هل هذه هي حدود الوجع الأردني؟!
في معرض تعليقها على تصويت ما يُسمّى "الكنيست الإسرائيلي" بالأغلبيّة الساحقة على قرار يرفض قيام "دولة فلسطينيّة".. أدانت الخارجيّة الأردنيّة هذا القرار واصفةً إيّاه بأنّه "يشكل انتهاكاً جديداً وخطيراً للقانون الدولي، وإمعاناً في تحدّي المجتمع الدولي"!
هل هذه حقّاً حدود الموقف الأردني؟!
هل هذا حقّاً هو "وجع" الأردن إزاء ما يحدث: انتهاك القانون الدولي؟!
ماذا عن الواجبين القومي والديني؟!
ماذا عن انتهاك حرمات الله؟!
ماذا عن إراقة دماء العرب والمسلمين؟!
ماذا عن استباحة أرض العرب والمسلمين؟!
أم أنّ "القانون الدولي" قد أصبح هو "المرجعيّة النهائيّة" لكلّ ذلك، أو بلغة علم الاجتماع "المُقدّس الجديد" الذي حلّ محلّ المقدّسات الطوطمية واللاهوتية القديمة؟!
لماذا لا يُبجّل هذا القانون الدوليّ إلّا نحن، بينما ينتهكه ويدنّسه الذين وضعوه وفرضوه علينا ليل نهار؟
أم أنّهم "كهنة الهيكل" و"موضع الحلول" الذين رُفع عنهم القلم؟!
وبعيداً عن القداسة المزيّفة والهيبة الكذّابة التي تحيط بمصطلح فخم مثل "القانون الدولي"، هذا القانون في حقيقته هو قانون وضعي ذرائعي يقوم في تسعة أعشاره على "الأمر الواقع" و"امتلاك الأرض"، ولا تعنيه كلّ المثاليات النظريّة وفي مقدّمتها المثاليات الجوفاء التي أفرزتها "الحداثة الغربية"، وهذه المعلومة يعرفها أي طالب شخّاخ أو طالبة شخّاخة يدرسان القانون الدوليّ في أي جامعة ركيكة!
للحظة تشعر أنّ "القانون الدولي" قد أصبح الحجّة الحاضرة والشمّاعة الجاهزة للتنصّل من الواجبين القومي والديني واستحقاقاتهما، بل والتنصّل حتى من استحقاقات المصلحة "الوطنيّة" الأردنيّة في أضيق معانيها القُطريّة؟!
((تبّاً للجميع، أنا أردنيّ شوفينيّ متعصّب لا أرى سوى بلدي الأردن وأمنه ومصلحته، ولا يعنيني مَن هذا الذي رسم حدودي السياسية "سايكس - بيكو" أم "سان ريمو" أم "قز القرت"، ما يعنيني فقط هو بلدي ودولتي في هيئتها ووضعها وشكلها الحالي.. وليذهب البقيّة للجحيم))!
لكن حتى هذا المنظور الوطنيّ القُطريّ الضيّق تحديداً هو أكثر ما يُملي على الشخص - أو ينبغي أن يُملي عليه - العِداء للكيان الصهيوني والتصدّي له والوقوف في وجهه باعتباره أكبر تهديد أمنيّ ووجوديّ يهدد كيان الدولة الأردنيّة والنظام الأردنيّ والمجتمع الأردني!
بكلمات أخرى، الولاء والانتماء الحقيقيين للأردن يُملِيان على كلّ مدعٍ للوطنيّة ومزاود باسمها مناصبة الكيان الصهيوني العداء.. لا "دلق" أنفسنا عليه بذريعة السلام كـ "خيار إستراتيحي" وهو يضرب بعرض الحائط هذا السلام ليل نهار!
نفهم - ولا نتفهّم ولا نقبل- أنّ البعض قد رهنوا مصالحهم وامتيازاتهم ومصيرهم الشخصيّ بالصهيوني والأمريكي، لكن بالنسبة للأردن ككلّ ولعموم الأردنيين فإنّ العدو الصهيو - أمريكي هو العدو الأكبر والخطر الأكبر والشيطان الأكبر!
كلّ ما يكابده ويعانيه الأردنيين الآن من ضيق وضنك عيش واستنزاف ممنهج لمقوّماتهم ومقدّراتهم ومواردهم وإمكاناتهم، سواء على مستوى الأفراد أو على المستوى الأُسر والجماعات، والإنضاج البطيء لهم على نار الفقر والبطالة، وابتزازهم بورقة الأمن والأمان والهويّات الفرعية، ومحاولة "تدويل" الأردن من خلال جعل ترابه متاحاً للبيع وجنسيته متاحةً للشراء بذريعة "تشجيع الاستثمار".. كلّ ذلك يرتبط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالكيان الصهيوني ومشاريع داعمته وراعيته أمريكا في المنطقة!
لا أحد يتوقّع من الأردن إعلان الحرب على الكيان الصهيونيّ، ولا حتى "المقاومة" نفسها تتوقّع وتتعشّم ذلك، خاصةً في ضوء غياب "التضامن العربي" و"الجبهة العربية الموحّدة"، وإحجام الدول العربية التي يُفترض أن تمدّ الأردن بالعمق والإسناد والدعم في حالة دخوله الحرب، أو حتى انقلابها عليه في حال أقدم على ذلك!
لكن في المقابل لا يُعقل أن يصرّ الأردن كلّ هذا الإصرار العجيب على عدم استخدام أيّ من أوراق الضغط العديدة التي بين يديه!
الحديث هنا ليس عن نظريّات وفرضيّات و"مثاليّات"، بل عن إجراءات عمليّة حقيقية ملموسة:
ـ إعلان التعبئة العامّة وإعادة العمل بالتجنيد الإلزامي وخدمة العلم.
ـ قطع كافة أشكال العلاقات والتبادل التجاري مع الكيان الصهيوني حتى إشعار آخر.
- تجميد معاهدة السلام وكلّ التفاهمات والبروتوكولات المنبثقة عنها لحين توفّر "شريك السلام" المناسب.
بالنسبة للنقطة الأخيرة فقط أعطى الكيان الصهيوني بكافة أطيافه للأردن الحجّة والذريعة للقيام بذلك من خلال تصويت "الكنيست" الأخير.
تصويت "الكنيست" هو بمثابة نسف لـ "اتفاقيّة أوسلو" من أساسها، ولمّا كانت "أوسلو" هي "شِق التوم" لاتفاقيّة "وادي عربة"، فمن أين يمكن أن تأتي الثقة أنّ الكيان سيلتزم بمسؤولياته تجاه الثانية ولن يُلحقها بأختها الأولى؟!
بل إنّ انتهاكات الكيان لاتفاقيّة "وادي عربة" لم تنقطع منذ توقيعها سنة 1994، وقد زادت وتيرة هذه الانتهاكات بعد تاريخ 7 أكتوبر، خاصةً تلك الإهانة الوقحة التي يصرّ الكيان على توجيهها للوصيّ الأردنيّ وتزيد موقفه حرجاً داخليّاً وخارجيّاً: الاقتحامات المتكرّرة للمسجد الأقصى، وآخرها اقتحام مجرم الحرب الصهيونيّ المتطرّف "ايتمار بن غفير" الحرم القدسي بمجرد إعلان "الكنيست" قراره بخصوص "الدولة الفلسطينيّة".
كما أنّ تصويت "الكنيست" ضد قيام الدولة الفلسطينيّة هو دفع ضمنيّ باتجاه سيناريو الأردن كوطن بديل!
الشجب والإدانة وإدخال المساعدات الإنسانيّة، ردود الأفعال هذه كانت لتكون مفهومة ومحمودة لو كان ما يحدث يجري في دولة ما في أمريكا الجنوبية، أو في قلب أفريقيا، أو في أقاصي آسيا.. وليس عندما يكون ذلك على مرمى حجر منّي، وعندما أكون أنا في قلب العاصفة بحكم الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ ووحدة الدم والعقيدة والمصير!
كأردنيّ يحبّ وطنه الأردن ويغار عليه من نسمة الهواء، ترعبني فكرة أنّ بلدي في مثل هذا الظرف الحسّاس والتصعيد غير المسبوق لا يملك سوى الشجب والإدانة والجهد الإغاثي والتذرّع بالقانون الدولي والاستنجاد بالمجتمع الدولي!
وترعبني أكثر نظريةٌ للأمن الوطنيّ والقوميّ قوامها استعداء العربيّ والمسلم في الجوار، والبحث عن حليف وراء البحار، وأنّ "الصديق" الصهيونيّ و"الحليف" الأمريكيّ والأطلسيّ سيصدقوننا العهد عند "الحزّة واللزّة"، وسيذودون عنّا عند الضرورة، ولن ينقلبوا علينا ويُضحّوا بنا إذا اقتضت مصلحتهم ذلك (مع أنّ سجلّهم الأسود في هذا الصدد طويل)!
وترعبني أكثر وأكثر أنّ مثل هذه القرارات والخيارات المصيريّة يتّخذها أشخاص هم إذا ساءت الظروف وانزلقت الأحداث و"فرطت المسبحة".. يمتلكون رفاهية أن يحملوا حقائبهم وجوازات سفرهم، ويغادروا هم وأسرهم إلى أيّ من الملاذات الغربيّة المفتوحة لهم حيث تنتظرهم صداقاتهم وعلاقاتهم وأرصدتهم واستثماراتهم ومصالحهم التجاريّة المسجّلة في ملاذات ضريبيّة!
وبالعودة إلى القانون الدولي، ماذا لو خرجتْ علينا المرجعيّات الأمميّة المختصّة وقالت إنّ تصويت الكنيست "الديمقراطي" لا يشكّل انتهاكاً للقانون الدولي؟!
ماذا لو اعتبرتْ هذه المرجعيّات تصويت "الكنيست" مظهراً أو امتداداً سياسيّاً لحقّ "إسرائيل" المشروع والمكفول بـ "الوجود" و"الدفاع عن النفس"، تماماً كما أن القتل والدمار والإبادة والتهجير هي امتداد عسكريّ لهذا الحق؟
هل سيزول بذلك الخطر والضرر.. وهل سينتهي بذلك "وجع" الأردن بحسب بيان الخارجية الأردنيّة.. ويا دار ما دخلك شر؟!
مرّة أخرى، ما يسمّى "القانون الدوليّ" هو قانون "أمر واقع"، والأمر الواقع هو ما تصنعه بيديك لا ما تترك الآخرين يصنعونه لك بأيديهم.. ولعل هذا درس آخر من دروس "طوفان الأقصى" وعِبَرِه التي لا تنتهي!