في مواجهة عمليات الاغتيال ومحاولات كيّ الوعي



رغم كل الألم والحزن الذي تفرضه عمليات الاغتيال، وما تحاول أن تكسره من معنوياتٍ وثقة وصمود واستعدادٍ للمواصلة، إلا أن مواجهة المشروع الصهيوني الذي يتخذها سياسةً مركزية لضرب المقاومة تفرض ضرورة تخطي ما يثيره الاغتيال في النفوس إلى فهمه وعقلنته وتطوير الرد الضروري لمواجهته.

ليس من التعسف القول بأن الاستعمار الصهيوني هو أحد أكثر الكيانات السياسية ارتكاباً لجرائم الاغتيال في التاريخ، وأنه يكاد يكون حالة استعمارية فريدة في اتخاذ الاغتيال سياسة مركزية في ضرب مقاومة الشعب المستعمَر ومحاولة إنهائها، فضلاً عن توظيفه للاغتيال ضد مبعوثين دوليين وشخصياتٍ غربية في المرحلة العصاباتية الجنينية، حين كان مشروعاً يحاول أن يفرض نفسه على أرض فلسطين.

يبلغ عدد عمليات الاغتيال التي نفذها الاحتلال ضد الشخصيات الفلسطينية المقاومة ما بين حرب 1967 وانتفاضة الأقصى 2000 أكثر من 35 عملية اغتيال قضى فيها أكثر من 40 شهيداً، من بين تلك العمليات كانت 20 منها موجهة ضد شخصيات سياسية و15 منها موجهة ضد شخصياتٍ عسكرية؛ وقد تضاعف اعتماد الاحتلال الصهيوني عليها خلال انتفاضة الأقصى حيث نفذ خلالها نحو 270 عملية اغتيال استهدفت في المجموع أكثر من 300 كادر فلسطيني، إلا أن موازينها تبدلت لتركز على الكوادر العسكرية فيما كان السياسيون المستهدفون 18 كادراً.

وقد استمرت سياسة الاغتيال بعد انتفاضة الأقصى كعمود مركزي في الحروب وسياسات القمع الصهيوني في محاولة لشلّ المقاومة وكسر معنويات التنظيم والجماهير، وكان الكيان الصهيوني يحاول في كل حرب الوصول إلى القادة العامين أو قادة الوحدات الصاروخية أو قادة الألوية والكتائب، عابراً للحدود أحياناً نحو بيروت ودمشق ودبي وماليزيا وتونس.

على مدى هذا الإرث الممتد، فإن جرائم اغتيال الكوادر العسكرية والتنظيمية -والتي كانت الأكثر عدداً- هدفت في المجمل إلى تحقيق ثلاثة أهداف: الأول قطع خيوط التنظيم وشل قدرته على العمل، والثاني إفناء المعرفة العسكرية بإنهاء سلسلة الكوادر الذين تعلموها أو تداولوها، والثالث الانتقام من كوادر شاركوا في عملياتٍ بعينها كون القضاء الصهيوني لا يتضمن عقوبة الإعدام.

أما الاغتيال السياسي فكان يسعى بالمقابل إلى أربعة أهداف: الأول ضرب الروح المعنوية وإيصال رسالة التمكن والقدرة واليد الطويلة باستهداف الرجل الأول أو الثاني في التنظيم، ومن هذا الباب جاء اغتيال الشهيد أبو علي مصطفى والشهيد فتحي الشقاقي، والثاني كيّ الوعي ومحاولة هندسة الصف القيادي بشكلٍ يؤهله لدخول مرحلة سياسية محددة وهو شكل فريد من الاغتيال السياسي الذي مارسه الاحتلال الصهيوني ضد أجيال بأسرها من القادة السياسيين واستهدف منظمة التحرير بمؤسساتها وحركة فتح بصفها السياسي الأول وصولاً من محاولة اغتيال أنيس الصايغ إلى عمليات اغتيال الشهداء كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر مروراً بالشهيد خليل الوزير وصولاً إلى اغتيال الشهيد ياسر عرفات، والثالث محاولة تعطيل قدرة حركات المقاومة على مد الجسور مع عمقها الوطني والدولي، ومن هذا الباب جاءت عمليات اغتيال ممثلي منظمة التحرير في عدد من الدول الأوروبية، وأخيراً فإن عمليات الاغتيال لم تكن تخلو من الطابع الثأري أو الانتقامي رداً على أعمال محددة كما في اغتيال الشهيد الطبيب ثابت ثابت.

حركة حماس كانت تاريخياً حركة المقاومة الفلسطينية الأكثر تعرضاً لجرائم الاغتيال الصهيوني بالمجمل فقد طالت كوادرها السياسية والعسكرية والاجتماعية وكوادرها المتصلة بعمليات التطوير والتسليح، فعلى مستوى إحصاءات انتفاضة الأقصى تعرّض 130 من كوادر حماس لمحاولات اغتيال بمقابل 103 من كوادر فتح وكتائب شهداء الأقصى؛ أما على مستوى القائد السياسي الأول فقد تعرض القائد الأول لحماس لمحاولة الاغتيال ثلاث مرات بينما كانت مرتين في حالة الجبهة الشعبية ومرة واحدة في حالة كل من حركة فتح والجهاد الإسلامي.

من الناحية السياسية استهدف العدو الصهيوني قيادة حركة حماس محاولاً تحقيق الأهداف الأربع أعلاه: فنفذ عمليات تهدف لتأكيد قدرته ويده الطويلة كما في محاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن واغتيال الشهيد صالح العاروري في لبنان والشهيد إسماعيل هنية رحمه الله في طهران في يوم كتابة هذه السطور؛ كما حاول تعطيل قدرة حماس على مد الجسور الوطنية والدولية كما في حالة اغتيال الشهيد إسماعيل أبو شنب؛ وتعرض جيل كامل من صفها القيادي الأول لمحاولة شاملة للتجريف وكيّ الوعي مشابهة لتلك التي تعرضت لها حركة فتح، طالت مؤسسها الشيخ الشهيد أحمد ياسين والعديد من القادة الشهداء والأحياء –والكل حي بإذن الله- هم عبد العزيز الرنتيسي وإبراهيم المقادمة وصلاح شحادة ونزار ريان ومحمود الزهار وسعيد صيام وجمال سليم وجمال منصور وصلاح دروزة.

والتحدي يكمن اليوم في عدم تمكين سياسة الكيّ والشلل من تحقيق أهدافها: أولاً بالثبات على ما مضى عليه الشهداء دون انحناء أو تغيير أو تبديل، وثانياً بملء الفراغ الذي نشأ عن رحيلهم بكوادر قادرة على تحقيق الأهداف ذاتها والمضي قدماً والبناء على ما مضى، ودون التعرض لأزماتٍ أو هزاتٍ تنظيمية.

حتى الآن وعلى مدى 36 عاماً من محاولات الشلل وكيّ الوعي التي حاول الاحتلال أن يفرضها على العقل السياسي لحركة حماس، ما تزال رهاناته على تبديل الخط السياسي وتأهيلها للتفاوض تحت شروطه لم تنجح، ومحاولاته لتعطيل قدرتها على مد الجسور مع عمقها فاشلة بالمجمل أيضاً، إلا أنه نجح في حالة الاغتيالات العسكرية والتنظيمية في استنزاف التنظيم وإنهاء سلسلة تداول المعرفة العسكرية وبالذات التصنيعية منها في الضفة الغربية، وقد كانت اغتيالاته السياسية في انتفاضة الأقصى تمضي في خط متوازٍ مع اغتيالاته العسكرية، بحيث لم يصل إلى جريمة استهداف مؤسسها الشيخ أحمد ياسين إلا بعد وصوله لقناعة بأنه قد تمكن من شلّ قدرتها على الرد العسكري.

هذا المسار يعني أن إفشال أهداف العدو الصهيوني من جرائم الاغتيال ليس أمراً تلقائياً ولا تحصيل حاصل، بل لا بدّ أن يكون نتاج عنادٍ استراتيجي وصمودٍ واعٍ عن سبق إدراك للأهداف وتصميم على إفشالها وعمل دؤوبٍ على ذلك، وأمام تصعيد حرب الإبادة الحالية إلى مستوياتٍ لم يشهدها الصراع من قبل؛ فإن الوفاء لدماء الشهداء يقتضي بالضرورة إفشال أهدافه من اغتيالهم، وهذا واجب الساعة الذي سبق لحركة حماس أن تمكنت من النجاح فيه ولا بد من الحفاظ على استمرار هذا النجاح رغم توسع الحرب وتصاعد التحدي.

* الكاتب باحث في شؤون القدس