”، وينتهي من منطقة أبعد من صدام نحو اللحظات الأخيرة في حياته.

في أكثر من موضع يؤكد المخرج في حواره أنه لم يسعَ قط لصناعة فيلم سياسي، لكنه إنساني تماما عن الخندق الذي حفره مزارع لسياسي شهير، لذلك كانت بالنسبة له قصة إنسانية تماما. يقول للوثائقية: كل الأفلام التي شاهدتها عن الحرب كان تميل للتورط السياسي في مأساة وجود صدام من عدمها، جعلني ذلك أطرح تساؤلا طويلا، وأحاول الإجابة عليه: لماذا لا نمنح رجلا عراقيا أنشأ الحفرة بنفسه لنسمع ما يقوله؟ لأنه لو تخلت الإنسانية والسياسة عن هذا الجانب، لن يعرف أحد ماذا حدث.

قصة الفيلم.. شهادة في لحظة يصعب فيها الحديث السياسي

ما يميز هذا الفيلم الاستثنائي بشكل كبير هو كونه يعد أكثر من نوع في وقت واحد، فهو فيلم سيرة ذاتية صريح يعايش البطل، يحمل من الدراما ما يجعله مورطا لكل مشاهد، ويمكن تأويل سرده سياسيا في أكثر من اتجاه للمؤيد والمعارض.

صورة لمحاكمة الرئيس صدام حسين بعد إلقاء القبض عليه مختبئا في خندق

نقطة القوة التي تمثلها السيرة الذاتية للبطل هنا، تبدو منطلقا جيدا للحديث عن التشابك الكبير بين سرد حيوات الناس لأنفسهم والكشف غير المباشر الذي تكشفه تلك الحكايات لتفسيرها سياسيا، حتى لو كان المخرج يؤكد كل مرة عدم سياسية الفيلم، فإنه يبقى دون قصد شهادة سياسية في لحظة يصعب فيها الحديث السياسي الجريء الكاشف.

ربما لأن تلك اللحظة الحرجة تماما التي نعيش فيها مشهدا شديد التقلب والاستثناء على مستوى أوسع وأكثر شمولا، تصبح الأحاديث الذاتية والقصص الشخصية ربما هي الأكثر تأسيسا وشرحا للمشهد، ليست تلك التي تنغرس داخل ذاتها متجاهلة الجميع بدعوى التركيز مع النفس، بل تلك التي تطرح التساؤل على الآخر ونفسها الأفعال التي وقعت ومدى تجنب إرهاصاتها السيئة والتفكير بصوت عال لإيجاد حلول قد تجنّب القادمين الوقوع المتكرر فيها، ومثلما تظهر في الحكايات المضحكة المبكية في "مذكرات كلب عراقي” تظهر أيضا في فيلم "إخفاء صدام حسين”.

رجل الخندق.. بطل هوليودي ذو كاريزما طاغية

بعيدا عن كل ذلك كان العراقي المزارع بمثابة بطل هوليودي عتيد ذي كايرزما طاغية، وصدق شديد فيما يقول، ونظرة جامدة لا يمكن توجيهها نحو أي اتجاه فكري، إذ لا يدري أي مشاهد الأسباب الحقيقية التي جعلته يقدم على هذا الخطر الذي تسبب في اعتقاله فيما بعد وتعذيبه ووفاة والده حسرة عليه.

المزارع العراقي علاء نامق الذي أخفى الرئيس العراقي صدام حسين في بستان منزله

يملك الرجل سكينة زائدة عن الحد يمكنها أن تعدي أغلب من يشاهده، وهو صادق ما زالت تؤثر فيه اللحظات الحميمية مع الرئيس الراحل، وغير مبال تماما بأي موقف سياسي، لا يفهم تعقيدات الأمور، فقط احتاجه الرئيس في خدمة ما، وكانت على رقبته فعلا.

بدأ الفيلم من محاولة حكاية سر الخندق، الحفرة التي صنعها مزارع عراقي بسيط لتحتوي في قلبها الرئيس المثير لكل جدل سياسي وإنساني، بينما كان الفيلم حكاية العراق كله في لحظة زمنية يتجاهلها التاريخ نسبيا؛ رجل يمثّل الشعب الوفي الكريم، ورئيس قد يمثل رؤساء آخرين في الحرب والسلم يقبض على شعبه، ثم لا يجد غيرهم لينقذه، في مأساة صنعها وتسبّب فيها بشكل مباشر وغير مباشر الرجل الأبيض، منبع المآسي العربية.

"إخفاء صدام حسين”.. قصة إنسانية برائحة سياسية

"إخفاء صدام حسين” هو فيلم مهم على كافة مستوياته، وذكي، ومفرط الحميمية، قصة إنسانية سياسية فيها من الحكايات ما يستدعي الوقوف أمامه طويلا، مع أن الحوار حول صدام لا يزال فيه المؤيد والمعارض، فالبعض يرى أن مقولة "ماكو عراق بدون صدام” باتت حقيقة بعد هذا الخراب، بينما يرى آخرون أنها كانت كذلك بالفعل.

مجرم العراق يصدر أمره بضرورة خروج الرئيس صدام من وطنه العراق وإلا..

ومع السعي الحثيث لعدم تسييس الفيلم عموما، ثمة حقيقة أوضح بأن هناك مجرما حقيقيا واضحا منذ تلك السنوات البعيدة وحتى الآن، وربما يبدو مما يحدث في فلسطين الآن أنه سيطل إلى الأبد، وهو حكومة الرجل الأبيض التي لا تجد من يعاقبها على قتل الآلاف، طالما تتحقق مصالحها.