الأحزاب السياسية واختبار التاسع من أيلول (2 - 3)



ظلّ الوعي الشعبي العام بقضايا الديمقراطية السياسية والتعددية الحزبية ضعيفا بشكل عام، كما ظلّت الحركة السياسية المطالبة بالديمقراطية هي أضعف الحركات تأثيرا في المجتمع، ولم تستطع قيم الديمقراطية والتعددية أن تأخذ موقعا معتبرا في الوعي الاجتماعي، ولذلك فإن الممارسة الديمقراطية ظلت هشة، وتجارب التعددية الحزبية ظلت هامشية، وظل الاهتمام بها محاصرا في إطار بعض شرائح النخبة السياسية والثقافية.

وتؤكد التجارب الحزبية في الأردن - ومعظم البلاد العربية - أن الهدف من قيام التعددية الحزبية لم يكن لتحقيق إصلاح ديمقراطي ينقل المجتمع من أوضاع الاستبداد وضعف المشاركة الشعبية، إلى أوضاع ديمقراطية من خلال عملية متكاملة للإصلاح السياسي والديمقراطي، بل كانت هذه التعددية جزءا من عملية إدارة أزمة الحكومات، وخطوة من أجل تجاوز مصاعب معينة، من خلال عملية إدارة تناقضات المجتمع السياسي والتنمية أكثر منها عملية مقصودة لذاتها.

وهي من هنا لا تزيد عن كونها نوعا من الانفتاح السياسي الجزئي المقيد والمحكوم من أعلى، سعيا إلى حل أزمة تواجه النهج القائم، وبما يسمح بتوسيع الهامش الديمقراطي أكثر منه بناء نظام حكم ديمقراطي.

وفي هذا السياق يمكن النظر إلى التجربة الحزبية الوليدة في الأردن، وما تعانيه من عقبات قد تهدد استمرارها، وقدرتها على تجاوز الإنتخابات القادمة، وتحقيق نتائج معقولة في ضوء حداثة التجربة الحزبية وهشاشتها، وفقر تجربة الكثيرين ممن قاموا عليها. كما تواجه الأحزاب تحديات تنظيمية ومالية، مما سيعطي المجال لأصحاب "البزنس السياسي”، والذي سيكون لهم أكبر الأثر في إفشال التجربة الوليدة، إضافة لمعيقات كثيرة من أبرزها :

* اعتمد بناء الأحزاب بشكل واضح على الروابط الزبائنية والشخصية، ووضوح النقص البنيوي في الممارسة السياسية المؤسسية، مع فائض كبير في العمل الفردي. ومن المتوقع أن تشهد الأحزاب مزيداً من الاستقالات في المرحلة القادمة، امتداد لظاهرة عدم الرضا والاقتناع داخلها ، لأسباب وجيهة، منها «‏فزعة» تشكيل الأحزاب، التي فوّتت فرصة ولادتها طبيعيا.
كما أن عملية «الزواج الحزبية» التي تمت بين النخب وبين الفكرة الحزبية، كانت مختلّة من الأساس، فبعض هذه النخب لا علاقة لها أصلا بالسياسة ولا بالأحزاب، ولا تمتلك أي مواصفات لإقناع الجمهور أو إلهامه بالانضمام إليها، وفي إطار الصراع بين نخب من هذا النوع، وعلى زواج سياسي هدفه الحصول على الغنائم، أصبح من المتوقع أن تتصاعد حالات الطلاق، والاستقالة، وتتوسع التصدعات الداخلية أيضا، بعيد الانتخابات المقبلة.

والأخطر من حالات الاستقالة المعلنة التي تشهدها الأحزاب، هو الاستقالات الصامتة، التي حوّلت العديد من القيادات، والآلاف من الأعضاء، إلى مجرد أسماء وأرقام في قوائم الأحزاب، هؤلاء انسحبوا، او عطّلوا فاعليتهم، جراء إحساس عام بالإقصاء.

هذا الفراغ الذي تعاني منه الأحزاب، أفرز كتلة صغيرة أصبحت تتحكم بعجلة دوران الحزب، مقابل كتلة كبيرة موجودة تتفرج، ولا علاقة لها بما يجري، ما يعني أن بعض الأحزاب التي لم تتوفر لها اصلا، حاضنة اجتماعية حتى الآن، أصبحت تفتقد الحاضنة الداخلية، سواء على صعيد القيادات التي استقالت علنا أو بصمت، أو الأعضاء الذين جلسوا على المدرجات.

* ضعف التخطيط الاستراتيجي، وعدم القدرة على استقطاب العقول الوطنية القادرة على الاشتباك مع الواقع، وتقديم البرامج والحلول.

* غلبة الطابع الإنشائي غير المدروس على البيانات السياسية، وضعف القدرة على تحليل الاحداث والأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، لفهمها والتعاطي معها بأسلوب علمي، إضافة إلى تركيز الأحزاب على العمل الدعائي والارتجال، وضعف نشاطها الفكري والسياسي والثقافي.

* من ناحية البنية الداخلية، فان الأوضاع الداخلية للأحزاب ومدى سلوكها الديمقراطي داخليا، تؤثر على كفاءتها في كافة مناحي الحياة السياسية، ولعل المفارقة الرئيسة في هذا السياق تكمن في أن البنية الداخلية للأحزاب الأردنية تشكل نموذجا مصغرا لأهم أخطاء وسلبيات الواقع السياسي الرسمي الذي تطالب بإصلاحه!؛ فعلى مستوى البناء التنظيمي يهيمن المستوى القيادي أو رئيس الحزب على السلطة والاختصاصات.

وهي محدودة الانتشار على صعيد الاتصال الرقمي الجماهيري، وتعاني ضعفاً شديداً في المحافظات، فضلاً عن أنّ كثيراً منها لا يملك أي معرفة أو خبرة في مجال الحملات الإعلامية والدعاية والبرامج الانتخابية وصياغتها.

* تستوجب الأحزاب السياسية تجاوز مجرد أدماج أجيال جديدة من الناحية العمرية ( فئة الشباب)، فالفئة العمرية في حد ذاتها قد لا تعني شيئا إذا لم تحمل أفكارا واختيارات وبدائل جديدة أو مختلفة، فالتجديد المقصود هنا يكتسب معنى فكريا وسياسيا بالأساس، إلى جانب محتواه الجيلي.

* ضعف المشاركة السياسية للمواطنين في الانتخابات العامة والنقابية والمحلية، وفي الحياة السياسية والحياة العامة، وطغيان وهيمنة الانتماءات الفرعية، وتراجع الانتماءات الاجتماعية والسياسية، وضعف روح المواطنة وقيم الانتماء الوطني، وتزايد الفردية، كسبيل لحل المشاكل والأزمات، مقترنة بأسلوب الغاية تبررالوسيلة.

* تدهور أحوال الكفاءات من رجال العلم والمعرفة، وصعود رجال الفهلوة والفساد، مترافقا مع تراجع مصداقية التفكير العلمي، وقيم التخطيط والتنمية والعقلانية والاستقامة. ووجدت قيم التواكلية موقعا متقدما لها بين القيم الثقافية السلبية السائدة بين أفراد المجتمع، وهي قيم ظهرت لتعبرعن تنامي ظواهر السلبية واللامبالاة، واليأس من جدوى المشاركة السياسية، أو جدوى المشاركة في العمل العام.

وقد يكون شيوع مثل هذه القيم تعبير عن إدراك فداحة الثمن الذي يدفعه من يتقدم لخدمة البلاد، أو من يتقدم لمواجهة الظلم والفساد، أمام قوة الاستبداد الإداري أو الأمني أو المجتمعي، أو أمام قدرة رجال السلطة، ورجال الثروة والمال، على فعل ما يريدون دون حساب أو عقاب.

* وقد زاد من تعميق أزمة الفاعلية في المجتمع، ما أصاب هذه المجتمعات من عمليات تفتيت للكتل الاجتماعية الرئيسية، وزيادة للفئات الهامشية والمهمشين؛ فقد تفتتت الطبقة الوسطى التقليدية، وخاصة كتلتها البيروقراطية والتكنوقراطية الكبيرة العاملة في القطاعات الصناعية والإنتاجية للدولة، وتدهورت مكانتها مع الانتقال من نظام رأسمالية الدولة إلى نظام الانفتاح الاقتصادي والخصخصة، كما تدهورت مكانة فئاتها الوسطى الفكرية والثقافية من الكتاب والمفكرين وأساتذة الجامعات، مع صعود الفئات الثرية الجديدة، وانسلخت فئاتها العليا صعودا لأعلى، وهبطت فئاتها الدنيا للأسفل، وكان لهذا أثر بالغ على كل من المجتمع وحيويته، والأحزاب السياسية وفاعليتها.

* تجفيف المنابع التي تضخ الدماء الجديدة في شرايين الحركة السياسية، وخاصة منابع الحركة الطلابية كمنابع منتجة للقيادات الطلابية والشبابة، ومنابع الحركة العمالية كمنابع منتجة للقيادات الطبيعية العمالية والنقابية، ومنابع الحركة الشعبية في الريف والحضر كمنابع منتجة للقيادات الشعبية المحلية والأهلية والبرلمانية، ومنابع الحركة الثقافية المنتجة للقيادات الفكرية.

* احتكار الحكومة لأجهزة الإعلام الجماهيرية، وعدم السماح للقوى المعارضة باستخدامها، مما يحرم المواطن من التعرف على وجهات النظرالأخرى، ولا يساعده على تحديد موقفه من البدائل المطروحة عليه، خاصة وأن الصحافة الحزبية محدودة الموارد ومحدودة القدرة، ولا تستطيع منافسة الإعلام الجماهيري، مما يعطل فعليا حرية تدفق المعلومات واآراء من مصادر متنوعة، ويصادر التعددية السياسية عمليا.

* إن ضعف المجتمع المدني، قد يسرعملية هيمنة الدولة الوطنية على المجتمع، وتحول الدولة إلى فاعل سياسي وحيد، وهي أزمة ناتجة عن عملية تراكمية طويلة لنزع السياسة من المجتمع، بتأميم الدولة للسياسة، وتهميش المهتمين بالعمل السياسي والعمل العام، وإضعاف علاقات الانتماء على أساس اجتماعي أو على أساس وطني.

ويبدو لنا من هذا العرض لأبرز الكوابح المعيقة لانطلاق فاعلية الأحزاب السياسية، أننا لسنا فقط أمام تجربة حزبية مقيدة، ولا أمام نظام للحزب الواحد في صورة تعددية فقط، ولا أمام ضعف لفاعلية الأحزاب السياسية، بل أكثر من ذلك نحن أمام أزمة حقيقية لفاعلية المجتمع، وقد تراكمت هذه الأزمة عبر التاريخ، بما يجعلها أزمة عميقة الجذور، كما امتدت هذه الأزمة وتمددت في مجالات الفكر والثقافة والسياسة والبناء الاجتماعي بما يجعلها أزمة شاملة.

وحتى لا نقسو على الأحزاب، ونحملها ما لا تحتمله، يجب أن نعترف بأن الأحزاب هنا هي أيضا جزء من كل، تقوى أو تضعف حسب ما تمليه عليها بيئتها السياسية والاجتماعية والثقافية القانونية والتحديثية بشكل عام، وتحظى الأسباب السياسية الموضوعية المحيطة بالظاهرة الحزبية والقوانين المنظمة لها كقانوني الأحزاب والانتخاب بالهيمنة على مساحات كبيرة من النقاش، كعامل مثبط أو مشجع للبنى الحزبية .... يتبع