طوفان الأقصى.. وفيّاض بوقعقور.. والدولة الأمريكيّة الجديدة!


 كتب: كمال ميرزا 

 النموذج الجديد للدولة الذي يتمّ إرساؤه في العالم وفق الـ (new deal) الأمريكيّة الحاليّة هو نموذج المزرعة العائليّة (ranch)، التي يديرها راعي بقر (cowboy)، بالعقليّة العنصرية المتطرّفة لـ (redneck)، والثقافة الفجّة الخشنة لـ (hillbilly)!  أمّا الشعب فهو يُعامَل معاملة "المهاجرين غير الشرعيين" أو "الغرباء" (aliens)، وهي نفس التسمية التي تُستخدم لـ "الكائنات الفضائية"، حتى لو كان هؤلاء أبناء البلد الأصليّين أو أبناء "الآباء المؤسّسين"، حيث يُسمح لهم بالعيش والعمل داخل المزرعة مقابل أدنى أجر، أو حتى مقابل أكلهم وشربهم ومنامتهم واستمرارهم في العيش!

  وفق هذا النموذج للدولة فإنّ مجرد وجودك على قيد الحياة هو بمثابة مَكْرُمة ومِنّيّة وفَضْل تزجيها إليك السلطة.  وعندما نقول "السلطة" فالمقصود السلطة بمفهومها الواسع، أي سلطة السوق ورأس المال والمتحكّمين بهما، في حين أنّ كيان الدولة (القابل لإعادة التعريف والتكييف دوماً) هو مجرد أدوات وظيفيّة في يدّ هذه السلطة، وأول هذه الأدوات هي أجهزة إنفاذ القانون (law enforcement) بمعناها البوليسي القمعي العنيف المباشر! 

 وعليه، لا يوجد في نموذج "الدولة المزرعة" شيء اسمه "حقوق" على غرار دولة "العقد الاجتماعي" أو "دولة الرفاه" الكلاسيكيّة المضمحلّة؛ فالمأكل والمشرب والمسكن والتعليم والصحة والنقل والعمل وحرية الرأي والتعبير والخصوصية.. الخ جميعها من حيث المبدأ ليست حقوقاً واجبةً ومكتسبةً، بل هي سلع يتشريها المواطن من السوق وفق قانون العرض والطلب، أو بالأحرى قانون "احتكار العرض".. والطلب! 

 وفي حال تمّ منح المواطن النذر اليسير من هذه الحقوق/ السلع مجاناً لأسباب سياسية أو للتخدير أو لتفريغ الاحتقان والحيلولة دون بلوغه درجة الانفجار، فإنّ ذلك يتمّ تحت مسمّى "الحماية الاجتماعية" في حالة الحكومات، أو المسؤولية الاجتماعية" في حالة الشركات..لكنّها ليست حقوقاً على الإطلاق!  

والناس في مقابل ذلك كلّه يجب أن يُبدوا منتهى الرضا والامتنان والعرفان والطاعة العمياء والخضوع.. وإلّا اعتُبروا أعداءً للدولة وتهديداً للنظام وخارجين على القانون ومتمرّدين على المجتمع!  

هذا النموذج الجديد للدولة يرتبط بما يُسمّى النظام العالمي الجديد، والذي يقوم على تحويل العالم كلّه (بما فيه البشر) باسم العولمة وتحرير التجارة إلى سوق واحدة و"مادة استعماليّة" واحدة تتحكّم فيها صناديق سيادية وبنوك وشركات عابرة للقارات تمتلك سلطةً ونفوذاً وموارد تفوق دولاً بأكملها، وتدير العالم عبر عواصم ماليّة عالميّة (هي غالباً موطن البورصات والمقّرات الرئيسية للبنوك والشركات الكبرى) وليس العواصم السياسية التقليديّة. 

 وفق هذا النموذج للدولة فإنّ الحلم الأمريكي/ الرأسمالي/ الصهيوني بـ "يوتوبيا أرضيّة" أو "الفردوس الأرضيّ" يتحوّل إلى حلم حصريّ متاح فقط للقلّة القليلة التي تملك وتتحكّم.. في حين أنّ هذا الحلم بالنسبة للأغلبية الفائضة عن الحاجة في زمن المَكْنَنَة والذكاء الاصطناعي يتحوّل إلى "كابوس" و"ديستوبيا" مرعبة بالمعنى المجازيّ والحرفيّ للكلمة. 

 التحكّم والسيطرة (السيبرنطيقيا)، واللذان يتجاوزان كثيراً المعنى البسيط المباشر للإدارة والأمن، هما عنصران أساسيان في نموذج الدولة/ المزرعة الجديد، لذا نجد كلّ هذه اللوثة باتجاه الأتمتة والرقمنة و"دمغ" البشر كالقطيع بذريعة التحديث والتطوير و"التسهيل"!  

"الانتخاب الصناعي"، غالباً عن طريق تدخّلات الهندسة الجينيّة والميكرو - ييولوجي وحريّة تغيير/ اختيار الجنس.. هو أيضاً عنصر أساسي في نموذج الدولة/ المزرعة. 

  وفي هذا النموذج هناك فئتان أساسيّتان للناس ـ عدا الأسياد ـ يتمايز بموجبها الشعب أو المواطنون: أقنان.. و"حيوانات بشريّة"!  

وكالعادة في الزمن الأمريكي، يتمّ البدء بفرض أي نموذج جديد للدولة تباعاً من الأطراف المستعصية البعيدة، عبر العمالة أو الابتزاز أو الغزو أو الفوضى، وصولاً إلى مسقط رأس النموذج (التراب الأمريكي) حيث تطبيقه أسهل بحكم أنّه قد نضج أساساً هناك.  

هذا النموذج الجديد للدولة هو سبب إضافي من أسباب الكره والبغض والحقد الذي يكنّه المشروع الإمبريالي الرأسمالي الصهيوني الغربي لأهل غزّة و"المقاومة" و"طوفان الأقصى"، فالطوفان قد أربك وخلخل وعطّل مخططات هذا المشروع بتكريس نموذج الدولة/ المزرعة نهائيّاً كجزء من إعادة ترتيب المنطقة، على الرغم من كثرة الأعراب المفتتنين بدور "الكاوبوي"، والمستعدين للعبه بحق دولهم وأوطانهم وشعوبهم إلى أقصى مدى!  الشريف (sheriff) هو شخصية أساسيّة في أفلام (الكابوي)، لكن الشريف في نموذج الدولة/ المزرعة لا ينبغي أن يكون شريفاً بالضرورة! 

 الغانيّات (prostitutes) أيضاً هنّ عنصر أساسي في أفلام (الكاوبوي)،  هذا الدور في الدولة/ المزرعة يلعبه "الإعلام"، و(السوشال ميديا) هي البار (bar)، و"المجال العام" (public sphere) هو "ساحة البلدة" التي يتبارز فيها المجرمون وقطّاع الطرق بالمسدسات لإرداء بعضهم البعض وفرض سطوتهم وسيطرتهم وتصفية حساباتهم! 

 من المألوف أن ترى أشخاصاً مثل  "دونالد ترامب" أو حتى العجوز الخَرِف "جو بايدن" يحاولون التصرف على طريقة (كاوبوي) بحلّةٍ عصريّةٍ جديدةٍ باعتبار أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لطالما حُكِمَتْ من قبل "رعاة بقر".. لكن المكافئ لراعي البقر في ثقافتنا الشرقيّة هو "راعي العجّال" على غرار "فيّاض بوقعقور" في مسلسل "الخِربة"! 

 كم هو منظر ساخر ومزرٍ ومدمّر في آن واحد عندما ترى "رعاة عجّال" يحاولون التصرف كرجال (كاوبوي) حقيقيّين، ويقامرون بدولهم وأوطانهم وشعوبهم ويرهنونها لدى الـ (pawn shop) في سبيل ذلك، وشعارهم دائماً وأبداً:

 "من أجل حفنة من الدولارات" (A Fistful of Dollars)!