هل يفتح قرار المحكمة الدستورية الباب امام الطعن بعدم دستورية المادة 104 والمادة 114 من قانون الملكية العقارية؟



من المقرر في الفقه الدستوري أن أغلب الانظمة السياسية والدستورية تتبنى مبدأ الفصل بين السلطات، الذي ينص على تقسيم سلطات الدولة الى ثلاث سلطات، تنفيذية وتشريعية وقضائية، هذه السلطات الثلاث لها اختصاصات وصلاحيات محددة في الدستور والقانون حيث يقع على عاتق السلطة التنفيذية مثلاً تنفيذ ما تقرره السلطتان التشريعية والقضائية، وحيث أن هذه السلطة تقوم بتنفيذ القوانين من قبلها فكيف سوف تحكم على نفسها. ولذلك وجدت السلطة القضائية: والتي تمثلها المحاكم المختلفة بأنواعها المتعددة والتي تبدأ من محاكم البداية والصلح وتنتهي بالمحاكم العليا والمحاكم الدستورية وهذه المحاكم تقوم بعدة وظائف منها: تنظيم العلاقة بين الأفراد، تنظيم العلاقة بين الأفراد والدولة، مراقبة السلطتين التشريعية والتنفيذية ومدى تقيدها بنصوص الدستور، حماية حقوق الناس وحرياتهم الأساسية ومنع انتهاكها.

وهذا ايضا ما اكده حضرة صاحب الجلالة الملك عبدالله في الورقة النقاشية السادسة، بتاريخ 1 تشرين الأول/أكتوبر 2016، تحت عنوان سيادة القانون عماد الدولة المدنية وذلك بقوله: "إن الدولة المدنية هي دولة تحتكم إلى الدستور والقوانين التي تطبقها على الجميع دون محاباة؛ وهي دولة المؤسسات التي تعتمد نظاما يفصل بين السلطات ولا يسمح لسلطة أن تتغول على الأخرى...،".

ومؤخرا فقد تصدت المحكمة الدستورية في الاردن للنظر في احدى الدعاوى لتؤكد هذه الثوابت في النظام الدستوري وتبسط سلطتها لتمنع تغول وتدخل السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية ولترفع يدها عن امور هي ليست من اختصاصها، حيث صدر مؤخرا قرار عن المحكمة الدستورية بتاريخ 2/7/2024 اعتبرت فيه هذه المحكمة ان سلطة الحكام الاداريين في فرض عقوبات على المخالفين استنادا لقانون الزراعة مخالفة للدستور وان ذلك يشكل بمثابة استحداث قضاء مواز للسلطة الفضائية وهذا يعتبر خرقا للمبدا الدستوري المعروف بمبدأ الفصل بين السلطات.

وفي حيثيات هذا القرار نجد انه تم الدفع من الطاعن لدى المحكمة الادارية بعدم دستورية عبارة "او الحكام الاداريين، ويتم البت فيها بصفة الاستعجال" الواردة في اخر المادة 40 من قانون الزراعة رقم 13 لسنة 2015 التي نصها : "تنظر دعاوى الحراج والمراعي امام محاكم الصلح او الحكام الاداريين ويتم البت فيها بصفة الاستعجال" بدعوى مخالفتها لاحكام المواد (27، 101، 102، 110، 128) من الدستور. وبناء على هذا الطعن قامت المحكمة الادارية باصدار قرار يتضمن احالة الدفع الى المحكمة الدستورية لاجراء المقتضى القانوني.

لتقوم بعد ذلك المحكمة الدستورية باصدار قرار يتضمن عدم دستورية هذا النص ، ومن ضمن ما ورد في نص قرار المحكمة الدستورية قولها : "ان المشرع الدستوري ومنذ قيام الدولة الاردنية اخذ بمبدا الفصل المرن بين السلطات الا انه حدد وبوضوح صلاحيات كل سلطة وحدود عملها، وحظر على اي منها التغول على غيرها بصريح نص المواد (25، 26، 27) من الدستور ،

وحيث ان النص الدستوري هو الذي يحد من غلواء التشريع ويعصمه من الجموح الى متاهات التجاوز وتخطي الحدود ، وافرد للقضاء احتصاصات بضمانات وحصانات لا يمكن تجاهلها او التغاضي عن مراميها ، واناط بالمحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها سلطة القضاء على جميع الاشخاص في جميع المواد المدنية والجزائية وبحيث تصدر احكامها باسم الملك ، فان كل تشريع يتعرض لاختصاص القضاء انتقاصا او تعديا او احالة لجهة غير قضائية يعتبر تشريعا مخالفا للدستور ، وعليه يتعين ان تقف سلطة المشرع ازاء حق التقاضي عند حد التنظيم فلا تجاوزه الى الحظر والاهدار، وان المقصود بالتنظيم هو ان يتولى القانون توزيع ولاية القضاء كاملة على المحاكم تنظيما لاداة استعمال السلطة القضائية تمكينا للمواطنين من ممارسة حق التقاضي دون ادنى مساس بالسلطة القضائية في ذاتها او عزل لجانب من المنازعات عن ولايتها ، فان تجاوز القانون هذا القيد الدستوري وانتقص من ولاية القضاء ولو جزئيا كان مخالفا للدستور.

وحيث ان النص المطعون بعدم دستوريته استحدث قضاء موازيا للقضاء الاصيل الذي انشاه الدستور ، واعطى للحكام الاداريين على قدم المساواة مع القضاء النظر في دعاوى الحراج والمراعي، فان هذا النص جاء خرقا لمبدا الفصل بين السلطات ، ملتفتا عن ضمانات وحصانات القضاء وغير مراع لحق التقاضي كحق اساسي ضمنه الدستور ، ويحول دون محاكمة الفرد امام قاضيه الطبيعي، الامر الذي يستوجب عدم دستوريته.... " انتهى الاقتباس.

هذا ما قررته المحكمة الدستورية فيما يتعلق بالنص الوارد في قانون الزراعة، اما فيما يتعلق بقانون الملكية العقارية رقم 13 لسنة 2019 والذي صدر بتاريخ 16/5/2019 وتم تعديله بموجب قانون معدل لقانون الملكية العقارية لسنة 2023 بتاريخ 17/9/2023 فان هذا القانون منذ صدروه بتاريخ 16/5/2019 قوبل بعدة ملاحظات من قبلي ومن قبل اخرين - الا انه لم يتم الالتفات اليها - ولم اقم باعادة او نشر وتوزيع هذه الملاحظات في حينه كونني كنت على راس عملي في دائرة الاراضي والمساحة، واود هنا ان اركز على اهم هذه الملاحظات لعدم اتساع المجال لذكرها جميعا، وهي وجود شبهة دستورية في هذا القانون تتمثل في امرين :

الامر الاول : سحب اختصاص محاكم الصلح بالنظر في قضايا ازالة الشيوع واناطته بلجان ازالة الشيوع في مديريات تسجيل دائرة الاراضي والمساحة :

نصت المادة 114 فقرة ب من قانون الملكية العقارية على : - "على الرغم مما ورد في أي تشريع آخر، تختص اللجنة دون غيرها بالنظر والبت في طلبات إزالة الشيوع في العقار التي يتقدم بها أي من الشركاء الى مدير التسجيل ".

هذه اللجنة تشكل من ثلاثة من موظفي دائرة الاراضي والمساحة ليس بينهم قاضي وليس لهذه اللجنة اي صفة قضائية او حتى صفة الضابطة العدلية انما مجرد لجنة ادارية يتم تسميتها وتبديل اعضاؤها من قبل المدير ويخضع اعضاؤها لسلطته وتتكون من موظفين يخضعون لنظام الخدمة المدنية كغيرهم من الموظفين ( وبالتالي لا يتمتعون باستقلالية او حيادية او حصانة ويتبعون لسلطة الرئيس المباشر ) ويشترط قانون الملكية العقارية ان يكون احد اعضاء اللجنة حقوقي وبالتالي فانه يمكن ان يراس هذا اللجنة اي موظف بغض النظر عن تخصصه بشرط ان يكون من الفئة الاولى ولا تقل درجته عن الثالثة (تم تسمية رؤساء لجان من تخصصات بعيدة كل البعد عن المجال القانوني). ورغم كل ذلك فان هذه اللجان تقوم بعمل هو بالاساس من صلب عمل القضاء يتمثل بالفصل بين المتنازعين كون ان دعوى ازالة الشيوع تقام من طرف على طرف بسب وجود نزاع او (غائب) وبالتالي يتم اللجوء لهذه اللجان للفصل بينهم بسبب عدم الاتفاق بينهم ، فتقوم اللجنة بحل هذا النزاع وتمارس نفس عمل القضاء من ناحية اجراء التباليغ وفتح المحاضر وضبط الجلسات واستدعاء الخبراء والشهود ومناقشتهم والفصل في طلباتهم واجراء المزاد العلني واصدار القرارات الفاصلة واجبة التنفيذ وجاهيا وغيابيا والتي يترتب عليها في بعض الاحيان نزع ملكية الاشخاص او بيعها بالمزاد العلني.

الامر الثاني : حرمان المواطنين من "حق التقاضي على درجتين":

نصت المادة (114) فقرة ب من قانون الملكية العقارية على: "- تنظر المحكمة في الطعن في قرار اللجنة مرافعة ًويكون قرارها بهذا الشأن قطعياً".

مبدأ التقاضي على درجتين أحد أهم المبادئ القضائية، وهو حق مكفول لكل متقاضي أو خصم بأن يعرض خصومته أمام أكثر من قاض أو محكمة للنظر والبت فيها، وهي بمثابة إتاحة الفرصة لصاحب الدعوى الذي أخفق في دعواه لعرض نفس النزاع أمام محكمة أعلى درجة وهيئة قضائية مختلفة لتفصل فيها من جديد، إما بإقرار الحكم الأول وتأييده وإما بنقضه وإبطاله.

إلا أنه وفقاً لقانون الملكية العقارية نجد أن قرارات لجان إزالة الشيوع يطعن بها لدى محكمة البداية فقط، ولا يجوز الطعن بعد ذلك بقرارات هذه المحكمة اي استئنافها او تمييزها اي ان القرار ينظر في درجة قضائية واحدة هي محكمة البداية، ويحرم المدعي من درجات التقاضي الاخرى، وفي هذا مخالفة دستورية وقانونية، وتأكيداً لعدم جواز ذلك قضت المحكمة الدستورية في الحكم رقم 2 لسنة 2013، بعدم دستورية حرمان المدعى عليه من الطعن في قرار محكمة الاستئناف استنادا لنص المادة 128/1 من الدستور والتي نصت على :"لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات على جوهر هذه الحقوق أو تمس أساسياتها". حيث ورد في حيثيات حكم المحكمة الدستورية: " أن سلطة المشرع لا يجوز لها أن تتجاوز التنظيم الى اهدار الحق او مصادرته بأي شكل من الأشكال فإذا حصل التجاوز كان ذلك خروجا على أحكام الدستور، إن حق التقاضي مبدأ دستوري أصيل حيث ترك للمشرع العادي أمر تنظيم هذا الحق شريطة مراعاة الوسيلة التي تكفل حمايته والتمتع به وعدم الانتقاص منه، بل تمكين المواطنين من ممارسة حرياتهم وحقوقهم بما في ذلك حق التقاضي على درجتين ...الخ". وقد تكرر هذا الرأي أيضا في قرار المحكمة الدستورية رقم 4 لسنة 2013.

ورغم اننا تفاءلنا خيرا في عام 2023 بعد ان تم التداول في الاعلام عن نية الحكومة باجراء تعديل على هذا القانون يتضمن اعادة اختصاص المحاكم للنظر في هذه القضايا كما كان سابقا، الا ان التعديل الاخير الذي صدر لهذا القانون ابقى هذه الصلاحية لدائرة الاراضي.

وعليه فانني ومن هذا المنبر ادعو الحكومة الموقرة لاعادة النظر بهذا القانون فيما يخص هذين البندين واعطاء هذا الامر صفة الاستعجال قبل ان يتم الطعن بعدم دستورية هذه النصوص مما قد يؤثر على سير عمل دائرة الاراضي والمساحة بعد كل هذا الجهد وكمية الطلبات التي تم الفصل فيها كبير بالاضافة للطلبات تحت النظر مما يؤثر على استقرار المعاملات العقارية.

علما بان قرار المحكمة الدستورية الاخير قضى بعدم دستورية نص قانون الزراعة لانه استحدث قضاء موازيا للقضاء الاصيل الذي انشأه الدستور ، واعطى للحكام الاداريين على قدم المساواة مع القضاء النظر في دعاوى الحراج والمراعي، بينما قانون الملكية استحدث قضاء بديلا للقضاء الاصيل واعطى لجان دائرة الاراضي وحدها سلطة النظر في دعوى ازالة الشيوع وبالتالي فهو ادعى للطعن به من نظيره في قانون الزراعة.


* الكاتب مدير ادارة شؤون التسجيل في دائرة الاراضي والمساحة سابقا