بعد أكثر من تسعة أشهر: أبواق العدو الرخيصة!
متى كان العدو الصهيوني ومن خلفه أمريكا ومجمل المنظومة الرأسماليّة الاستعماريّة الغربيّة بحاجة إلى حجّة أو ذريعة من أجل استباحة الدول والشعوب وممارسة القتل الجماعي والقتل بالجملة؟!
منذ إنطلاق معركة "طوفان الأقصى" وهناك أبواق فلسطينية وعربية رخيصة تسارع في كلّ موقف وحدث إلى تبنّى رواية العدو، وترديدها، وتضخيمها، واتخاذها ذريعةً من أجل توجيه سهام النقد والاتهام والإدانة إلى "المقاومة" وقياداتها!
هذه الفئة الرخيصة من البشر تتناسى متعمّدة أنّ الكيان الصهيونيّ هو مَن يقتل وهو مَن يدمّر وهو مَن يرتكب جرائم الحرب بشكل مُمنهج ومقصود.. وتُلقي باللوم على "المقاومة" بحجّة أنّها التي أعطت الكيان الذريعة للقيام بذلك!
أصحاب هذا المنطق الأعوج والجدل المتهافت ينطلقون من حيث يشعرون ولا يشعرون من افتراض ضمني مفاده أنّ الكيان الصهيوني يمتلك ابتداءً حقّ وشرعيّة الوجود، وحقّ وشرعيّة القتل، وحقّ وشرعيّة اقتراف ما يحلو له من موبقات.. والعبرة فقط في التفاصيل والحيثيات، وفي إعطائه ذريعة أو عدم إعطائه ذريعة!
كما أنّ هذا المنطق الأعوج يتعامى عن حقيقةً يصرّ الجميع وفي مقدمتهم وسائل الإعلام على إغفالها وتجاهلها وعدم التركيز عليها، وهي أنّ "الإبادة والتهجير"، وإعادة احتلال قطاع غزّة كاملاً، و"تطويبه" باسم الشركات التي سبق وأن تمّ منحها عقود استخراج غاز غزّة قبل حتى أن يتم إطلاق رصاصة واحدة.. كلّ هذا قد كان مخطّطاً مبيّتاً لدى عصابة الحرب الصهيونية، ولدى مجرم الحرب الفاسد "نتنياهو"، قبل تاريخ 7 أكتوبر!
وهذه تحديداً هي "مهمّة" الكلب المسعور "نتنياهو" التي أشار إليها الكاوبوي الصهيوني "ترامب" عندما قال في مناظرته مع العجوز الصهيوني الخَرِف "بايدن": يجب أن تسمحوا لإسرائيل بإنهاء المهمّة!
وعليه، فإنّ "طوفان الأقصى" قد جاء فعليّاً كـ "ضربة استباقية" افقدت العدو توازنه، واربكت حساباته، وخلطت أوراقه!
ولو تُرك الأمر للعدو ليختار "ساعة الصفر"، وليختار الحبكة والذريعة، لكان القتل والدمار هما نفس القتل والدمار بل ربما أكبر، وخسائر أهالي غزّة هي نفسها خسائر أهالي غزّة بل غالباً أفدح.. والأهم، أنّ تخاذل الأنظمة العربية (والإسلامية) إزاء مخطط التهجير وتصفية القضية الفلسطينية كان سيكون أوقح و"بالمشرمحي" و"بعين بِلْطَة" و"على عينك يا تاجر"!
أصحاب هذه الأبواق الرخيصة والمنطق الأعوج يصرّون على الحديث عن "المقاومة" ومجاهديها وقياداتها الميدانيّة مثل "السنوار" و"الضيف" وغيرهما، وكأنّهم غزاة هبطوا من الفضاء، أو أتوا من الخارج، وليسوا أبناء غزّة وغزّة أمّهم، وليسوا أبناء الغزّاويين والغزّاويون أهلهم!
هم يردّدون إحدى أخبث الأفكار الدعائية التي حاول العدو والإعلام المساند له غرسها في الأذهان منذ اليوم الأول، وهي الفصل بين "المقاومة" وأهالي غزّة وعموم الشعب الفلسطيني، والفصل بين "المقاومة" و"حاضنتها الشعبية".
وللأسف، من أوائل الذين عملوا على تكريس هذه الفكرة، وجعلها تتسلل كجرثومة خبيثة إلى العقول والوجدان، أشخاص منّا وفينا ومن لحمنا ودمنا انبهر الناس بهم وبـ "أدائهم" و"موهبتهم"، فلم ينتبهوا إلى السمّ المدسوس في الدسم، أمثال "باسم يوسف" و"حسام زملط" و"معتز عزايزة".. وغيرهم!
هؤلاء يحاولون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تصوير أهالي غزّة وكأنّهم "مُختطَفون" من قبل فصائل المقاومة ولحسابها.. ويتغافلون عن حقيقة أنّ "المقاومة" هي خيار الغزاويّين جميعاً، وأنّ فصائل المقاومة هي انعكاس ونتيجة لحالة المقاومة وثقافة المقاومة وإرادة المقاومة التي يمثّلها وطالما مثّلها المجتمع الغزاوي أمس واليوم وغداً.
وطبعاً عندما نقول "المجتمع الغزّاوي" فهذا لا يعني (100%) من سكان غزّة.. هذا فهم سخيف!
عندما نقول أنّ "المقاومة هي ثقافة المجتمع الغزّاوي" فنحن نشير إلى "الحالة الجمعيّة" هناك، أو "النزعة المركزيّة"، أو "النموذج المتوسط" بلغة علم الاجتماع الذي يمثّل النقطة المرجعيّة والمعياريّة لما هو "طبيعي" و"عادي" في المجتمع المُعطَى.. وهذا لا يلغي وجود تنويعات على هامش هذه الحالة الجمعيّة، وقيم متطرّفة أو حتى شاذّة على هامش هذه النزعة المركزيّة والنموذج المتوسط.. لكن هذه التنويعات والقيم الشاذّة هي الاستثناء وليست القاعدة.
وما يحدّث أنّ الماكينة الإعلاميّة الدعائية الرخيصة تأتي على مثل هذه الاستثناءات، وتحاول تسليط الضوء عليها، وتضخيمها، وتهويلها، غالباً تحت غطاء تعاطف كاذب وباسم المعاناة الإنسانيّة.. من أجل إعطاء انطباع مغلوط عن واقع الحال، وكجزء من الحرب المعنوية والنفسية على أهالي غزّة وعلى داعمي "المقاومة" والمتعاطفين معها.
وفي جميع الأحوال، لا يستطيع أحد في العالم حتى ما قبل 7 أكتوبر أن يزاود على أهالي غزّة ولو قيد أنملة، سواء أقرروا أن يصمدوا جميعاً، أو قرروا أن يستسلموا جميعاً، أو قرّروا أن يهاجروا جميعاً.. لكن العبرة هنا التحذير من الأبواق الدعائية المُغرضة التي تحاول استغلال أهالي غزّة بمختلف أطوارهم وأحوالهم وما يكابدونه ويقاسونه، وتجيير ذلك لصالح أجندات سياسية خبيثة آخر همّها أهالي غزّة وفلسطين و"القضية" والأوطان والشعوب والبشر بالمجمل!
وبالنسبة للأقلية الذين يدّعون أنّ "المقاومة" و"الصمود" و"المعاناة" و"الموت" هي خيارات فُرضت عليهم ولم يختاروها بمحض إرادتهم.. فالإجابة هي:
أولاً، كما ترفضون وأنتم الأقليّة أن يفرض الآخرون عليكم خياراتهم، فمن حقّ الآخرين وهم الأغلبيّة أن يرفضوا محاولتكم فرض خياراتكم عليهم!
ثانياً، ها هو العدو الصهيوني وها هي دول الاعتدال العربي أمامكم (حتى ما قبل طوفان الأقصى)، لماذا لا تذهبون إليهما فاردين أذرعكم قائلين: "تبّاً للمقاومة وفصائلها.. آتونا نقتبس من نور سلامكم وننهل من معين اعتدالكم وأخوّتكم الإبراهيميّة".. هل سيستقبلونكم؟ وهل سيفتحون لكم أذرعهم؟
إلى جانب كونها واجب وطنيّ وقوميّ ودينيّ وإنسانيّ، فإنّ "المقاومة" خيار فرضه طغيان الاحتلال والخذلان العربيّ والإسلامي، ومنظومة المصالح القذرة التي تربط هؤلاء بهؤلاء.. قبل أن تكون خياراً تتبناه الأجندة السياسية لهذا الفصيل المقاوم أو ذاك!
أمّا بالنسبة لـ "العوام"، أي الذين ليس لديهم مصالح ماديّة مباشرة مرتبطة بالصهيونيّ والأمريكيّ والغربيّ، أو مناصب ومكتسبات يخافون عليها، أو تجارة يخشون كسادها، أو "أدوار وظيفية" يريدون الحفاظ عليها.. فإنّ هجومهم الطوعيّ على المقاومة وخياراتها ورموزها هو بمثابة "آلية دفاعيّة" نفسيّة يحاولون من خلالها نفاق أنفسهم، والتهرّب من مسؤولياتهم والتزاماتهم حتى تجاه أبسط الأشياء المُفحِمة كالمقاطعة أو عدم العمل لدى مؤسسات العدو وداعميه أو مجرد الصمت، وإسكات ذلك الصوت الخافت داخلهم الذي لا ينفّك يلحّ عليهم بأنّهم جبناء وأنذال ومتخاذلين ورخاص، والتحايل على هذا الصوت من خلال المزيد من "الجعجعة" و"البعبعة" والاشتباك مع أنصار "المقاومة" ومؤيّديها والمتعاطفين معها، والاستقواء عليهم ظنّاً بأنّهم "الحلقة الأضعف" في ضوء عسف الأنظمة والسلطة الذي يزداد صلافةً ونطاقاً مع مرور الوقت!
مرّة أخرى، لا أحد يمتلك الحقّ بالمزاودة على أهل غزّة أو مطالبتهم بالمزيد.. لكن أيضاً لا أحد يمتلك الحق بمحاولة تجيير تضحياتهم لصالح حساباته الرخيصة، أو الانتقاص من بطولاتهم، أو التهوين والاستخفاف بالأثمان الكبيرة التي دفعوها طوْعاً وكرْهاً في سبيل وطنهم وقضيتهم!