"طَقَع"!
في مسلسات "السيتكوم" الكوميدية أو البرامج الحواريّة التي يتم تصويرها داخل الاستوديو، جرّى العُرف في أمريكا أن يقوم المنتجون بالتحكّم بانفعالات وردود أفعال الجمهور.
حتى أنّ هناك في بعض الحالات شاشات صغيرة تظهر عليها إرشادات تتضمن الانفعال المطلوب من الجمهور تلك اللحظة:
ضحك..
ضحك شديد..
قهقهة..
هتاف..
زعيق..
إعجاب: وااااااو..
استهجان: بوووو..
تأثّر: أوووو..
تصفيق..
وقوف!
هذه الانفعالات الموجّهة والمعلّبة أصبحت مع مرور الوقت جزءاً من عادات الجمهور وطقوسه، أو بالأحرى جزءاً من عادات الذين يريدون أن يلعبوا ويعيشوا دور الجمهور!
أكثر انفعال سمج ومصطنع من بين الانفعالات أعلاه هو التصفيق وقوفاً!
أصبح الجمهور يحضر إلى أي نشاط أو فعاليّة، وتشعر أنّه يريد أي حجّة أو ذريعة كي يقف مصفّقاً!
ليس مهماً ما هي فحوى هذا الذي يراه أو يسمعه، وليس مهماً ما إذا كان يستحق أو لا يستحق؛ الجمهور يريد أن يقف ويصفّق من أجل نفسه، من أجل تعويض مركبات نقصه، من أجل أن يشعر أنّه جمهور عصري ومتحضّر ولا يقلّ موهبة و"احترافيّة" عن "المؤدّي" الذي أمامه!
للأسف فإنّ هذه الطقوس بحكم "الهلودة" الحثيثة (من هوليوود) و"التفكسة" السرطانيّة (من نتفلكس) قد تسرّبت إلينا، وأصبحنا نرى رجالاً بالغين ونساء بالغات يلجؤون إلى مثل هذا النوع من الانفعالات المُصنّعة والمصطنعة بطعم وبلا طعم ولدى أوهى سبب، كتخرّج حفيد شخّاخ أو حفيدة شخّاخة من الروضة مثلاً!
خطاب رئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين نتنياهو" أمام الكونجرس لا يخرج عن هذا السياق، وحجم التصفيق والوقوف المبالغ فيه إزاء إنشاء ركيك و"كلاشيه" و"مزاوِد" يصدر عن مجرم حرب هو مؤشر على استشراء الخواء والتفاهة، وإلى أي مدى بات هذا الخواء ينخر عظام حتى ما يُفترض أنّها "النخبة السياسية" الأمريكية، وهذا بدوره مؤشّر على مقدار الخواء الذي ينخر أمريكا برمّتها كـ "دولة عظمى" و"قطب عالميّ"!
لو كنتُ حاضراً في الكونجرس لشاركتُ جموع النوّاب والأعيان الأمريكان انفعالاتهم وردود أفعالهم تجاه خطاب "نتنياهو"، لكن من باب "الأصالة" لم أكن لأقف وأصفّق، بل كنتُ سأركن إلى سلوك آخر نابع من ثقافتنا وخصوصية الاجتماع السياسي لدينا: التفصيع!
قد يجادل بعض أبناء نخبنا السياسية والثقافية أنّ سلوك "التفصيع" سيساهم في تثبيت التهمة التي وجّهها "نتنياهو" إلينا بأنّنا "همجيّون" و"بربريّون" و"ظلاميّون"، لكن لا مشكلة، أنا أفضّل أن أكون همجيّاً على أنّ أكون راقياً ومتحضّراً ونورانيّا و"ظاوياً" على طريقة المجرم "نتنياهو" ودولة الإرهاب "أمريكا" وهذه النخب الوظيفية المتغرّبة المنسحقة!
خطاب "نتنياهو" أمام الكونجرس ذكّرني بمقطع شعريّ أو قصة قصيرة جداً (لا أدري) كنتُ قد كتبتُها في غابر الأيام:
((الأداءُ الركيكُ لم يمنع الجمهور الأعمى من التصفيق بحرارة))!
لكن بعد قليل من التفكير وجدتُ أن خطاب "نتنياهو" ينطبق أكثر على قصة أطول ضمن مجموعتي القصصية "المتجهّم".
عنوان القصة هو "طَقَع"، وهي تتحدّث عن زعيم عربي قد "طَقَع" بمجرد أن اعتلى المنصّة ليلقي خطاباً تاريخيّاً ومصيريّاً، وبصراحة فإنّ "نتنياهو" بخطابه قد تفوّق على الزعماء العرب بهذا الخصوص، كما أنّ أعضاء الكونجرس الأمريكي قد تفوّقوا على الجماهير العربية من حيث التفصيع والتطقيع.. عفواً.. من حيث الوقوف والتصفيق!