شارع "جكر" .. ومفاوضات وقف إطلاق النار في غزة




تذكر العديد من الفلسطينيين أثناء متابعتهم لجولات التفاوض بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وسلطات الاحتلال الإسرائيلي شارع جكر الشهير في قطاع غزة، مطالبين باستخدام إستراتيجية "الجكر" في المفاوضات مع الاحتلال.

فالمرونة التي أبدتها المقاومة في المفاوضات السابقة قد أغرت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن باستطاعته الحصول على تنازلات من المقاومة بمزيد من قتل المدنيين الفلسطينيين، وهي الإستراتيجية التي يبني عليها الاحتلال رؤيته في التعامل مع المقاومة.

يمتد شارع "جكر" الترابي، وهو مصطلح شعبي يعني العناد وتحدي أمر واقع، الذي جهزته كتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- على عشرات الكيلومترات من معبر رفح جنوبا، وحتى بيت حانون شمالا.

ويمثل الشارع أكبر تحدّ لقوات الاحتلال منذ انتهاء عدوانها على قطاع غزة بنهاية أغسطس/آب من عام 2014، من حيث مروره بمحاذاة خط التحديد مباشرة، في مسافة أقصرها 300 متر، وأقصاها 500 متر.
واعتاد العديد من سكان قطاع غزة الخروج مع عائلاتهم يوم الجمعة لقضاء يوم كامل في تلك المنطقة المطلة جدا على الأراضي المحتلة.

واشنطن تفاوض تل أبيب
ما إن تنتهي جولة مفاوضات أو يكون هناك مقترح مقدم للتفاوض حتى تسارع الولايات المتحدة للحديث عن تقدم في المفاوضات، وتشيع أن إسرائيل وافقت على المقترح، وأن على حركة حماس الموافقة.

وتبدأ ماكينة الإعلام الإسرائيلي والأميركي الحديث عن ضرورة موافقة حماس وأنها يجب ألا تعطل المفاوضات، فقبل يومين في الدوحة قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن "لقد أخبرني نتنياهو أنه موافق على الصفقة وبقي على حماس أن توافق عليها".


وأضاف الوزير، الذي اعتبر أنه يزور إسرائيل بوصفه يهوديا وليس وزيرا للخارجية، أنه "سمع مباشرة من نتنياهو أن إسرائيل قبلت مقترح سد الفجوات وأبدى أمله أن تقوم حماس بالشيء نفسه"، وفق تعبيره.

يظهر مسار المفاوضات أنها كانت عبارة عن مفاوضات بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ونتنياهو الذي يقدم تصوره للحل فتتبنّاه الإدارة الأميركية، وتطرحه على الوسطاء لينقلوه إلى حماس التي بدورها تجاوبت مع كل المبادرات التي طرحت عليها وأعطت تعديلات تراها ضرورية لتحقيق بعض من المطالب الفلسطينية، وعندئذ يرفض نتنياهو المقترح.

فمقترح بايدن الذي قدمه في خطاب ألقاه يوم 31 مايو/أيار الماضي، عرض خلاله مقترحا إسرائيليا، ووافقت عليه حماس مع بعض التعديلات، ليقوم نتنياهو برفضه والتنصل منه.

وهو ما يذهب إليه الكاتب والباحث السياسي عبد الله عقرباوي من أن الجولة الأخيرة من المفاوضات لم تشارك فيها حماس من الأساس، وما حدث كان مجرد عملية تفاوض داخلية ونقاش بين إدارة بايدن ونتنياهو على مقترحات سابقة للإدارة الأميركية التي سمحت له بأن يُدخل شروطا جديدة عليها، ثم تطلب هذه الإدارة من حماس أن توافق على نقاش لم تكن طرفا فيه.

و تسارع الإدارة الأميركية إلى تبنّيه ويصبح لسان حالها ناطقا بمطالبه الجديدة، فارضة ذلك على الوسطاء في كل جولة، حسب ما قاله الباحث السياسي الفلسطيني سعيد الحاج للجزيرة نت.

موقف الإدارة الأميركية هذا ظهر بوضوح بتصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عند مغادرة الدوحة التي زارها لمدة ساعات؛ إذ قال "مصر وقطر تعملان على تفسير البنود الغامضة لتتفهمها حماس وتوافق على الاتفاق كما وافقت عليه إسرائيل".

ومن المثير للانتباه أن نتنياهو لم يعلن ولا مرة بشكل مباشر قبوله لأي مقترح، وأن الأميركيين هم من تولوا ذلك، وفي كل مرة ينتصل نتنياهو من أي اتفاق أو صيغة اتفاق.


هدف مشترك
لا يمكن بحال من الأحوال إغفال الموقف الأميركي من حماس وتماهيه مع الموقف الإسرائيلي بأنه يجب القضاء على حماس وكل قوى المقاومة في فلسطين، وهو ما يؤكده كينث كاتزمان -كبير الباحثين بمعهد صوفان للدراسات الإستراتيجية والأمن الدولي والمستشار السابق لشؤون الخليج في مركز أبحاث الكونغرس– من أن الولايات المتحدة تشاطر إسرائيل موقفها من حماس وأنه يجب هزيمة حماس والتخلص منها.

ما قاله كاترمان للجزيرة يلخص الطريقة التي تتعامل فيها واشنطن مع ملف المفاوضات وحرصها على تحقيق هدف نتنياهو وهدفها المشترك بعدم تقديم أي إنجاز قد يحسب للمقاومة ومعركة طوفان الأقصى، إذ من شأن ذلك تغيير العديد من المعادلات في المنطقة.

وقد عبر الإعلام الإسرائيلي عن ذلك، إذ نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية عن مصادر مطلعة أن بلينكن ألحق ضررا كبيرا بالمفاوضات بعد إعلانه قبول نتنياهو المقترح الأميركي، وأنه "اصطف إلى جانب نتنياهو وأصدر حكما بالإعدام على الصفقة".

كما نقلت القناة الـ12 عن مسؤولين كبار قولهم إن بلينكن قلل فرص التوصل إلى صفقة بإسراعه إلى تحميل حماس مسؤولية عدم إبرام اتفاق.



اتبعت الولايات المتحدة إستراتيجية عدم الإعلان عن فشل المفاوضات أو انتهائها والإعلان عن التوصل إلى اتفاقات على بعض البنود وأن إيجابية تسود المفاوضات وبإجراء جولات مكوكية لوزير خارجيتها ومدير المخابرات المركزية (سي آي إيه)، وكل ذلك يولد انطباعا لدى كل الأطراف أنه بالإمكان الوصول إلى نقطة توافق في مرحلة ما، ومن ثم تغييب القضايا الكبرى في المرحلة الأولى على الأقل.

وتماهى الموقف الأميركي مع الموقف الإسرائيلي في ذلك، فقد تمت تجربة الأمر من قبل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وباتت جلسة تفاوض تلد أخرى، وتنوعت أسماء جولات المفاوضات بين اتفاقية باريس ومبادئ بايدن وكان آخرها اتفاق سد الفجوات.

ويرى المتخصص بالشأن الإسرائيلي إيهاب جبارين أن ما يحدث في جولات المفاوضات مشهد " كلاسيكي"، ففي عام 1991 سأل صحفي نتنياهو وهو نائب وزير خارجية حينئذ عن كيفية إدارة المفاوضات، "فرد نتنياهو بالوقوف على التفاصيل الصغيرة"، وهو ما يقوم به نتنياهو حاليا وفقا لجبارين.

عمى إستراتيجي
يرى اللواء (احتياط) في جيش الاحتلال غيرشون كاهان أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية فاشلة على المستوى الإستراتيجي، أي في فهم العدو وتوقع خطواته، لبناء خارطة للتعامل مع التهديدات التي يشكلها.
ويرى كاهان أن الجهاز فشل سابقا في محطات عدة، بينها توقع اندلاع الانتفاضة الأولى وسلوك حزب الله بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، بسبب عدم اهتمامه الكافي بالأبعاد الاجتماعية والدينية والاقتصادية للصراع.
وهو ما دعا إليه أيضا الصحفي الإسرائيلي بن كاسبيت، إذ يرى وجوب إعادة "الاعتبار للدراسات الأولية العربية"، مع وجوب "التركيز على دراسة الأعداء وفهمهم والاقتراب منهم وشمّهم"، حسب قوله.
من هنا، يمكن القول إن ما يدفع نتنياهو إلى التعنت بالتوصل إلى اتفاق ووقف للحرب، كما طالب العديد من القادة العسكريين السابقين لدولة الجنرالات، اعتقاده أن المرونة التي أبدتها المقاومة ضعف، فقد رأى فيها فرصة للضغط بمزيد من القوة بغية تحقيق النصر، كما يقول الباحث والمحلل سعيد زياد.

ويؤيده في ذلك الكاتب والمحلل السياسي محمد القيق الذي قال إن الاحتلال "يتعمد الضغط العسكري على المدنيين في قطاع غزة، في محاولة لكسب أفضل صفقة ممكنة".


ما زالت المقاومة تمتلك عددا من نقاط القوة التي تستطيع من خلالها فرض مطالبها في طاولة المفاوضات، واستخدام أسلوب "الجكر" في المفاوضات.
فوفقا للباحث والمحلل السياسي سعيد زياد، لا يوجد حل للمفاوضات "سوى العناد، فالعناد هو الحل، ولم يكن بيد الثوار يوما سلاح أمضى منه، ولم ينتصروا بشيء انتصارهم به".

فعلى الرغم مما تعرض له قطاع غزة من تدمير وإنهاك واستنزاف للحاضنة الشعبية للمقاومة في القطاع، فإن نقطة الضعف لدى المقاومة المتمثلة بالحاضنة الشعبية يمكن أن تكون نقطة قوة أيضا، فالمقاومة وبعد الضريبة الكبرى التي دفعتها الحاضنة الشعبية لن تستطيع التخلي عن مطالبها وعدم التشدد في تحقيق إنجازات ترضي حاضنتها الشعبية، كما يقول العديد من المراقبين.

كما أن المقاومة يمكنها التعويل على ساحة الضفة الغربية التي بدأت فيها المقاومة تأخذ أبعادا جديدة وتهدد الاحتلال هناك، فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي شهدت المقاومة بالضفة نقلة نوعية في عملياتها تمثلت في التصدي بقوة للتوغلات الإسرائيلية في المدن والقرى والمخيمات.

وتمكنت المقاومة بالضفة من إدخال سلاح العبوات الناسفة حتى قضّت مضاجع الاحتلال، كما من شأن النجاح في تنفيذ عمليات استشهادية في العمق الإسرائيلي على غرار ما حدث قبل أيام في تل أبيب أن يضغط على العصب الحيوي للاحتلال ويجبره على قبول شروط المقاومة لوقف إطلاق النار.

وفضلا عن ذلك، ما زالت الولايات المتحدة وإسرائيل متخوفتين من رد إيران وحزب الله على عمليات الاغتيال، وهو ما يضفي قوة على موقف المقاومة في المفاوضات، باستخدام ورقة التوتر الإقليمي واتساع رقعة الحرب التي ستلحق أذى كبيرا بإسرائيل كما يرى الجنرال الاحتياط إسحق بريك، فإذا "اندلعت حرب إقليمية بسبب عدم التوصل إلى اتفاق بشأن غزة، ستكون إسرائيل في خطر… وجميع مسارات المستوى السياسي والعسكري تقود إسرائيل إلى الهاوية".

المصدر : الجزيرة