عن الواقعية السياسية و"خطاب الدويري التعبوي" ومحاولات زعزعة المسلّمات الفكرية



كتب بهاء الدين صوالحة - 

على هدير التكييف الهادئ، وبعقل بارد، يستدعي برلماني وإعلامي في جلسة "صفا" "التوقعات الصادمة" التي ترسم في أجوبتها الناطقة بها أسئلة المتحدّث مآلات 7 أكتوبر وتضعنا في مواجهة ذاتية صريحة حول جدوى تلك العملية وما "ورّطت" به الجميع من مأزق يصعب الخروج منه!

"المُسيّس" – كما يحلو له التعريف بنفسه – يدعو إلى تجاوز ما أسماه "خطاب الدويري التعبوي" في محاولة قراءة ما حدث وما يحدث وما سيحدث بمنطق "العقل البارد" والواقعية السياسية مع عدم الممانعة بالاستعانة "بالخطاب التعبوي" إذا ما تطلب الأمر ذلك، محاولاً عبر أسئلته زعزعة "المسلمّات" الذهنية التي رافقت حركة الصراع مع الكيان وشكّلت في مضمونها إعتقادات كنّا نظنّها صلبة وراسخة حتى بددتها عملية 7 أكتوبر التي يبدو أنها مهّدت الطريق أمام قراءة جديدة لقاعدة "إعرف عدوّك" و "اعرف نفسك" لتعيد النظر في تعريف ما اعتقدنا طويلاً أنه مُعرّف.

يأخذ "الإعلامي" نفساً طويلاً متبوعاً بمحاولة موازنة مستعصية لاسترضاء الجميع مع مقدّمة "تعبوية" لجبر الخواطر تعيد للأذهان نشوة 7 أكتوبر التي لامست الوجدان وأطفأت جزئياً شهيته المؤجّلة. ثم يبدأ مقارباته على وقع أسئلة "الإجابات": من كان يتوقّع هذا الثبات للمقاومة وأهل غزّة؟، وصولاً إلى النقطة العمياء الكاشفة ليقذف السؤال الأصعب في أحضان متابعيه: بالمقابل؛ من كان يتوقع هذا الثبات غير المسبوق لآلة الحرب الإسرائيلية كل هذه الشهور والتي كنا نقول أنها لا تقوى على خوض الحروب إلا لأيام معدودة؟! من كان يتوّقع أن تتصالح "إسرائيل" مجتمعاً وجيشاً وساسة مع قتلاها؟! .....

بيد أن مزراب تساؤلات – ما هو غير متوقع - تلك توقّف فجأة دون أن يكمل فضفضة "تساؤل ما هو غير متوقّع" القاتل الذي أنجب في الواقع كل التساؤلات السابقة، متحاشياً إغلاق زوايا السردية الموجعة.

فمن كان مقابل المقابل يتوقع أن يصل منسوب التخاذل العربي إلى أعلى درجاته، وأن تنخفض درجة حرارة "العقل السياسي العربي" إلى أدنى حالة التجمّد، وتصاب عروق نظامه الرسمي بهذا اليباس لتعطّل قدرته على ردع أو لنقل من باب التخفيف "محاولة" ردع ماكنة الحرب الهمجية ولو تحذيرياً عبر التلويح مثلاً بالعودة إلى ما قبل خطوط مبادرات "السلام" المجانية، ولجم طوفان الإنجرار غير المسبوق و"المتوقّع" الذي مارسته القوى الاستعمارية وراء عبثيات طفلها الإرهابي المدلل ومشاريعه التوسعية!

من كان يتوقّع أن يصل مستوى اللامبالاة تجاه الذي يهدد أطراف ثوب "الجار المسالم" بالإشعال دون أدنى ردة فعل. من كان يتوقّع أن يتحوّل من كان يُتوقّع أنه طرف أساسي في الصراع إلى "وسيط نزيه" ونزيه جداً أيضاً لا همّ له سوى توليد دور له بين قوى التأثير في المعادلة!

من كان يتوقع أن يستمر بعدم وعي جوهر المسألة فيتشبّث أكثر بخياره بوهم "السلام" مع قتلة الأطفال والنساء على اعتباره عصا الموسى وخشبة الخلاص؟

من كان يتوقع أيها السادة أن تبلغ "الإنسانية" هذه الدناءة وتتبعثر مفرداتها أرضاً على وقع أشلاء الأطفال والنساء والمغلوبون على أمرهم للتناثر في وجه قيم المجتمع الدولي والعالم المتحضّر الزائفة؟ من كان يتوقع أن يتحول شلّال الجثث إلى عدّاد أرقام يَثِب مع مطلع كل شمس ومغيبها دون من يجرأ على كبح دورانه؟

حديث صديقنا "الموهوب" يصب في حالة "تقلّب" المزاج السياسي السائدة حيال ما حدث في 7 أكتوبر وجدواها. تقلّب استدارت فيه الرؤى فجأة وانقلبت البوصلة صوب "تذنيب" المقاومة وتحميلها مسؤولية كل الخراب الذي حلّ على غزّة، و"توريط" – كما يصف – كل الأطراف بفخ لا مخرج منه، في محاولة لإعادة ضبط عقلية "الجمهور" على إيقاع خيارات "الفراغ" للعقلية السياسية العربية!

ومع تدفّق الأسئلة المسكوبة نسأل أيضاً: هل أخطأت المقاومة في قرارها يوم 7 أكتوبر؟

بالتأكيد أخطأت. أخطأت؛ لأنها لم تتوقع ما هو مُتوقّع ، أخطأت لأنها لم تُشف بعد من حمى اليُتم. أخطأت لأنها لم تدرك أن عقود المصير المشترك والدفاع المشترك والحال المشترك قدّ تبدّلت حروفها واستبدلت أطرافها.

أخطأت لأنها لم تستجب لنداءات "الدم البارد" بإلقاء سيفها لقاء خيار الفراغ .. فراغ المشروع، فراغ الرؤية، فراغ الحل وفراغ "الواقعية السياسية" الذي لم يملأه سوى طموحات "نبوءات" حاخمات صهيون وغايات وعود طواغيت الاستعمار.

أخطأت حين لم تتوقع أن يصل الصمت منتهاه حيال كل هذا الفُجر في العداء الذي يمارسه مغول العصر، دون رادع ووسط ترحيب -بل وبملئ الفم ودعم- مَن أتعبتهم مناصرة قضية حقّ لا يستأنسون لكيميائها وفيزيائها، ويتضرعون ليل نهار لتصبح نسياً منسياً!

أخطأت حين لم تتوقع أن تُمنح "إسرائيل" تأشيرة عبور مفتوحة لممارسة كل فنون القتل والتشريد والهمجية حيال شعب لا يطالب سوى بحقّه في التنفّس، والحياة بإراداته لا الموت بإرادة جلّاده!

أخطأت حين لم تتوقع أن نعتنق مذهب الطرف الآخر "فاذهب إنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" ليصبح هو المُعتقد والمبدأ والموقف، دون إدراك بعد لحقيقة وجوهر الصراع الذي لم تكن فيه "فلسطين" سوى نقطة الانطلاق لما هو أبعد!

ونحن بدورنا؛ أخطأنا ونخطئ بتوقعنا إن تمسّكنا أكثر بخرافة الثعلب الذي يمكن ان يتحوّل إلى حمل، والعدو الذي يمكن أن يصبح صديقاً، وغريب اليد والقلب واللسان ليكون جاراً وحليفاً، وذوّبنا ثارات من قهّرهم ما هو أشد بشاعة من الموت، ونخطئ أكثر بإصرارنا على قراءة التاريخ والجغرافيا والسياسة بالمقلوب، فللناس ما زالت ذاكرة مشتعلة لم يصبها برود "عقل"الساسة!