طوفان الأقصى.. والأنظمة العربية.. وتطبيع الشذوذ!




المواقف المتخاذلة للأنظمة العربية إزاء حرب الإبادة والتهجير المُمنهجة التي يشنّها العدو الصهيو - أمريكي على الأهل في غزّة وفلسطين هي حصيلة سنوات وسنوات من تطبيع الشذوذ!

وعندما تُقال كلمة "شذوذ" فإنّ أول ما ينصرف إليه ذهن المتلقّي هو الشذوذ الجنسيّ، وهذا صحيح نوعاّ ما، لكن الشذوذ الجنسيّ هو مجرد مظهر واحد من مظاهر الشذوذ، وليس كلّ الشذوذ، وهو أيضاً نتيجةً وليس سبباً.

فهناك شذوذ سياسيّ، وهناك شذوذ اقتصاديّ، وهناك شذوذ اجتماعيّ، وهناك شذوذ ثقافيّ.. وغيرها الكثير من مظاهر الشذوذ ونماذجه وممارساته، وكلّ مظهر من هذه المظاهر الشاذّة يرفد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مظاهر الشذوذ الأخرى، ويبرّرها، ويُمنطقها (من منطق)، ويكرّسها، ويشدّ من عضدها!

والالتباس الذي يحصل عادةً، ويمنح الخبثاء من مروجي الشذوذ مساحةً للتحايل على العقول والتلاعب بها، هو الخلط الحاصل لدى غالبية الناس إزاء مفهوم "الشذوذ"، ومفهوم "التطبيع"، والمفهوم المركّب الناجم عن الجمع بينهما: "تطبيع الشذوذ"!

موضع التحايل والتلاعب والتدليس والتمويه هو في عدم التمييز (المتعمّد غالباً) بين كلمة "طبيعيّ" بمعنى (natural)، وكلمة "طبيعيّ" بمعنى (normal).

فكلمة طبيعيّ بمعنى (natural) تشير إلى أنّ هذا السلوك أو هذه الظاهرة لا يخرجان عن قوانين الطبيعة وسننها وممكناتها.

وكلمة طبيعيّ بمعنى (normal) تشير إلى أنّ هذا السلوك أو هذه الظاهرة لا يخرجان عن الحالة القياسيّة، أو المعياريّة، أو "العاديّة"، أو "النموذج المتوسّط" بلغة العلوم الاجتماعيّة، أو "منحنى التكرار الطبيعي" بلغة العلوم الطبيعيّة.. التي ينبغي أن يكونا عليها من بين طيف الممكنات التي تتيحها وتجيزها قوانين وسنن الطبيعة.

والسؤال هنا هل كلّ ما هو طبيعي بمعنى (natural) هو طبيعي أو عادي بمعنى (normal)؟

الإجابة قطعا لا، وهنا موضع التحايل والخديعة، والمثال الأشهر والأوضح هو "المرض"!

فالمرض هو ظاهرة "طبيعية" (natural) مئة بالمئة تحدث وفق سنن وقوانين الطبيعة ولا تخرج عن ممكناتها ولا تمثّل خرقاً لها.. ومع هذا فإنّ المرض في نفس الوقت هو وضع "شاذ" في مقابل "الصحّة" التي هي الوضع الطبيعيّ أو المعياريّ أو العاديّ (normal)، ولهذا نحن نلتمس العلاج من المرض، ونبحث في أسبابه، بل ونحاول مكافحته والقضاء عليه والوقاية منه قبل أن يقع.. ولو سلّمنا بالمنطق الشاذ لأنصار الشذوذ لكان ينبغي علينا التسليم بظاهرة المرض والاستسلام لها بذريعة أنّها "طبيعيّة"!

وعليه، فإنّ "التطبيع" يعني أن تتقبل السلوك الشاذ أو المظهر الشاذ باعتباره (normal)، وهذا لا يستدعي بالضرورة تغيير قناعتك العقليّة تجاهه، فقد تبقى مقتنعاً على مستوى الوعي أو مستوى الأفكار أنّ هذا السلوك أو المظهر شاذ، لكن على مستوى المشاعر والانفعالات لا يعود هذا السلوك أو المظهر يستفزّك أو يستثير لديك الضيق والحنق!

الأمر أشبه بذلك المشهد الشهير في الأفلام الهوليووديّة حين يكون هناك قنبلة موقوتة على وشك الانفجار، بينما يحاول البطل جاهداً إيقافها وإنقاذ الآخرين.

الأمر لا يستدعي من البطل المُنقِذ والمُلهَم تفكيك وتقويض القنبلة كلّها؛ المطلوب منه فقط هو تعطيل صاعق القنبلة، وعندها تصبح القنبلة كلّها عبارة عن كتلة هامدة لا خطر منها مع أنّها ما زالت تحتفظ نظريّاً بقوامها وشحنتها المتفجّرة.

التطبيع يهدف إلى نفس الشيء، تعطيل صاعق الأفراد والمجتمعات الذي يُسمّى الضمير أو الوجدان أو الوازع الأخلاقي والديني أو الحرام أو العيب أو الأصول.. الخ، بحيث لا تعود تستفزهم مظاهر السلوك الشاذّة، ولا تستثير لديهم ردود أفعال عمليّة حقيقيّة، حتى وإن استمروا على مستوى الأفكار ومستوى الخطابة والإنشاء يدينون هذا الشذوذ ويستنكرونه!

بكلمات أخرى، "تطبيع الشذوذ" هو ممارسة أخطر وأخبث وأكثر كموناً وأشد وقْعاً وأثراً من الدعوة الصريحة للشذوذ نفسه!

في ضوء الكلام أعلاه نستطيع أن نفهم السبب وراء موقف الأنظمة العربية الشاذ من "طوفان الأقصى" و"المقاومة" وحرب الإبادة والتهجير التي يتعرّض إليها أهالي غزّة والضفة وعموم فلسطين، وكذلك فهم موقف الشعوب العربيّة الشاذ من شذوذ أنظمتها!

فبحكم ظروف وحيثيات نشأة ما تُسمّى الدول العربيّة والأنظمة العربيّة والشعوب العربيّة "الحديثة"، وبحكم عقود وعقود من السياسات المفروضة والموجّهة من الخارج، وفي مرحلة لاحقة من الداخل.. فقد أصبح العرب [والمسلمون] ببساطة دولاً وأنظمةً وشعوباً مُطبِّعةً ومُطبَّعةً "منزوعة الصاعق"!

كما أنّ تطبيع الشذوذ هو مظهر لسيادة وهيمنة قيم المصنع/ السوق وتحوّلها إلى "مرجعيّة نهائيّة" تطغى على أيّ مرجعيّة أخرى، والمقياس النهائيّ لكلّ شيء في هذه المرحلة من عمر الرأسمالية وعمر المجتمعات الإنسانيّة.

وما يسري على العرب والمسلمين هنا يسري على جميع دول وشعوب العالم على اختلاف أعراقها ولغاتها وأديانها وثقافاتها التي أُلحقت ببيت الطاعة الرأسماليّ طوعاً أو كرهاً.. وهذا هو جوهر المشروع الرأسماليّ الإمبرياليّ الصهيونيّ الغربيّ، وهذا ما يصفه الدكتور عبد الوهاب المسيري بـ "العلمنة البنيويّة الشاملة".

وعليه، فإنّ أيّ مؤسسة تتبنّى (غالباً باسم الاحترافيّة والممارسات الفُضلى والحوكمة والترشيد) قيم المصنع/ السوق، ومرجعيّتها هي معايير المصنع/ السوق وقوانينها وآلياتها.. هي مؤسسة "مُطبِّعة" بالضرورة، وتمارس من حيث تدري ولا تدري ترويج وتطبيع الشذوذ في المجتمع تبعاً لمجال عملها واختصاصها.

فإذا كانت مؤسسةً سياسيّةً فإنّها تروّج وتطبّع فهماً وسلوكاً شاذّاً للسياسة..

وإذا كانت مؤسسةً حقوقيّةً فإنّها تروّج وتطبّع فهماً وسلوكاً شاذّاً للعدالة والوصول إليها وسيادة القانون..

وإذا كانت ما يُسمّى مؤسسة مجتمع مدنيّ فإنّها تروّج وتطبّع فهماً وسلوكاً شاذاً لما هو مجتمع وما هي حقوق مدنيّة..

وإذا كانت مؤسسةً أكاديميّةً فإنّها تروّج وتطبّع فهماً شاذاً للعلم وسلوكاً شاذاً للبحث العلميّ..

وإذا كانت مؤسسةً دينيّةً فإنّها تروّج وتطبّع فهماً وسلوكاً شاذاً للدين والتديّن..

وهكذا دواليك!

الأخطر مما تقدّم أنّ تطبيع الشذوذ والقبول به أو الاستسلام له أو الانجراف وراءه في مجال أو مظهر معيّن.. يساهم ويساعد في تمرير وتطبيع وترويج وتكريس هذا الشذوذ في بقية المجالات والمظاهر!

فصاحب السلطة الذي يرضى بالشذوذ السياسيّ باسم "السلام" أو "التعايش" أو "الاعتدال" على سبيل المثال يساهم في تطبيع وترويج وترسيخ بقيّة أشكال الشذوذ!

وربّ العمل أو التاجر أو رجل المال والأعمال أو "المستثمر" الذي يرضى بشذوذ علاقات الإنتاج باسم قوانين العرض والطلب، والحدّ الأدنى للأجور، والتشغيل عوض التوظيف.. يساهم في تطبيع وترويج وتكريس بقيّة أشكال الشذوذ!

ورجل الدين الذي يرضى بشذوذ المعاملات باسم "الفائدة"، أو "المرابحة الشرعيّة"، أو "فقه الضرورة".. يساهم في تطبيع وترويج وتكريس بقيّة أشكال الشذوذ!

والفتاة، محجّبة وغير محجّبة، التي ترضى بشذوذ اللباس والمظهر والطقوس باسم الموضة.. تساهم في تطبيع وترويج وترسيخ بقيّة أشكال الشذوذ!

والشاب الذي يرضى بشذوذ "تصفيط" الكلام جزافاً، والزعيق والنعيق، والأصوات النشاز والإيقاعات الصاخبة باسم الفن.. يساهم في تطبيع وترويج وترسيخ بقيّة أشكال الشذوذ!

وقصص الأطفال التي تحتفي ليل نهار بـ "التنوّع" و"الاختلاف" و"قبول الآخر".. هي تساهم في تطبيع وترويج وترسيخ بقيّة أشكال الشذوذ!

وحتى "ايموجيز" لوحة المفاتيح التي يستخدمها الأشخاص في الكتابة والتعليق عبر تطبيقات الهواتف الذكيّة، وتقترح خيارات شاذّة لما يمكن أن يكون عليه شكل الأسرة، حيناً مكوّنةً من طفلة وأم وأم، وحيناً مكونةً من طفل وأب وأب.. هي تساهم في تطبيع وترويج وترسيخ بقيّة أشكال الشذوذ!

ولمّا اصبحت الدولة هذه الأيام، بحجّة التطوير والتحديث، أو بحجّة الإصلاح، أو بحجّة التحوّل السياسيّ والاقتصاديّ.. تُعامَل معاملة "الشركة"، أي أنّ معايير المصنع/ السوق قد باتت هي المرجعيّة النهائيّة للدولة وسياساتها ومواقفها وقراراتها وإجراءاتها وكفاءتها وفعاليّتها وإعادة هيكلتها.. الخ، فإنّ الدولة بما هي دولة قد أصبحت أكبر مصدر لترويج وتطبيع الشذوذ بمختلف أشكاله ومجالاته!

وتزداد الخطورة أكثر وأكثر عندما تكون المؤسسات التي تتبنّى مرجعيّة المصنع/ السوق هي مؤسسات معنيّة بـ "الصناعات الثقافيّة" مثل الصحف والمجلات والفضائيّات إخباريّة وغير إخباريّة و"نتفليكس" وسائر شركات الإنتاج و"الميديا" و"الملتي ميديا" و"السوشال ميديا".. فعندها سيكون من صلب عمل هذه المؤسسات ترويج الشذوذ ومظاهر الشذوذ وثقافة الشذوذ وتطبيعها وتكريسها، لا لأنّ هناك "نظرية مؤامرة" من نوع ما بالضرورة، بل لأنّ مرجعية المصنع/ السوق تُملي على هذه المؤسسات ذلك، وهي لن تستطيع البقاء والاستمرار والمنافسة ما لم تفعل ذلك!

أيّ أن المعادلة قد أصبحتْ: إمّا أن تكون شاذاً وإمّا لا مكان لك للوجود ولا "حقّ" لك بالبقاء!

نفس الكلام ينطبق على الأفراد، سواء أكانوا "أشخاصاً طبيعيّين"، أو كانوا "أشخاصاً اعتباريّين" كالموظفين والعاملين التكنوقراطيّين (وحتى المتطوعين والناشطين) الأداتيّين المجتهدين المتميّزين الرياديّين المبدعين.. الذين يمارسون اجتهادهم واحترافيّتهم وتميّزهم وريادتهم وإبداعهم داخل مؤسساتهم وفق مرجعية المصنع/ السوق، والذين يصبحون أدوات لترويج وتطبيع الشذوذ حتى لو توسٌم واحدهم في نفسه أنّه شخص صاحب فِكْر أو مبدأ أو فن أو وازع دينيّ وأخلاقيّ واجتماعيّ!

هل الكلام أعلاه يعني أنّ المصنع/ السوق هي شيء شاذ بالضرورة؟!

لا، الحديث هنا عن المصنع/ السوق بمفهومها الرأسماليّ، وشذوذها نابع من التناقضات الجوهريّة/ البنيويّة/ الوجوديّة التي تقوم عليها الرأسماليّة بما هي رأسماليّة، وهي التناقضات التي للغرابة قد أُشبعت تمحيصاً وتشريحاً.. ومع هذا "ما حدا قاري ورق" حتى أنصار العقائد والإيديولوجيّات التي قامت بتشريح وتفكيك وتفنيد الرأسماليّة، والذين باتوا للغرابة ضرباً شاذاً من "الليبراليين الجُدُد"!

وكخلاصة، يمكن إجمال أبرز الممارسات والأساليب العمليّة الستخدمة في "تطبيع الشذوذ" هذه الأيام بما يلي:

1 - ألعاب اللغة: التلاعب بمسمّيات الأشياء واحتكار تعريفها (الجنس يصبح نوعاً اجتماعيّاً، والشذوذ الجنسيّ يصبح تفضيلاً جنسيّاً، والربا يصبح فائدةً أو مرابحةً، والاستسلام يصبح سلاماً، والمسخرة تصبح فكاهةً أو كوميديا، والفن الهابط يصبح تجريباً أو فنّاً مستقلاً، والسفور يصبح حريةً شخصيةً، والعري والغرائبية موضةً، والتديّن تشدّداً، والجهاد أو مقاومة العدو والمحتل إرهاباً.. الخ).

2 - الممارسات الخطابيّة: من خلال الكلام الإنشائي البرّاق المُزاوِد المُنغلق على نفسه غير المُعرّف إجرائيّاً ولا يحيل إلى شيء حقيقيّ وملموس في العالم الموضوعيّ (روح العصر، تحقيق الذات، التعايش السلمي، السلم الاجتماعي، الحق بالحياة، قبول الاختلاف، حوار الأديان، الدين الإبراهيمي، الحرية، الكرامة، التقدّم، التطوّر، الريادة، العقلانيّة.. الخ).

3 - تصنيع الحكّام والنخب وقادة الرأي والمشاهير والمؤثّرين.

4 - السيمياء: وبشكل أساسي عبر الصورة، بكون تسلّل الصورة إلى وعي المتلّقي أسرع من قدرته على إعمال عملياته الإدراكية الواعية إزاءها.

جميع ما تقدّم يفسّر سرّ الموقف الشاذ حدّ التطرّف والجنون إزاء "طوفان الأقصى"؛ فبطولات أهالي غزّة والمقاومة بجميع ساحاتها وجبهاتها كـ "حقائق اجتماعيّة"، وكسلوك عمليّ حقيقيّ موضوعيّ ملموس على أرض الواقع، هي نقيض الشذوذ والتطبيع بمفهومها الواسع، وقد أتتْ هذه البطولات لتعيد الأمور إلى نصابها وصلابتها، وتعيد تعريف ما هو "طبيعيّ" وما هو "عاديّ" وما هو "سويّ" في مقابل كلّ ما هو شاذ ومنحرف ومَرَضي وسائل ولا إنسانيّ ومدمّر!