سحر الأرقام والحروف.. إلى أي حد تتغلغل الرياضيات في حياتنا؟

يعتقد الكثيرون أن الدور الذي تلعبه الرياضيات مقتصر فقط على علوم الفيزياء وما يتفرع منها من تخصصات مثل الفلك أو علوم المواد، إلا أن ذلك بعيد تماما عن الصحة، فالرياضيات تدخل تقريبا في كل نطاقات العلوم، وحاليا على سبيل المثال لا الحصر تخرج فرضيات علاجية في علوم السرطان تعتمد بالكامل على عمليات حسابية لتتبع الورم وفهم كيفية انتشاره، ويمتد الأمر إلى نماذج التنبؤ بالطقس وكيفية عمل الآلات التي نستخدمها جميعا ووصولا إلى علوم الأعصاب وكيفية عمل الدماغ وتطعيمات الأوبئة. في هذه المادة المترجمة من نيوساينتست، يركز الكاتب بشكل أساسي على فرع حديث نسبيا من الرياضيات يتبع التفاضل والتكامل، تلك الجزئية التي طالما رأيناها صعبة ومملة في مناهجنا الدراسية، وكيف يمكن أن تؤثر في حياتنا إلى حد لا تتصوره.

نص الترجمة
إنها اللحظة الحاسمة إذن، رجة الخطر الحقيقة، "حياتك بين أيديهم". فما إن يبدأ طبيب التخدير بالعد التنازلي من 10، حتى يراودك هاجس يظل ماثلا في فضاء نفسك: أنت على وشك فقدان القدرة على الشعور والتنفس تماما بمفردك. فمنذ اللحظة التي تفقد فيها وعيك، ستعتمد بالكامل تقريبا على طبيب التخدير لإبقائك على قيد الحياة ومنعك من الاستيقاظ في منتصف الجراحة. لكن ما لا نفطن إليه هو أن الأمر لا يتوقف على القرارات الشخصية لطبيب التخدير فحسب، بل تعتمد هذه القرارات على النماذج الرياضية التي تدعم أنظمة المراقبة التي يستخدمها أطباء التخدير لتنظيم تدفق الأدوية على نحو صحيح.

سنجد أنه في قلب هذه النماذج الرياضية يقبع حساب التفاضل والتكامل، وهو فرع من فروع الرياضيات الذي يسهم في شرح كيفية حدوث التغييرات والتنبؤ بها. وتعد هذه القدرة أساسية للغاية في المجال العلمي، وقد عززها حساب التفاضل والتكامل الذي لعب دورا بالغ الأهمية في دعم التطورات العلمية منذ اختراعه في شكله الحديث قبل قرابة 300 عام.

ولكن حان الوقت الآن للانتقال لمستوى آخر من التعقيد. عندما نحاول إنشاء نماذج رياضية لتمثيل حالات أو مواقف معقدة كاستجابة المريض للتخدير، سنستنبط حقيقة أن حساب التفاضل والتكامل التقليدي عاجز عن تحقيق مآربنا الخاصة بشأن هذه المسألة، وذلك لقدراته المحدودة في هذا المجال. لهذا السبب بالتحديد يوجد دائما طبيب تخدير في الغرفة. ومع ذلك، طرأ في السنوات الأخيرة تطور جذري وسريع لحساب التفاضل والتكامل يهدف إلى توفير مجموعة من الأدوات الرياضية التي ستساعدنا في فهم تفاصيل العمليات الفيزيائية بدقة لم يسبق لها مثيل.

لا تقتصر فوائد هذه التقنيات الرياضية المتطورة على توفير السبيل الأمثل لتوصيل الدواء لجسم المريض فحسب، بل يمكن أن تساعدنا أيضا في حل مجموعة واسعة من المشكلات، بدءا من اكتشاف السرطان مرورا بمنع انتشار التلوث، وصولا إلى تطوير بطاريات أكثر كفاءة. وعن ذلك، يقول عبدون أتانغانا من جامعة فري ستيت بمدينة بلومفونتين في جنوب أفريقيا، الذي أسهم في تطوير بعض النماذج الرياضية الأساسية التي تقف وراء التطورات التي نتحدث عنها الآن: "أعجز عن تحديد الطرق اللانهائية التي يمكن من خلالها تطبيق هذا التطور الرياضي".
 
يمنحنا حساب التفاضل والتكامل التقليدي طريقة لإنشاء نماذج رياضية للأنظمة التي يطرأ عليها تغيير، ومن ثم مساعدتنا في إجراء التنبؤات. خذ على سبيل المثال سرعة الحركة. ما الذي سيحدث بمجرد أن تضغط على دواسة البنزين في السيارة؟ ستزداد سرعتها بالطبع، لكن ما قد تسهو عنه أن معدل التسارع يعتمد على عدة عوامل، منها السرعة الحالية التي تسير بها السيارة، ومدى قوة المحرك، والقوة المطبقة على الدواسة، وما إذا كانت السيارة في طريقها للصعود إلى أعلى أم النزول إلى أسفل.

يمنحنا حساب التفاضل والتكامل أيضا القدرة على فهم العديد من جوانب العالم المادي والتحكم بها. ولن نبالغ إن ذكرنا أن حساب التفاضل والتكامل هو الذي قاد الثورة العلمية التي عبدت السبيل إلى الثورة الصناعية، ومنها إلى العالم الحديث.

ورغم فوائده الكبيرة، ما زال حساب التفاضل والتكامل محدودا في بعض المجالات. خذ على سبيل المثال عملية التفاضل، إحدى العمليتين الرئيسيتين في حساب التفاضل والتكامل. تخبرنا عملية التفاضل عن معدل تغير شيء ما. لو تحدثنا عن رحلة بالسيارة، يمكن لحساب التفاضل أن يخبرنا عن معدل تغير موقع السيارة، الذي نسميه عادة السرعة، وهذه العملية تعرف باسم المشتقة من الدرجة الأولى، حيث يتم التفاضل لأول مرة على الخاصية الأصلية (بمعنى أن عملية التفاضل تطبق لأول مرة على تغير موقع السيارة مع مرور الزمن، وهوما يعرف بالسرعة*).

أما عندما نتحدث عن المشتقة من الدرجة الثانية، فإننا نقصد معدل التغير لمعدل التغير الأولي، بمعنى أنها تستخدم لفهم كيفية تغير المعدلات الأولية (مثل السرعة) بمرور الوقت أو بتأثير قوى أخرى، وهو ما يعرف بالتسارع (معدل التغير في السرعة مع الزمن). وإن ذهبنا إلى أبعد من ذلك، سنحتاج إلى المشتقة من الدرجة الثالثة لتفسر لنا كيفية تغير معدل التسارع نفسه بمرور الوقت.

المشكلة أن حساب التفاضل التقليدي يستخدم أعدادا صحيحة فقط لحساب التغيرات، مثل المشتقة الأولى أو الثانية أو الثالثة. إلا أنه في الواقع، ثمة تغيرات تحدث في النطاقات بين هذه الأعداد الصحيحة. فمثلا قد يكون من الصعب استيعاب المقصود بثلثي معدل التغير لشيء ما، لكنه مع ذلك موجود وله تأثير، ولحسن الحظ يوجد من يساعدنا على فهم وتحليل هذه التغيرات بصورة أفضل، وهو "حساب التفاضل والتكامل الكسري".
 
لذا يبقى السؤال الأهم هنا: هل توجد طريقة لحساب ما يحدث بالفعل في هذه المساحات بين الأعداد الصحيحة، أو ما يسميه علماء الرياضيات المشتقات الكسرية؟

في عام 1695، واجه عالم الرياضيات غوتفريد لايبنتز، الذي شارك في اختراع حساب التفاضل والتكامل، هذا السؤال من قبل عالم الرياضيات الفرنسي غيوم دو لوبيتال. لم يعرف لايبنتز الإجابة، لكن نفاذ بصيرته ألهمه على الرد بحكمة وقتذاك بقوله: "قد تشوب فكرة المشتقات الكسرية بعض الحيرة والغموض، لكن سيتمخض عنها في النهاية مفارقة قد نستخلص منها يوما ما نتائج مرجوة".


عالم الرياضيات غوتفريد لايبنتز الذي شارك في اختراع حساب التفاضل والتكامل (مواقع التواصل)
لسنا متأكدين مما إذا كانت هناك بالفعل مفارقة حقيقية، إلا أن لايبنتز كان محقا على الأقل بشأن الفائدة. يمنحنا حساب التغير في المساحات التي لا يصل إليها حساب التفاضل التقليدي -حيث تصبح الأمور أكثر تعقيدا- فهما أعمق وتحكما أكبر في العالم المادي. على سبيل المثال، تحتاج الأنظمة التي تستخدم بيانات من أجهزة الاستشعار لمراقبة وتعديل سلوكها، إلى دقة أكبر مما يمكن أن يوفره حساب التفاضل والتكامل التقليدي.

سنجد مثلا في أنظمة التحكم في الإقلاع والهبوط العمودي في الطائرات مثل طائرة "الهارير جامب جيت" (وهي طائرة نفاثة عسكرية)، أو في الأنظمة التي تقمع الاهتزازات على أجنحة الطائرات التجارية، أن حسابات التفاضل والتكامل التقليدية تميل إلى تقديم حلول تقريبية فقط، والتي قد لا تكون كافية لالتقاط جميع التفاصيل الدقيقة في الأنظمة المعقدة، في حين يمكن لحساب التفاضل والتكامل الكسري أن يوفر حلولا أدق والتعامل مع التعقيدات على نحو أفضل.

وينطبق الشيء ذاته على الكثير مما يحدث داخل جسدك. إذا تفكرنا قليلا، سنكتشف كيف أن بعض المواد في الجسم البشري كالمواد التي تتمتع بلزوجة مرنة وتوجد بكثرة في الأنظمة البيولوجية، تتمتع بخصائص تقع في مكان ما في المنتصف بين خصائص السوائل والمواد الصلبة. وبالتالي يغدو من الصعب تطبيق النماذج الرياضية التقليدية لوصف سلوك مواد كهذه بدقة، لأن كل حالة من حالات المادة تتطلب نوعا مختلفا من التفاضل.

فمثلا، يمكن نمذجة حركة السائل اللزج باستخدام المشتقة من الدرجة الأولى لأن اللزوجة تعتمد عادة على سرعة الحركة. وبالمثل، يمكن نمذجة المادة التي تتمتع بمرونة صلبة باستخدام المشتقة من الدرجة الثانية، كما يحدث عند تحرير شريط مطاطي مشدود، حيث يتعلق الأمر بالتسارع. لكن لا تتمتع أيا من هاتين الطريقتين بدقة كافية عند نمذجة مواد مثل جدران الشرايين أو عضلة القلب، إذ تعتمد سلوكيات وخصائص هذه المواد على القوى التي تتعرض لها. لذا في النهاية، نحن بحاجة إلى شيء يقع بين الدرجتين (الأولى والثانية) يمكنه نمذجة الحالات البينية لهذه المواد.

وهنا يبزغ دور حساب التفاضل والتكامل الكسري الذي لم يتطور بعد تصريحات لايبنتز الغامضة إلا بعد فترة طويلة. في عام 1832، توصل عالما الرياضيات برنارد ريمان وجوزيف ليوفيل إلى طريقة لتنفيذ عملية التكامل (وهي العملية الثانية من العمليتين في حساب التفاضل والتكامل) والمعروفة باسم التكامل الكسري.

لتقريب الصورة أكثر دعنا نتحدث عن حساب التفاضل والتكامل التقليدي، إذا دمجت -على سبيل المثال- السرعة مع الزمن (وهي عملية التكامل)، ستحصل على المسافة المقطوعة. واعتمادا على ذلك، اكتشف كلا من ريمان وليوفيل أنه مثلما يمكنك تنفيذ عمليات تكامل متكررة على نتيجة التكامل، يمكنك أيضا ابتكار طريقة لتنفيذ هذا التكامل جزئيا، وهو ما سيفضي في النهاية إلى تكامل كسري.

 

 
 

بدأ التطور المهم لحساب التفاضل والتكامل الكسري في الظهور عام 1967، عندما ابتكر عالم الرياضيات ميشيل كابوتو طريقة جديدة لتعريف التكامل الكسري ومعكوسه، أي المشتقة الكسرية. ولحسن الحظ أن ما توصل إليه كابوتو فتح الباب على مصراعيه لطرق جديدة يمكن من خلالها إنشاء تكامل الدوال الكسرية.

كما أفسح ذلك الابتكار الطريق للعديد من علماء الرياضيات لتطوير أدوات مشابهة. ومن جانبه، يقول أران فرنانديز، الذي يدرس الخصائص الرياضية لحساب التفاضل والتكامل الكسري في جامعة شرق البحر المتوسط ​​في قبرص: "شهدت السنوات الأخيرة تدفقا مستمرا من التعريفات الجديدة".

 

أشبه بالذاكرة
تزخر المراجع الرياضية حاليا بالعوامل الكسرية، و كل منها مصمم لغرض مختلف، وجميعها مفيدة بطريقة ما. وتأكيدا على ذلك، يقول عالم الرياضيات عبدون أتانغانا: "إن السبب الوحيد الذي يجعلنا نستخدم الرياضيات هو محاولة تسخيرها لفهم الطبيعة، لكن يظل من المستحيل على عامل رياضي واحد أن يحقق هذه الغاية". وبالفعل قدم أتانغانا في عام 2015 عامل كسري خاص به، وأرسل النتيجة إلى البروفيسور دوميترو بالينو من جامعة تشانكايا في أنقرة بتركيا لفحصها، وأعجب الأخير بالنتائج فعلا.

وعن ذلك، يقول أتانغانا: "عندما قرأها، أخبرني أنني أتيت بإنجاز مذهل، وكأنني فتحت لهم أبواب السماء". كان سبب حماس بالينو نابعا من تنبؤه بأن اكتشاف أتانغانا سيعود عليهم بفوائد عظيمة، كتسخيره في العديد من المجالات المختلفة، ولم يكن مخطئا في ذلك.

إن تساءلنا عما عسى أن يتمخض عنه اكتشاف أتانغانا، سندرك أن جزءا من أهمية ابتكاره يكمن في أنه قدم بديلا للطريقة التي كان يتم بها حساب التكامل الكسري حتى ذلك الحين. فقد اعتمدت الطريقة السابقة على "قانون القوة"، وهو علاقة رياضية بين عاملين، حيث يتغير أحدهما بوصفه قوة للآخر. ويمكن رؤية علاقات قوانين القوة في العديد من الظواهر الطبيعية كالزلازل على سبيل المثال. إن احتمالية حدوث زلزال بقوة معينة خلال فترة زمنية معينة ترتبط بشدة الزلزال من خلال علاقة رياضية تسمى قانون القوة المعروف باسم قانون غوتنبرغ-ريختر الذي يصف العلاقة بين قوة الزلازل وتواترها.

المشكلة في قوانين القوة تلك هي أنها تصف العمليات التي ليس لها بداية ونهاية محددتين، وتوفر فقط وصفا تقريبيا لكيفية تطور شيء ما. وبالمثل يرى إرنست جان ويت من جامعة لوغانو في سويسرا أن قوانين القوة تعطي تقديرا عاما أو أوليا لكيفية تطور شيء ما، لكنها ليست دقيقة بما يكفي لتقديم وصف مفصل أو دقيق للظاهرة المدروسة. لكن العامل الكسري الذي طوره أتانغانا تمكن من استبدال مصطلح قانون القوة بشيء يعرف باسم دالة ميتاغ-ليفلر، وهو ما يمنح أداته القدرة على التعامل مع التغييرات غير المتوقعة التي قد تمر دون أن يلاحظها حساب التفاضل والتكامل التقليدي، مما يزيد من دقة ومرونة النتائج التي يمكن تحقيقها باستخدام هذه الأداة.

لتبسيط الأمر أكثر تخيل معي أن مياها جوفية ملوثة بمخلفات سامة تتسرب إلى تربة المزارعين، ماذا سيحدث في حالة كهذه؟ ستواصل المياه الملوثة ببطء سعيها متلمسة طريقها لتغطية أكبر مساحة من الأرض. ولكن إذا تعرضت الأرض إلى شرخ ما في باطنها، سيتغير كل شيء. وتأكيدا على ذلك يقول أتانغانا: "ما إن تصل المياه إلى الشرخ، حتى تبدأ في التدفق تجاهه بسرعة مهولة.

هذه الظاهرة المعروفة باسم "التقاطع" كانت تستدعي في الماضي استخدام نماذج رياضية مختلفة ومعقدة لتحليل النظام، وهو ما جعل الحسابات صعبة للغاية. ومع ذلك، تمكن أتانغانا من ابتكار طريقة جديدة يمكن استخدامها لتحليل النظام بأكمله أثناء تطوره باستخدام عامل كسري واحد فقط (وبفضل هذه الطريقة، تمكن الباحثون والعلماء من تحليل التغيرات في النظام بصورة أكثر فعالية وبساطة، دون الحاجة إلى استخدام عدة نماذج معقدة).

على الجانب الآخر، يرى أتانغانا أن الطبيعة متخمة بالظواهر التي تتبدى فيها عملية التقاطع تلك (وهي ظاهرة تتغير فيها السلوكيات كثيرا بين مرحلة وأخرى*). فمثلا، لجأ علماء الرياضيات الذين يسعون إلى وضع نموذج رياضي لانتشار الأمراض إلى استخدام العامل الكسري الذي طوره أتانغانا لنمذجة مشاكل العالم الحقيقي. وفي عام 2018، أظهر بالينو وزملاؤه من تركيا ونيجيريا وباكستان أن العامل الكسري الجديد قادر على إيجاد حلول لمشكلة كانت سابقا عصية على الحل: وهي كيفية اختيار الإستراتيجية المثلى للتطعيم عند انتشار وباء يشمل سلالتين من مسببات الأمراض التي تعيث فسادا بين السكان.


عبدون أتانغانا أستاذ الرياضيات من جامعة فري ستيت بمدينة بلومفونتين في جنوب أفريقيا (جامعة فري ستيت)
في الماضي، اضطر العلماء إلى حل 6 معادلات غاية في التعقيد، والأسوأ من ذلك أنها لا تنجح إلا إذا تمكنت من العثور على متغيرات المعادلات التي تعكس القيم الحقيقية في العالم الحقيقي، وهي عملية مضنية تؤتي ثمارها من خلال التجربة والخطأ. وبفضل العامل الجديد الذي طوره أتانغانا، تمكن الباحثون بسرعة من العثور على حل يعطي تطابقا أقرب للبيانات الحقيقية حول انتشار السلالات. وبالفعل أثبتت هذه التقنية فعاليتها في نمذجة انتشار فيروس كوفيد-19 بين بعض السكان.

 

استرجاع كامل للتفاصيل
يعزو بالينو وزملاؤه هذا النجاح إلى حقيقة أن العوامل الكسرية -بما في ذلك عامل أتانغانا-بالينو- يمكنها تصميم شيئا ما أشبه بالذاكرة. فكر في الوقت الذي تستغرقه بطارية الحاسوب لتفقد كل شحنتها على سبيل المثال. إذا كانت البطارية قديمة ومرت بالعديد من دورات الشحن، فقد يكون عمرها الافتراضي أقصر بكثير مما لو كانت جديدة. ولا يملك حساب التفاضل والتكامل التقليدي أي طريقة لاحتساب تأثيرات الذاكرة هذه أو وضعها في الاعتبار، وهو ما يجعل التنبؤات منقطعة الصلة بالواقع.

أما النماذج وأنظمة التحكم القائمة على المشتقات الكسرية فيمكنها مراعاة مثل هذه الآثار في عملياتها. تظهر قوة هذا العامل الكسري بوضوح في مجال التخدير، حيث تلعب الذاكرة دورا مركزيا في نظام مراقبة وتسليم الأدوية بواسطة الحاسوب. تقول دانا كوبوت من جامعة غينت في بلجيكا: "يمكنني استخدام مصطلح الذاكرة لتتبع كيفية تأثير الأدوية على المريض وتجنب إعطاء جرعات زائدة".

تعتمد كيفية معالجة الجسم للأدوية على تركيزها في مجرى الدم، إذ يواجه الباحثون تحديا للحفاظ على تركيزات الأدوية في الدم عند مستواها الأمثل. لا يمكن لحساب التفاضل والتكامل التقليدي أن يصمم العملية بدقة، وهو ما يؤدي بدوره إلى تقدير أقل أو أكثر من اللازم مقارنة بالبيانات الفعلية في العالم الحقيقي. ونتيجة لذلك، قد يتلقى المرضى جرعات قليلة جدا من المخدر، فيسفر ذلك عن استفاقتهم أو شعورهم بالألم خلال الجراحة.

لكن على النقيض من ذلك، يمكن لحساب التفاضل والتكامل الكسري أن يدمج ذاكرة للجرعات السابقة من الأدوية التي أعطيت للمريض بالفعل. وعن هذا تؤكد كوبوت بقولها: "باستخدام مصطلح الذاكرة، يمكننا أن نأخذ في الاعتبار جميع الخصائص أو العوامل المؤثرة"، وهو ما يتيح للباحثين معرفة كمية الجرعات المناسبة والأوقات الدقيقة لتناول الأدوية.

ورغم أن الأمر قد يستغرق وقتا قبل أن يتحكم الحاسوب في كمية المخدر التي يتلقاها المريض، فإن كوبوت واثقة من أن ذلك قد يتحقق يوما ما. وبالفعل بدأ حساب التفاضل والتكامل الكسري في غرف الاستشارات الطبية. تعتبر كوبوت جزءا من تعاون استخدم هذه التقنية لتطوير نظام يمكنه التمييز بين الربو ومرض الانسداد الرئوي المزمن. ويعمل هذا النظام عن طريق مقارنة الأعراض الفسيولوجية مع تلك المتوقعة من نماذج كسورية متعددة، لذا في السنوات القادمة قد تظهر استخدامات عديدة لحساب التفاضل والتكامل الكسري.

فمثلا إذا تحدثنا عن الطب، سنجد أن هذا الفرع من الرياضيات قد يساعد في فهم كيفية انتشار السرطان وكيفية تأثير العلاجات عليه. أما خارج الطب، فقد أظهرت جامعة شاندونغ في الصين أن حساب التفاضل والتكامل الكسري يمكنه تقديم تقدير أفضل لعمر بطارية السيارات الكهربائية من خلال نمذجة العوامل التي تؤثر على استهلاك البطارية واستنزافها.

في نهاية المطاف، لن يكون حساب التفاضل والتكامل الكسري هو الحل لكل شيء بالطبع، وهذا ما يختتم به أتانغانا حديثه: "رغم أننا نسعى لفهم الطبيعة من خلال الرياضيات، فإن تعقيدها يحول دون تحقيق ذلك، كما أن درجة تعقيدها تتجاوز قدرة الرياضيات على تفسيرها". ومع ذلك، يمكن لحساب التفاضل والتكامل الكسري إزاحة الستار عن مزيد من التفاصيل الدقيقة لفهم الفوضى الجميلة للطبيعة أكثر من أي أداة رياضية سابقة. وبعد مرور 300 عام على تنبؤ لايبنتز، أثبتت التقنيات التي طورت بعد ذلك دقة تنبؤاته بدرجة تفوق توقعات الكثيرين.

المصدر : مواقع إلكترونية