النمو الاقتصادي سنة 2024 وما بعدها: المصادر والدلالات والخروج من عنق الزجاجة
في ظلّ التوترات الإقليمية الأكثر تسللاً، وفي ضوء التراجع الراهن في الصادرات وايرادات السياحة وتزايد تكاليف الشحن ونشاط الأعمال عموماً، من المهم المتابعة الحثيثة لوتائر النمو الاقتصادي خلال عام 2024، ومن الأهم الإحاطة بالفرص المتاحة للتطوير القطاعي والتقني والمؤسسي بعيداُ عن اقتصاد "الدليفري" والبطالة المقنّعة والوصفات الدولية الجاهزة، وقريباً من الاقتصاد الرقمي والسيبراني والاقتصاد العقاري والإسكاني والصناعات السلعية والخدمية ذات التقنية العالية (كالسياحة العلاجية والأدوية والتعليم التصديري عالي الجودة).
ولأن المؤسسات أولاً، فإن الأهم برأيي على الصعيد المؤسسي هو قيام فريق "النمو الاقتصادي" الأضعف موقفاً وأداء في الحكومة والمسؤول عن التخطيط القومي والصناعة وتشجيع الاستثمار والتنافسية الدولية وتنشيط الصادرات السلعية والخدمية بعمل "خلية أزمة" للتشاور مع فريق "الاستقرار الاقتصادي" المسؤول عن السياستين المالية والنقدية ضمن "الفريق الاقتصادي الوطني"، فيصلوا معاً بالتوافق والتنسيق الدؤوبين الى صيغة حصيفة ومتوازنة تضمن تحقيق الهدفين معاً في إطار استراتيجية اقتصادية موحدة ومتماسكة.
هذا على الأغلب سيتطلب في الأجل المتوسط إصلاحات تشريعية ومؤسسية، بما فيها قانون التخطيط والتعاون الدولي، تقع مسؤولية تصميمها على وزارة تطوير القطاع العام وخارطة تحديث القطاع العام،. أما مسؤولية متابعة التنفيذ ومساءلته فهي يمكن أن تقع على وزارة قيادية عليا Super Ministry أو على مجلس أعلى للتنمية الاقتصادية أو لجنة توجيهية عليا تضم وحدات ومؤسسات اقتصادية مستقلة ووازنة. تأسيس هذا العقل الاقتصادي المركزي والمسؤول بالشراكة مع القطاع الخاص والأكاديمي أفضل بأضعاف من إدمان القاء اللوم على الصدمات الخارجية والأوبئة والأزمات الدولية.
وتنبع الأهمية الاستراتيجية لهذه الخطوات في ضوء العديد من الحقائق، أهمها:
أولها: ان الضعف الممتد للنمو (أكثر من عقد حسب الأرقام الرسمية) سيؤثر على مستويات المعيشة ومعدلات الهجرة والفقر وحجم المديونية العائلية ومديونية قطاع الأعمال، ويزيد من التوترات الاجتماعية والضغوط المالية بين الأفراد والشركات ويلقي بأعباء رقابية إضافية ومكلفة على النظام القضائي والتنفيذي وعلى الإنفاق الحكومي غير المدني جرّاء تنامي قضايا الطلاق والتشرّد والبطالة وإغلاق الشركات والعنف والجريمة (ضد الملكية وغيرها) وجرّاء التخلف عن السداد في القروض المصرفية وعقود الإيجارات وغيرهما، ويحول بالتالي دون الانطلاق الاقتصادي والمالي من جديد حسب رؤية التحديث الاقتصادي. وأذكر هنا بنتائج دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي (2021) عنوانها: "تجنب الوقوع أو معاودة الطيران: نقاط الانعطاف في هشاشة الدول" تستنتج أن تجنب الانكماش الاقتصادي عامل حرج وسريع الأثر لمنع الهشاشة العامة.
وثانيهما: حقيقة الترابط الوثيق، لكن طويل المدى، بين الغايتين أعلاه. فضعف النمو المقاد من التصدير والاستثمار عالي القيمة سيزيد من الحاجة الى الاستدانة وامتصاص السيولة المحلية، ويزيد بالتالي من نسبة الدين العام والخاص والشخصي الى الناتج المحلي الإجمالي من خلال تقلص القاعدة الضريبية وايرادات العملات الأجنبية المولدة محلياً. وهذا على الأغلب ما يحصل خلال السنوات الأربع الماضية للأسف.
وتأتي الخلاصة أعلاه نتيجة آخر التطورات المستجدة لأداء الاقتصاد الأردني. إذ تشير تقديرات دائرة الإحصاءات العامة، الصادرة مؤخراً هذا الشهر، الى بلوغ النمو الاقتصادي العام لمختلف القطاعات خلال الربع الأول من عام 2024 معدل أولي لا يتجاوز 2%، مقابل توقعات محلية ودولية أكبر لا تقل عن 2.5%، ومقابل نمو طموح جداً لا يقل عن 5% حسب رؤية التحديث الاقتصادي، ومعدل بطالة عال يفوق 20%.
وهذا النمو لا ينسجم فحسب مع مختلف التوقعات المسبقة، بل يفوق أيضاً معدل النمو السكاني مما يعكس تراجع متوسط دخل الفرد (المؤشر الرقمي الأهم في تقييم الأداء الاقتصادي العام)، وهو أيضاً الأدنى منذ "الخروج" من تداعيات وباء كورونا على النمو الوطني.
ولا أعلم بالضبط ما هي مصادر النمو المقدر في الربع الأول عام 2024؟ اذ ان تراجع ايرادات التصدير السلعي والسياحي يؤشر الى ان النمو المقدّر جاء من مصادر محلية داخلية وليس من القطاع الانتاجي الموجه نحو الخارج. لكن ما هي هذه المصادر المحلية في ضوء تراجع القوة الشرائية في القطاعين الخاص والعائلي؟ هل هي وفرة السيولة المحلية أم زيادة الدعم والإنفاق الحكومي عالي الكفاءة؟