شراء وقت من أجل ضربة استباقية!


كتب كمال ميرزا - 

إذا كان هناك ثلاثة دروس تعلّمناهما، أو يفترض أنّنا قد تعلّمناها، منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" قبل أكثر من عشرة أشهر ولغاية الآن.. فهي:

أولاً: أنّ حرب الإبادة والتهجير التي يتعرّض لها الشعب الفلسطينيّ في غزّة والضفة هي حرب أمريكيّة يخوضها الكيان الصهيونيّ بالوكالة.

ثانياً: أنّ ما تُسمّى "الهدنة"، واللغط الذي يصاحب كلّ جولة من جولات مباحثاتها ومفاوضاتها، هي محض "هراء"، وطريقة دعائيّة رخيصة للإلهاء ولفت الأنظار عن جرائم الكيان الصهيونيّ والتهوين منها، وحرب نفسيّة قذرة هدفها دفع الناس لليأس والقنوط بعد تعشيمهم بوعود وآمال وتواريخ كاذبة، ومناورة سياسيّة ممجوجة ومفضوحة للمماطلة وشراء الوقت بدماء الفلسطينيّين حتى يتسنّى لعصابة الحرب الصهيونيّة إتمام "المهمّة" التي ينفذونها بإيعاز وضوء أخضر ودعم وسلاح أمريكيّ.

ثالثاً: أنّ كلّ جولة مكوكيّة لمسؤول أمريكيّ رفيع إلى المنطقة من أجل بحث "الأوضاع" و"التهدئة"، خاصة زيارات وزير الخارجيّة الأمريكيّ المتبجّح بيهوديّته "انتوني بلينكن"، قد أعقبها مباشرة زيادة كمّاً ونوعاً في وحشيّة ودمويّة الجرائم الصهيونيّة والتصعيد الصهيونيّ، يصاحب ذلك المزيد من صمت وتهاون وتخاذل الأنظمة العربيّة [والإسلاميّة] تجاه ما يحدث، وصفاقة هذه الأنظمة في قمع جبهتها الداخليّة، واجترائها أكثر وأكثر على التعبير مباشرةً أو عبر أبواقها المأجورة وسلوك أجهزتها الأمنيّة عن موقفها المعادي للمقاومة الذي يجمعها بالأمريكيّ والصهيونيّ ويضعها في صفّهما.

في ضوء ما تقدّم، يدهشك المحلّلون الذين تزخر بهم وسائل الإعلام العربيّة والفضاء التواصلي في كلّ مرّة يعود فيها الحديث عن "الهدنة" المزعومة إلى تصدّر واجهة الأخبار، ويشعرونك أنّهم يتحدثون عن أمريكا غير أمريكا، وكيان صهيونيّ غير الكيان الصهيونيّ، وصراع غير الصراع!

هل يتوقّع هؤلاء من الأمريكيّ والصهيونيّ أن يقولا على طريقة الأفلام الهوليووديّة:

"مرحى لأهالي غزّة فلقد أظهروا قدرةً هائلةً على التضحية والصمود.. مرحى للمقاومة فلقد أظهرت مقداراً هائلاً من التمرّس والبطولة والثبات وحسن التخطيط والإدارة والإعداد.. مرحى لحزب الله وإيران فلقد أثبتا أنّهما يمتلكان إمكانات وقدرات وموارد بشريّة وخبرات متراكمة عبر السنوات قادرة على تغيير موازيين الردع في المنطقة.. مرحى لهم جميعاً فلقد كانوا خلال الأشهر الماضية خصماً شريفاً بحق.. وها نحن نقرّ بكلّ روح رياضيّة أنّهم انتصروا في هذه الجولة من القتال.. وها نحن نرفع لهم قبعات الكاوبوي والكيبا خاصتنا احتراماً"!

حرب الإبادة والتهجير ما تزال حرب إبادة وتهجير، وأي وقف "حقيقيّ" لإطلاق النار هو هزيمة لأمريكا وتهديد لمصالحها ونفوذها وتواجدها في المنطقة.. قبل أن يكون هزيمة للكيان الصهيونيّ، وإيذاناً بتفكّكه وتفسّخه كما نعرفه وإسدال الستار على الدور الوظيفيّ المناط به.

لذا فإنّ أمريكا ومخطّطاتها للمنطقة المرتبطة ببقائها وأمنها الوجوديّ لا يمكن أن تهدأ لها ثائرة ويصفو لها بال طالما أنّ هناك إيران بهذه القوّة، وطالما أنّ هناك "حزب الله" بهذه القوّة، وطالما أنّ هناك يمن بهذه القوة [والعناد]، وطالما أنّ قواعدها مكشوفة وحلفائها في المنطقة مكشوفين بهذه الصورة، وطالما أنّ هناك مقاومة فلسطينيّة قادرة على إطلاق ولو رصاصة واحدة وتُحكِم سيطرتها ولو على شارع واحد في قطاع غزّة أو الضفة!

الظرف الاستثنائيّ الذي يصاحب الجولة الحاليّة من مفاوضات الهدنة هو حالة التوتر والترقّب إزاء الردّ الإيرانيّ واللبنانيّ واليمنيّ المُنتظر ضدّ جرائم الكيان الصهيوني وتصعيده، الأمر الذي يدفع بعض المحلّلين للقول أنّ الإدارة الأمريكيّة تحاول بذل قصارى جهدها هذه المرّة، والإلقاء بكامل ثقلها، من أجل تمرير اتفاقٍ للهدنة ولو "عنوة"، وذلك من أجل تهدئة الأجواء، وتلافي حرب إقليميّة، و"تبريد حيل" محور المقاومة وثنيه عن ردّه وإقناعه بالإستعاضة عن ذلك بحقن دماء الغزيّين.

لكن هؤلاء المحلّلين الجهابذة ينسون أو يتناسون أنّ أمريكا هي التي أرادت التصعيد، وأنّه لولا الضوء الأخضر الأمريكيّ لما أقدم "نتنياهو" وعصابة حربه على جريمة اغتيال القائد "إسماعيل هنيّة" في طهران، وجريمة اغتيال القائد "فؤاد شكر" في بيروت، والهجوم على منشآت ومرافق ميناء الحُديدة في اليمن.

بعيداً عن المسرحيات الإعلاميّة السمجة التي سئمناها منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، والحديث عن خلافات بين "نتنياهو" والإدارة الأمريكيّة، أو "نتنياهو" وأركان عصابة حربه، أو الحديث عن تباين استحقاقات الانتخابات الأمريكيّة بالنسبة للديمقراطيّين والجمهوريّين.. فأمريكا هي التي أطلقت العنان للكلب المسعور "نتنياهو" وعصابته من أجل إنجاز "المهمّة" القذرة المطلوبة منهم، وهم لم يكونوا ليستطيعوا اقتراف جرائم الحرب لولا أنّ أمريكا قد أرادت لهم اقتراف جرائم الحرب، وهم لم يكونوا ليستطيعوا التصعيد لولا أنّ أمريكا قد أرادت لهم التصعيد.

بكلمات أخرى، الجولة الحالية من المفاوضات لا تختلف عن سابقاتها من حيث كونها وسيلة مُغرِضة ومشبوهة ومُضلّلة لشراء الوقت، لكن شراء الوقت هذه المرّة يتم بطريقة مكشوفة ومفضوحة ومبنيّة على أكاذيب رغم تحذيرات "المقاومة" المتكرّرة من أنّ ما تروّجه أمريكا حول الاقتراب من تحقيق انفراجة يتعارض مع الواقع الحقيقيّ للمفاوضات وما هو معروض على الطاولة!

وهذا بدوره يدفع للتساؤل عن سرّ هذا الوقت الزهيد الذي تحاول أمريكا شراءه حاليّاً بحبلٍ قصيرٍ من الكذب؟ وهل سنصحو في غمرة انشغالنا بأخبار المفاوضات وتسويفاتها على نبأ عاجل مفاده قيام العدو الصهيو - أمريكي بتوجيه "ضربة استباقيّة" سبق له أن صعّد من أجلها، وهيّأ المزاج العام لها، واشترى الوقت لتحشيد القوّات والموارد الهجوميّة والدفاعيّة اللازمة للقيام بها؟!

محور المقاومة قد أظهر منذ انطلاق "طوفان الأقصى" أنّه يسبق دائماً الأساليب والمناورات والحيل و"التوريطات" الصهيو ـ أمريكيّة بخطوة أو خطوتين، فهل سيفوّت محور المقاومة هذه المرّة أيضاً على العدو فرصة أن يتغدا بهم قبل أن يتعشّوا به؟!