الأردن و"زيارة طهران" و"الدولة العميقة"!



كتب كمال ميرزا - 

كلنا نعرف قصة "النعمان بن المنذر"، وقصره "الخورنق"، والمهندس "سنمار" الذي بنى له هذا القصر المهيب، والمثل العربي ذائع الصيت المستوحى من هذه القصة: "جزاء سنمار"!

النسخة الأولى من القصة تقول أنّ "النعمان" قد أمر برمي "سنمار" من أعلى أسوار "الخورنق" كي لا يقوم ببناء قصر أبهى منه لأي شخص آخر.

والنسخة الثانية من القصة تقول أنّ "سنمار" قد جعل في تصميم القصر قطعة لِبْن أو "آجُرة" إذا تم تحريكها من موضعها انهار القصر كلّه، ولقد قام "النعمان" بقتل "سنمار" كيلا يفشي سرّ هذه اللبنة للآخرين.

لو تأمّلنا خارطة "الشرق الأوسط" لوجدنا أنّ الأردن بموقعه وحدوده السياسيّة الحاليّة هو مثل "اللبنة" أو "الآجُرة" في قصة "الخورنق" و"النعمان" و"سنمار"، لو تمّ تحريكه أو خلخلة أركانه واستقراره لانهارت المنطقة برمّتها.

ولعل هذا من أهم أسباب احتفاظ الأردن بأمنه واستقراره على مدار عقود وسط محيط مضطرب حيناً وملتهب أحياناً كثيرة، ليس فقط بسبب مقوّمات وحدته وتماسكه الداخليّة، لكن أيضاً بسبب قناعة القوى الإقليميّة والعالميّة الخارجيّة، حتى المتنافسة والمتصارعة منها، بضرورة الحفاظ على كيان الأردن وأمنه واستقراره حتى لا ينهار سقف المنطقة على رؤوس الجميع.

لكن هذا الإجماع على أهمية الأردن كياناً وموقعاً، لطالما صاحبه تنافس شرس بين القوى المختلفة، وسعي كلّ قوة منها إلى "إدارة النار على قرصها" كما يقول التعبير الشعبيّ الدارج، ومحاولة استمالة الأردن وتجيير موقعه الإستراتيجيّ لصالحها وصالح مخططاتها وتصوّراتها المستقبلية.

لو ألقينا نظرة بانوراميّة إلى منظورات "الآخرين" أو "الخارج" نحو الأردن وأدواره المُمكنة بحكم موقعه وبُنيته وظروف نشأته.. لوجدنا أنّها تتوزّع على ما يلي:

أولاً: الأردن باعتباره "منطقة عازلة" (buffer zone) تفصل بين كيانات وكتل تاريخية كبرى مثل الجزيرة العربية والعراق والشام بعضها البعض، وتفصل بين هذه الكتل مجتمعةً وفلسطين حيث يجثم الكيان الصهيونيّ المحتل.

وهذا المنظور هو المنظور التأسيسيّ للمشروع الاستعماريّ الغربيّ الذي قام فور انتهائه من القضاء على "الدولة العثمانية" بتقسيم "المشرق العربي"، وأورث هذا المشرق حدوده ومنظومة دوله القُطريّة الحالية تباعاً عبر اتفاقية "سايكس بيكو" و"وعد بلفور" ومعاهدة "سان ريمو" [ويمكن أن تضاف إليها أيضاً معاهدة لوزان].

ثانياً: الأردن كقاعدة متقدّمة في المنطقة لأمريكا وحلف (الناتو) باعتبارهما وريثي المشروع الاستعماريّ الغربيّ المشار إليه أعلاه، ولتعويض الضعف الإستراتيجيّ الذي يعاني منه "الكيان الصهيونيّ" كقاعدة متقدّمة مُفترضة للقوى الاستعمارية الغربية، وهو الضعف الذي فضحه "طوفان الأقصى" وجلّاه كحقيقة ماثلة للجميع.

ثالثاً: الأردن كـ "عمق إستراتيجيّ" و"حائط صدّ" أول للكيان الصهيونيّ، وذلك لتعويض الضعف الإستراتيجيّ للكيان المشار إليه في النقطة السابقة.

رابعاً: الأردن كـ "غرفة عمليات" إقليميّة يمكن أن تكون مُنطلقاً لأداء أدوار أمنيّة في المنطقة، وبشكل خاص غرب العراق وجنوب سوريا والضفة الغربية.. وهنا نشتم مرّة أخرى كما في النقاط السابقة رائحة أمريكا و(الناتو).

خامساً: الأردن باعتباره جزءاً لا يتجزّأ من "إسرائيل الكبرى" و"الوعد التوراتيّ" المزعوم لما يُسمّى "الشعب اليهودي"، وهذا بشكل أساسيّ موقف اليمين الصهيونيّ المتطرّف وداعميه الغربيّين.

سادساً: الأردن باعتباره "وطناً بديلاً"، ووجهةً لـ "الترانسفير" من أجل تصدير مشاكل الكيان الصهيوني وأزمته الوجوديّة الداخليّة، وهذا ـ للمفارقة ـ هو موقف ما يُفترض أنّها قوى الاعتدال داخل الكيان الصهيونيّ، أي جميع القوى عدا اليمين المتطرّف!

سابعاً: الأردن باعتباره "منطقة حرّة عالميّة"، أو ما يمكن تسميته بـ "تدويل الأردن"؛ وذلك من خلال السماح ببيع مقدّارت الدولة ومواردها، وتملّك الأجانب، وتجنيس المستثمرين.. وهو التوجّه الذي تدعمه شركات عابرة للقارات وبنوك وصناديق سياديّة وبعض الدول الإقليميّة والتكتّلات العالميّة التي لا تستطيع في الوقت الراهن مزاحمة النفوذ الأمريكيّ والغربيّ في المنطقة بشكل مباشر.

ثامناً: الأردن كـ "دولة طوق" (من تطويق ومحاصرة)، وأرض "الحشد والرباط"، و"خط المواجهة" الأول والأطول مع الكيان الصهيوني، وهو الموقف العقائديّ والثقافيّ والاجتماعيّ المتجذّر في عقل ووجدان السواد الأعظم من الأردنيين على اختلاف مشاربهم، والذي يوحّدهم بسائر أشقّائهم العرب والمسلمين.

تاسعاً: الأردن كـ "دولة مدنيّة" منزوعة الهويّة العقائديّة والتاريخيّة، تحكمها "قيم تعاقديّة" وليس تراحميّة مستمدّة ممّا يسمّى "القانون الدوليّ" و"الشرعة الدوليّة" و"أهداف الألفيّة" وما ينبثق عنها من سياسات" و"ممارسات فُضلى"، وتُسوّق جميعها من خلال مسمّيات برّاقة مثل "المواطنة" و"الحوكمة" و"سيادة القانون" و"المشاركة" و"التطوير" و"التحديث" و"التمكين" و"الريادة" و"التحوّل". وهذا المنظور هو منظور ما يُسمّى "المجتمع المدنيّ" المموّل غربيّاً، والذي يحاول بشكل كامن من خلال استخدام أساليب "القوة الناعمة" تفكيك وتمييع وتبديد الموقف العقائديّ والثقافيّ والاجتماعيّ الجذريّ للمجتمع الأردني بانتمائه العروبي وعمقه الإسلامي المذكور في النقطة "ثامناً" السابقة.

المؤسف في جميع المنظورات أعلاه (باستثناء الموقف الثامن باعتباره الموقف الجذريّ والأساسيّ للأردنيين)، أنّ كلّ منظور منها له مريدوه ومؤيّدوه ومروّجوه داخل مكوّنات الدولة وأروقة صناعة القرار في الأردن، ليس من باب الاقتناع بالضرورة، بل في أغلب الأحيان بسبب تقاطع ذلك مع مصالح واعتبارات شخصيّة ضيّقة.

والمؤسف أيضاً أنّ جميع هذه المنظورات تنظر باستخفاف إلى الأردنيين، وتتعامل معهم وكأنّهم "جموع بشرية" و"شرذمات اجتماعيّة" يسهل التحايل عليها والتلاعب بها وتطويعها وتكييفها من قبل القوى الكبرى واللاعبين الأساسيّين.

لكن هذه النقطة الأخيرة تحديداً هي مكمن ضعف جميع المنظورات أعلاه ومخططات الدول والقوى التي تقف وراءها على طريقة "الحجر إلّلي ما بعجبك بفجّك"!

فعنجهية "الآخر" وغطرسته، خاصة الآخر الغربي وامتداداته وأذرعه و"النخب" المرتبطة به، تجعله يتوهّم أنّ "الطيبة" و"الكرم" و"الخجل" كسمات مميّزة لـ "الشخصية الأردنية" يمكن توظيفهما من أجل استغلال الأردني والتلاعب به والتحايل عليه، دون أن يدركوا أنّ "المركّب الجدليّ" الناجم عن اجتماع الطيبة والكرم والخجل هو "الكرامة"، وأنّ هذه الكرامة يمكن أن تحيل الطيبة والكرم والخجل في لحظة إلى "غضب سخيّ" متى ما استقرّ يقين الاردنيّ أنّ كرم أخلاقه وكرامته يقابلان بالاستخفاف والاستغفال وعدم التقدير، أو أنّ الآخر يتعامل معه باعتباره "تحصيل حاصل" و"من العُب للجيبة"!

الشواهد على ذلك كثيرة؛ فمن معركة "الكرامة"، إلى الجندي "أحمد الدقامسة"، إلى الجندي "معارك أبو تايه".. وتطول القائمة!

وهذا يقودنا إلى بيت القصيد وراء جميع الكلام أعلاه، فلطالما تميّزت سياسة الدولة الأردنية وسط هذه التباينات والتناقضات وصراعات المصالح والإرادات بـ "الحصافة"، سواء "الحصافة" في التعامل مع الضغوطات وموازين القوى الخارجية واحتوائها واستيعابها وتحييدها، أو "الحصافة" في فهم طبيعة "الأردنيين"، واحترامها، وإدراك أنّ الجبهة الداخليّة القويّة والموحّدة هي صمام الأمان الأول والأخير للدولة والنظام مهما كانت طبيعة وقوّة الضغوطات والتهديدات الخارجيّة.

لكن للأسف، فقد عانى الأردن خلال العقدين الماضيين من فقدان دوائر صنع القرار لكثير من "حصافتها" المأثورة في إدارة الشأنين الخارجيّ والداخليّ، وهو ما يمكن عزوه بشكل أساسيّ إلى سياسة "وضع الشخص غير المناسب في المكان المناسب"، الأمر الذي أعطى أصحاب المصالح والارتباطات الخاصّة والمغامرين والمقامرين هامشاً واسعاً لكي يصولوا ويجولوا ولو على حساب قوة واستقرار وتماسك الدولة والمجتمع بجميع مكوّناتهما.

في ضوء ما تقدّم يمكننا قراءة زيارة وزير الخارجية الأردني إلى العاصمة الإيرانية "طهران" مؤخّراً، والتي نتمنى ألّا تكون مجرد "مناورة سياسية" آنيّة أملتها طبيعة الظرف القائم، بل مؤشر على أنّه ما يزال هناك في الأردن شيء اسمه "الدولة العميقة"، وأنّ هذه الدولة العميقة قد استشعرت الخطر الوجوديّ الذي يشكّله المنعطف التاريخيّ الحالي على مستقبل الدولة الأردنية شعباً وأجهزةً ونظاماً، وأنّ هذه الزيارة هي باكورة لـ "صحوة" يستعيد بها ومن خلالها الأردن الكثير من "حصافته" السابقة، ويعيد بناء حساباته ورهاناته على أساس موقف الأردنيّين الجذريّ من "القضية" و"الصراع" و"العدو" باعتبار أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة لمواجهة وموازنة وعكس اتجاه الضغوطات الخارجية.

بكلمات أخرى، الخريطة السياسية للدول العربية بحدودها واحتمالاتها وممكناتها هي "تَرِكة" أورثها المشروع الاستعماريّ الرأسماليّ الصهيونيّ الغربيّ للمنطقة، وعمل على تكريسها عبر عشرات الطرق والوسائل والأساليب المُمنهجة على مدار عشرات السنوات.

لكن يعود للدول والأنظمة والشعوب العربية [والإسلامية] حريّة النظر إلى هذه التركة باعتبارها "قدراً" لا مفرّ منه..

أو النظر إليها باعتبارها "أمراً واقعاً" لا مناص من التعامل معه.. لكن دون الخروج على المبادئ العامّة/ الغايات العامّة التي تلتزم بها/ تصبو إليها جميع الشعوب العربيّة والإسلاميّة:

ـ وحدة الدم.
ـ وحدة اللغة.
ـ وحدة الدين (الإسلام كإطار حضاري إنساني واسع يمكن أن ينضوي تحت حاكميّته ومرجعيّته الجميع).
ـ وحدة التاريخ والمصير.

وحتى لو أردنا التفكير بطريقة نفعيّة برجماتيّة بحتة: وحدة المصالح بالمعنى الماديّ المباشر لكلمة مصلحة!