الحرب الكبرى القادمة



من حقّ المواطن العربي البسيط أن يسأل: لِمَ تتحرّك القوى العظمى، وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة، وعلى جناح السرعة، فتحشد قوّاتها وطائراتها وبوارجها بعد وعد أو تهديد فقط، يمكن أن يطاولا الكيان الصهيوني من إيران، في وقت يتعرّض فيه بلد عربي اسمه فلسطين لأشرس هجوم دموي شهدته بقعة في الكرة الأرضية، من الكيان نفسه الذي هبّت القوى العظمى لحمايته من تهديد بالهجوم، وحتّى قبل أن يقع هذا الهجوم؟

حين نشر هذا المقال ربما يكون الهجوم قد وقع، وربّما لا. هذا ليس موضوعنا، رغم أنّ هذا الهجوم المشروع هو ردٌّ متفهَّمٌ على انتهاك الكيان "شرف" الجمهورية الإسلامية في إيران، بعد اغتيالها الجبان للشهيد إسماعيل هنيّة. السؤال المركزي أعلاه واحد من شلّال أسئلة تُحاصر المواطن العربي، وتُشعره بمدى يتمه ووحدته، وهو الذي كان يسمع، وفي مدى عشرات السنين، أنّ فلسطين هي قضية العرب الأولى، فإن كانت قضية العرب الأولى تُواجَه بمثل هذا الإهمال، وباللامبالاة والخذلان، فما بالك بقضايا العرب الثانية والثالثة والعاشرة... والألف؟ بل ماذا بقي للنظام العربي الرسمي أن "يفخر" به بعد أن اصطفّ عملياً إلى جانب العدوّ، سواء بالفعل المباشر أو باتخاذه حالة الحياد السلبي أو الصمت، أو عدم التفاعل عملياً، أو النكوص عن نصرة الشعب المذبوح علانيةً. هل يمكن، بعد أن حدث ما حدث، أن يقف زعيمٌ عربي ويتحدّث عن العروبة ووشائج الدم والقربى والأخوّة، التي تربط سكّان الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، ويصدّقه مواطن عربي واحد؟

أصبح مُجرَّد إعلان التضامن مع فلسطين وأهلها جريمةً يُعاقِب عليها قانون النظام العربي الرسمي

كنا في وقت مضى نتحدّث عن "تآكل" شرعية النظام العربي الرسمي، ولكن الحالة تجاوزت اليوم مرحلة التآكل إلى ما هو أبعد بكثير، فلم يبقَ أيُّ مبرِّرٍ لوجود هذا النظام، ليس لأنّه خذلَ فلسطين فقط، بل لأنّه خذل كلّ مواطن عربي من المحيط إلى الخليج، سواء عبّر هذا المواطن عن خذلانه أو جَبُنَ عن التعبير، بعد أن أصبح مُجرَّد إعلان التضامن مع فلسطين وأهلها جريمةً يُعاقِب عليها قانون النظام العربي الرسمي، ومدعاةً للاعتقال، وربّما ما هو أكثر من ذلك، من حرمان من العمل، ومطاردة لقمة العيش، والوضع في القائمة السوداء هو وأقاربه كلّهم، البعيد والقريب، وحتّى الجد الـ19.

ذريعة النظام العربي الرسمي، المُختبِئة داخل تسويغ موقفه، تدور حول خطر عدوى الشعور بالحرّية والانعتاق، الذي يمكن أن يشيع في الوجدان الشعبي العربي، ويمكن أن يتطوّر من مرحلة التعاطف مع فلسطين وثورتها إلى مرحلة المطالبة بالحقوق المشروعة، ليس لفلسطين بالطبع فقط، بل أيضاً بالحقوق المشروعة لهذا المواطن، وتلك آفة خطيرة يعمل النظام العربي الرسمي على وأدها قبل أن تولد، ويجتهد في توفير اللقاحات اللازمة كلّها لقتلها في مهدها، لأنّها في حسبانه وباءٌ خطيرٌ يمكن أن يتسبَّب في زلزلة الكراسي التي يجلس عليها رؤوس هذا النظام، إنّ الحالة الفلسطينية تصبح حينها حالةً وبائيّةً يتعيّن التبرؤ منها، بل مطالبة أهلها بالاعتذار عنها، إذ كيف تُسوِّل لهم أنفسهم الأمَّارة بالسوء أن ينتصروا على حليف وشريك هذا النظام؟ بل كيف يتجرّأون على "المسّ بأمنه" وأمن هذا النظام سواء بسواء؟

اليوم، ونحن على أبواب حرب كبرى، هي آتية لا شكّ، اليوم أو غداً، أو بعد حين، لا بدّ من وضع النقاط على الحروف، إذ لطالما تحدّثت نُخَبُنا بغمغمة وبمنطق تبريري متهالك، وبحجج كثيرة، بعضها يُغمغم بكلام ظاهره حقّ وباطنه باطل، وبعضها يلتمس أعذاراً باليةً تُمنْطِقُ الخذلانَ وتفلسف الخيانةَ، وبعضها الآخر يتبرَّأ من فلسطين وقضيتها وأهلها، بوصفها قضية أهلها فقط، بل بزعم أنّها جرّت ويلاتٍ وحروباً واستحقاقاتٍ على العرب، وحان الوقت لركلها ووضعها وراء الظهر. وحجَج هؤلاء، وإن تعدّدت الآراء والقوالب اللفظية، تصبُّ كلّها في خانة ترك فلسطين لمستوطنيها الأغراب القادمين من وراء الحدود، والترحيب بهم بوصفهم أصحاب "حقّ" تاريخي. أمّا أهلها وملح أرضها فليس أمامهم غير طريق واحدة هي الاستسلام لمشيئة الاحتلال، والجثو تحت قدميه، هذا إذا سمح لهم بالبقاء أصلاً في أرضهم، وقَبِلَ بهم خدماً وعمّالاً في مستعمراته.

منازلة كبرى، سيجد النظام العربي نفسه في أتونها، ولن يجديه نفعاً النأيُ عنها

ومن هنا جاءت نقمة عدنان وقحطان على من تجرَّأ منهم وحمل السلاح ودافع عن أرضه وعرضه. ولهذا كلّه، لا بدّ من أن نسمي الأشياء بمسمَّياتها، فنحن أمام مفاصلة ومنازلة كبرى، سيجد النظام العربي نفسه في أتونها، ولن يجديه نفعاً النأيُ بنفسه عنها، ولا التبرُّؤ منها، فثمّة ملايين من أهل هذه البلاد من خليجها إلى بحرها تنبض قلوبهم بحُبّ فلسطين، ولن تقف على الحياد حين تبدأ نيران الحرب الكُبرى الموعودة تمتدُّ وتنتشر في الاتجاهات كلّها، ولن يجد رموز النظام العربي الرسمي إلا خيارَ الرحيل عن هذه الأرض بما جمعوه من مال وخطايا، أو التماهي مع ما تنبض به قلوب "رعاياهم" المتحفِّزة لتحويل مشاعرها الجياشة أفعالاً، والمشاركة في نصرة أنفسهم أولاً، ثمّ أشقائهم في فلسطين، ولن يتخلَّف عن هذا الزحف الموعود إلا من ربط حياته ومصيره بوجود هذا النظام أو ذاك، أمّا سواد القوم فهم في شوق للمشاركة، ليس في تحرير فلسطين، بل في تحرير أنفسهم أيضاً، من عبودية طالت قرناً من الزمان أو يزيد.
ربّما يرى بعضٌ في هذه الرؤية نوعاً من الشطط أو النبوءات الرغائبية، لكن ثمّة أعداد متزايدة من أصحاب العقول الراجحة في بلادنا العربية يشمّون رائحة طوفان قادم بكلّه وكليله، وما فعله طوفان غزّة أو "طوفان الأقصى" الذي بدأ من فلسطين، أنّه عجّل وقوع الزلزال الكبير، أو المنازلة الموعودة، وقرّب "السابع من أكتوبر" المجيد موعد الوعد الموعود.
فليختر كلّ منا موقعه، ومع من سيقف، وكيف سيكون دوره، وماذا عليه أن يفعل.