كذبت الأنظمة ولو صدقت.. وكذب السياسيون ولو صدقوا!



يقول الحديث المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً. وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً)).

في التحليل السوسيولوجي، كلمة "الرجل" الواردة في الحديث أعلاه قد تعني "الشخص الطبيعي"، أي الفرد، ذكراً كان أو أنثى.

وقد تعني "الشخص الاعتباري"، أي الشخص بحكم منصبه، أو أيّ مؤسسة تمتلك صفة اعتبارية، سواء أكانت صفة اعتبارية بحكم العُرف، كالعشيرة مثلاً، أو صفة اعتبارية بحكم القانون، كالشركات والمؤسسات وأجهزة الدولة، من أصغر جهاز أو وحدة إدارية فيها، صعوداً حتى بلوغ ملّاك الدولة ككلّ أو النظام السياسي ككلّ.

وقد تعني كلمة رجل "الشخص الرمزي"، وهنا يكون الحديث على المستوى الجمعيّ الأكبر، أو ما يطلق عليه المستوى (الماكرو) من التحليل، ويكون المقصود به أن يوسم مجتمع ككلّ أو ثقافة ككلّ بالصدق أو الكذب أو غيرهما من الصفات.. وهذا ما تعنيه الدراسات السوسيولوجية والثقافية عندما تورد في متنها عبارات مثل: تتسم الشخصية الأردنية بكذا، أو الشخصية السورية بكذا، أو الشخصية العراقية بكذا، أو الشخصية الخليجية بكذا، أو الشخصية العربية بكذا أو الشخصية الأمريكية بكذا.. الخ.

ولعل من أهم الأعمال العربية [والعالمية] التي تتناول هذا المستوى من البحث وتتبنّى هذه المقاربة في التحليل كتاب "الشخصية المصرية" بالغ الأهمية للعلّامة المصري الراحل [أو بالأحرى المغدور] الدكتور "جمال حمدان". وأيضاً كتابه عن "اليهود" الذي ألهم الدكتور "عبد الوهاب المسيري" لاحقاً مشروعه في تفكيك وتحليل ظاهرة "الصهيونية".

كما أنّ كتابات العالم العراقي الراحل الدكتور "علي الوردي" بالغة الأهمية في هذا السياق.

المستويات الطبيعي والاعتباري والرمزي للتحليل تقودنا إلى مفهوم "التكامل"، والذي هو شرط أساسي لـ "تضامن" أي مجتمع وتماسكه واستقراره واستمراره.

والتكامل هنا يقتضي أن تكون "القيم العاملة" على المستوى الرمزي في مجتمع ما، أي على مستوى الثقافة ككلّ، هي نفسها القيم العاملة التي تحكم سلوك وممارسات وأدوار و"وظائف" الأشخاص الاعتباريين/ المؤسسات والطبيعيين/ الأفراد في هذا المجتمع.

ولكن مع ظهور ما يُسمّى "الدولة الحديثة"، أو "الدولة الويستفاليّة"، فقد اتخذت الأنظمة السياسية لنفسها بشكل مُمَنطَق (من منطق) ومُشرعَن ومُقونَن توليفة من "القيم العاملة" الخاصة بها، والمستمدّة بدورها من باقة من العلوم الحديثة التي تندرج تحت ما يُسمّى "العلوم الزائفة" مثل "علم السياسة" و"علم الاقتصاد" و"الاتصال الجماهيري" و"الدعاية".

وبخلاف القيم العاملة التقليدية، فإنّ هذه القيم العاملة الجديدة أو العصرية تُعلي من قيمة المنفعة أو المصلحة بالمعنى المادي المباشر لكلمة مصلحة، وتجعل "التراكم" غاية في حدّ ذاته تحت مسمّيات برّاقة وخدّاعة مثل "النمو" و"التقدّم" و"التحديث" وصولاً إلى تشييد "الفردوس الأرضي" بدلاً من الفردوس السماوي، وتنظر للإنسان باعتباره "شيئاً آخر من أشياء الطبيعة و"مورداً" آخر من مواردها يستمد أهميته من مقدار قابليته للتحويل (أخلاق المصنع) والتسليع (أخلاق السوق)، وتتبنّى من أجل ذلك مجموعة من المقولات التي تعتبر بحكم الثوابت أو المسلّمات أو "القوانين الطبيعية" أو حتى "الكلام المُنزَل" مثل: "الميكافيلليّة" (الغاية تبرر الوسيلة)، و"دعه يعمل دعه يمر" (اليد الخفيّة)، و"المالثوسيّة" (خرافة الندرة)، و"الهوبزيّة" (الدولة التنين)، والدارونيّة الاجتماعيّة (البقاء للأقوى).. وغيرها من المفاهيم.

وهكذا أصبحت سلوكيات مثل الكذب والغش والخداع والقدرة على المراوغة والتحايل وتحوير الحقائق وتلفيق الأدلة وفبركة الوقائع وافتعال الأحداث ونسج الروايات والسرديّات.. أصبحت جميعها قيماً إيجابية أو محمودة بحق الأنظمة السياسية والسياسيين، ومؤشراً على مدى قوتهم وقدرتهم واقتدارهم.. في حين أنّ القيم التقليدية المستمدّة من الدين أو العادات أو التراث أصبح يُنظر إليها باعتبارها قيماً باليةً أو متخلّفةً أو رجعيّةً أو ساذجةً أو حتى هدّامة!

بل إنّ الكذب والخداع أصبحا متطلباً من متطلبات التأكيد وإعادة التأكيد على سلطة الأنظمة السياسية و"شرعيّتها" باعتبار أنّ الدولة هي "المُعرّف الأكبر"، أي الجهة التي تحتكر سلطة تعريف الأشياء (هذا حقّ وهذا باطل.. وهذا مسموح وهذا ممنوع.. وهذا صدق وهذا إشاعة.. وهذا ولاء وانتماء وهذا خيانة.. الخ)، وذلك امتداداً لاحتكارها حقّ الاستخدام المنظّم للعنف في المجتمع، سواء العنف بمعناه المادي المباشر، أو "العنف الرمزي".

بكلمات أخرى، أصبحت سلطة وشرعية النظم السياسية الحديثة تقوم على الكذب والخداع والغش، وقدرتها على اقتراف المزيد من الكذب والخداع والغش.. أكثر ممّا تقوم على الصدق والنزاهة. وأصبح الأشخاص الاعتباريون كالمدراء أو الوزراء أو القادة أو الزعماء أو الساسة عموماً.. كذّابين بالضرورة، ومخادعين بالضرورة، وبحكم المنصب، بغض النظر عن صفاتهم وسجاياهم وأخلاقهم الشخصية، أو أصولهم التي ينحدرون منها، أو السلالة التي ينتسبون إليها، أو خلفيّتهم الدينية والاجتماعية والثقافية ومنظومة العادات والتقاليد السائدة في مجتمعاتهم.

هذا الانفصال بين قيم وأخلاق الحُكم والإدارة، وما يفترض أنّها الأخلاق العاملة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الثقافة/ المجتمع ككلّ.. هو ما عزّز من ذلك الانفصال والجفاء وانعدام الثقة الأساسيّ أو الجذريّ أو الهيكليّ الحاصل بين الأنظمة السياسية ومجتمعاتها/ شعوبها في الدول الحديثة، بغض النظر عن مدى تقدّم وتأخّر هذه الدولة أو تلك، أو مقدار غناها وفقرها، أو طبيعة النظام السياسي المطبّق فيها.

وكلما مرّ الوقت تزداد الجفوة ويزداد انعدام الثقة بين المجتمعات/ الشعوب والنظم السياسية الحديثة بصورة لا يمكن تداركها أو عكس اتجاهها، ويصبح التكذيب والتشكيك هما القاعدة، وما عدا ذلك هو الاستثناء.

المشكلة تحدث عندما يجد النظام السياسي نفسه مضطراً لقول الحقيقة نظراً لظروف معيّنة أو أزمات معيّنة أو أحداث عاصفة معيّنة يمرّ بها.. فحتى في مثل هذه الحالات يكون التكذيب والنظر بعين الريبة والشكّ هو الموقف المبدئي للمجتمع/ الشعب تجاه رواية نظامه السياسي الرسمية. وحتى لو ثبت للناس صدق هذه الرواية وصحّة حقائقها وحيثيّاتها، فإنّهم سيتعاملون معها ـ ولو بطريقة مضمرة ـ باعتبارها ضرباً من "الصدق الذي يُراد به باطل" على غرار "الحقّ الذي يُراد به باطل"!

الحالة هنا أشبه بقصة "الراعي والذئاب" الشهيرة، حين قام الراعي بخداع أهالي قريته مرّتين عندما صرخ مستغيثاً بأنّ الذئاب قد هاجمت أغنامه، ليتبيّن لهم بعد أن هبّوا لنجدته وإنقاذه أنّه يتظارف ويمزح معهم، وأنّ الذئاب لم تهاجم الأغنام. وفي المرّة الثالثة عندما هجمت الذئاب بالفعل واستغاث الراعي لم يصدّقه أهل القرية، ولم يبادر أحد لمساعدته وإغاثته.

الفرق بين الأنظمة السياسية وقصة الراعي أنّ الأنظمة السياسية لا تكذب من باب المزاح والتظارف، بل تكذب بمنتهى الجديّة ومع سبق الإصرار والترصّد. والفرق الثاني أنّه عندما تقع الفاس بالراس في حالة الأنظمة وتهجم الذئاب بالفعل، فإنّها تبادر للفتك بالراعي نفسه قبل أن تهمّ بافتراس أغنامه!

يقول المثل الشعبي: "حبل الكذب قصير"، وهذا يفسّر القصر النسبيّ لعمر الأنظمة السياسية المعاصرة قياساً بالأنظمة التاريخية. ويفسّر أيضاً تعطّش الشعوب [ولو من قبيل التعاطف الوجداني] إلى أي حالة معارضة أو مناهضة لكذب السلطة يتوسّمون فيها وفي رموزها الصدق والمصداقيّة، ومثال ذلك ما هو حاصل من التفاف أهل غزّة والشعوب العربية والإسلامية و"أحرار العالم" حول "المقاومة الفلسطينية" و"طوفان الأقصى"، أو ما سبق وأن حصل لدينا في الأردن من التفاق شعبيّ منقطع النظير حول مجلس نقابة المعلّمين في اعتصامهم الأول.

حتى تكتمل الصورة لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كذب الأنظمة له خصوصيّتان تميّزانه عن الكذب التقليدي أو الاعتيادي:

فأولاً أنصاف الحقائق في عالم السياسة والحُكم والإدارة هي أكاذيب تامّة، بل هي أفدح وأشد خطورة من الكذب الصرف أو البواح!

وثانياً اجتزاء الوقائع والأحداث خارج سياقها هو أسوأ من اختراعها وتلفيقها، ومثال ذلك تلك المحاولة الحثيثة للخطاب الرسمي الغربي والعربي من أجل اتخاذ تاريخ 7 تشرين أول/ أكتوبر نقطة انطلاق للتعامل مع "طوفان الأقصى"، وإغفال كامل السياق والحيثيّات والسيرورات التاريخية التي سبقت هذا التاريخ منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بزعامة "تيودور هرتزل" قبل (127) سنة ولغاية الآن!

أمّا لحظة الانهيار الحتميّ لأيّ نظام سياسيّ حديث فليست عندما يتوقف عن الكذب، فهو ببساطة لا يستطيع فعل ذلك. وليست حين يكتشف الشعب كذب نظامه السياسي، فالشعب يدرك ذلك ويعيه منذ اللحظة الأولى. وليست عندما لا يعود الشعب قادراً على تحمّل المزيد من الكذب، فقدرة الشعوب على التكيّف وتحمّل الأكاذيب والتواطؤ معها تفوق حتى قدرة الأنظمة السياسية على اختلاقها واجتراحها [الشعوب تتوق إلى الصدق لكنّها لا تسعى إليه]... الأنظمة السياسية تنهار عندما تبدأ بالكذب على نفسها، ويكون الإنهيار مدوّياً أكثر و"دراماتيكيّاً" أكثر في حالة الأنظمة والقادة والزعماء الذين يكذبون الكذبة ثمّ يصدّقونها، وغالباً ما يأتي انهيار هؤلاء على طريقة "أنا ومن بعدي الطوفان".. إلّا إذا باغتهم "الطوفان" طبعاً وسبقهم وأتى قبلهم!