المرحلة الثالثة لحرب غزة: توطئة للإقرار بالفشل والانكسار



في معرض شرحها قرار المستوى السياسي منح الجيش الإذن بولوج عتبات "المرحلة الثالثة والأخيرة" من حربه على غزة، أوردت مصادر حكومة نتنياهو عاملَين يفسران قرارها ويبررانه: الأول هو التوطئة لصفقة تبادل أسرى ومحتجزين، والآخر هو احتواء التصعيد المنذر بالمواجهة الشاملة على الجبهة الشمالية مع حزب الله...

"الجيش" يتحضر لحرب أقل شدة وأطول زمناً في غزة، ويفضل "الدبلوماسية" على الحرب في الشمال. هكذا تقول أوساطه، ودع عنك "العنتيرات" و"السقوف العالية" المخصصة للاستهلاك في السوق المحلية.

وفي عرضها سمات "المرحلة الثالثة" وأبرز ملامحها ومحدداتها، تقول المصادر ذاتها إنها تعني الانسحاب من مناطق الكثافة السكانية إلى محيط القطاع الذي لطالما خططت "إسرائيل" لجعله "شريطاً أمنياً" يقتطع مساحات واسعة من القطاع الضيق، والإبقاء على انتشار "الجيش" في محوري "نتساريم" و"فيلادلفيا"، بما يكاد يتطابق مع القراءة الإسرائيلية للمرحلة الأولى من مشروع ثلاثي الوساطة قبلته حماس ورفضته "إسرائيل"، من دون استحداث أي رابط من أي نوع بين المراحل الثلاث للمشروع ذاته.

قرار المجلس الوزاري المصغر هذا يبدو محمّلاً بدلالتين بالغتي الأهمية، الأولى؛ الإقرار بالفشل في تحقيق "النصر المطلق" على حماس والمقاومة، ما دام القطاع سيستقبل المرحلة الثالثة من العدوان، فيما المقاومة ما زالت قادرة على تكبيد العدو أفدح الخسائر في الأرواح والمعدات، وستعاود حشد وتنظيم قواها العسكرية و"السلطوية"، والثانية تشير إلى الدور المتصاعد لجبهات الإسناد، اللبنانية بخاصة، في سياقات الحرب، بعدما انتقلت من المشاغلة إلى الشراكة، وتحولت إلى لاعب رئيس في تقرير سياقات الحرب ومآلاتها، كما قلنا في مقالتنا السابقة.

القرار الإسرائيلي الذي تبلور بصورة حاسمة في واشنطن، بنتيجة زيارة وزير الدفاع يوآف غالانت الأخيرة إليها، لا يجيب عن أسئلة محورية، أهمها على الإطلاق: كيف يمكن إتمام "صفقة التبادل" التي كانت في مركز أهداف القرار من دون أخذ مطالب المقاومة وشروطها لإتمام التبادل بعين الاعتبار؟ وهل بلغ "الخَبَل" بالمستويين السياسي والعسكري في تل أبيب حد الاعتقاد بأن المقاومة ستلقي بورقة المحتجزين والأسرى لديها، هكذا، نظير مستوى "أقل شدة وأطول زمناً" من القتال؟ هل تقامر حكومة نتنياهو بمصائر 120 محتجزاً لدى المقاومة؟ وهل يتعين على هؤلاء مواجهة المصير ذاته الذي انتهى إليه رون آراد؟

من قال إن جبهات الإسناد والمشاركة من جنوب لبنان إلى البحر الأحمر ستنطلي عليها "حكاية" المرحلة الثالثة، وإنها ستهرع من فورها إلى وقف إطلاق النار بمجرد إعلان جيش الاحتلال دخوله مرحلة ثالثة وأخيرة من الحرب؟ قادة هذه الجبهات قطعوا الشك باليقين، وأكدوا للقاصي والداني أن النيران ستظل مشتعلة، ما دامت حممها تتساقط فوق رؤوس النساء والأطفال والرجال في غزة، وقادة المقاومة الفلسطينية مطمئنون لجدية هذا الالتزام وسلامة التنسيق وسلاسته، كما لمست في حوار مباشر جرى مؤخراً مع عدد منهم.

بهذا المعنى، يبدو أنَّ هدفي "المرحلة الثالثة": الصفقة وتفادي الانزلاق في أتون مواجهة أوسع مع حزب الله غير قابلين للتحقق لمجرد منح الضوء الأخضر للجيش بدخول المرحلة الثالثة، الأمر الذي يحيلنا إلى عوامل أخرى وتفسيرات مختلفة لقرار المستوى السياسي الذي جاء استجابة متأخرة لضغط المستوى العسكري وإلحاحه.

في ظنّي أنّ دخول حرب الأشهر التسعة على غزة مرحلتها الثالثة والأخيرة ليس سوى "تعبير ملطّف" عن الهبوط التدريجي على مدارج الفشل والإحباط من القدرة على تحقيق أهداف الحرب التي لم يتوقف نتنياهو – حتى الآن – عن تكرارها صباحاً مساءً... بيد أنه هبوط مراعٍ لحساسيات نتنياهو وحسابات فريقه الداخلية، وليس لاعتبارات الميدان وحساباته.

الهوّة السحيقة بين أهداف الحرب ومآلاتها تدفع بنتياهو إلى محاولة القفز من فوقها بخطوتين أو ثلاث خطوات، وهو أمرٌ مجافٍ لمنطق الطبيعة وفيزيائها، فالقفز الآمن من فوق "الهوّة" يتم بخطوة واحدة، وأي "دعسة ناقصة" ستفضي بصاحبها إلى السقوط في قعرها. الأرجح أن هذا ما ينتظر نتنياهو وفريقه من المستويين السياسي والعسكري في غزة.

والحقيقة أن ثمة عوامل ثلاثة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن قرار الدخول في المرحلة الثالثة والأخيرة من الحرب يستبطن معنى الإقرار بالخيبة والفشل. ولولا عظم تأثيراتها، لأمكن الاستنتاج بأن المرحلة الثالثة ليست في واقع الحال سوى استعادة لسيناريو الاستباحة القائم للضفة الغربية.

أول هذه العوامل يتصل بمصير الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة وحماس، إذ لن يكون بمقدور، لا المستوى السياسي ولا المستوى العسكري في "إسرائيل"، إدارة الظهر لهذا الملف الذي أخذ يتدحرج ككرة النار الملتهبة التي تحرق ظهور أصحاب القرار في تل أبيب، الذين عجزت "إسرائيل" عن استرجاعهم في المرحلتين الأولى والثانية من حرب التطويق والتطهير والإبادة، ولن تكون قادرة على "تحريرهم" في المرحلة الثالثة وإجراءاتها المأخوذة من جانب واحد. تلك أضغاث أحلام سيصحو منها الفريق الحاكم على أسوأ كوابيسه.

ثاني هذه العوامل هو المقاومة الشجاعة والمصممة في قطاع غزة، والتي أثبتت في ختام الشهر التاسع للحرب أنها ما زالت قادرة على تصنيع ذخائرها وأسلحتها ومواصلة الإثخان في صفوف عدوها، ولم يبقَ أحد، غير نفرٍ قليلٍ من أصحاب القرار في تل أبيب، لم يردد علناً حتى الآن بأن استئصال حماس والمقاومة "غاية لا تدرك".

وثالث هذه العوامل أن جبهات المشاغلة والإسناد، التي انتقلت إلى خندق الشراكة في الحرب، لن تعير ألاعيب نتنياهو ولا التصريحات الناعمة لبلينكن الكثير من الاهتمام، وهي ملتزمة بمواصلة أداء دورها بكل كفاءة واقتدار، وفقاً لما تقتضيه مندرجات الحرب ومقتضيات التصدي للعدوان.

وسنذهب أبعد من ذلك إلى القول إن فشل "إسرائيل" في إنجاز "النصر المطلق" على غزة وأهلها ومقاومتها لم يعد يوازيه سوى عجزها، جيشاً ودولة ومجتمعاً، عن خوض غمار الحرب على جبهتين، فالإحجام الإسرائيلي عن ترجمة التهديد بتدمير حزب الله ولبنان وإرجاع الأخير إلى "العصر الحجري"، مرده حالة التآكل في قدرات الجيش ومعنوياته وتدني قدرة المجتمع على دفع فواتير الحرب وكلفها، ولا علاقة له البتّة بأي حسابات أو اعتبارات سياسية أو أخلاقية، فالحرب الكاشفة في غزة برهنت بما يدع مجالاً للشك بأن هذا الكيان لا تحكمه قيم ولا ضوابط من أي نوع، وأن القوة، والقوة وحدها، هي الكفيلة بردعه وكبح بربريته.

ولعل من سخرية التاريخ أن نشهد في حرب الطوفان انقلاب المواقع والأدوار بين العرب والإسرائيليين، ففيما مضى، اعتدنا رؤية أفعال "إسرائيل" تسبق أقوالها وتهديداتها، فيما العرب سادرون في إطلاق التهديد والوعيد واستعراض العضلات من دون أفعال تلاقي الأقوال أو ترتقي إليها. الصورة اليوم مغايرة تماماً؛ "إسرائيل" هي من يرغي ويزبد، وينشر الويل والثبور وعظائم الأمور، فيما أفعال رجالات المقاومة والإسناد تسبق أقوالهم.

أين من هنا؟

لا مخرج لحكومة نتنياهو من مستنقع المراوحة و"التوهان" إلا بالذهاب إلى "رزمة شاملة تضع حداً لحربها المجنونة على قطاع غزة، وتوقف سيرورة الانزلاق إلى قعر هاوية إقليمية، نعرف كيف يمكن أن تبدأ، ولا يعرف أحد متى ستنتهي وكيف.

لا مخرج من "الاستعصاء" إلا بقبول الشروط الأربعة للمقاومة، وهي بالمناسبة مطالب الإجماع الدولي، باستثناء واشنطن: وقف دائم للحرب، وانسحاب شامل للاحتلال، وفتح للمعابر وإدخال غير مشروط للإغاثة والمساعدات تسبق وترافق عودة غير مقيّدة للنازحين، وصفقة تبادل جدية للأسرى والمحتجزين. وبعد ذلك، وبعد ذلك فقط، يمكن الحديث عن مرحلة ما بعد الحرب. يمكن الاشتباك مع كل هذا اللغو عن "أفق سياسي ذي مغزى".


*  الكاتب مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية