الدكتور محمد خير مامسر: قامة أخرى ترحل!
ها هي قامة وطنيّة أخرى ترحل عنّا وتلتحق ببارئها، في زمن شحّت فيه القامات، وزمن ما عاد يحفل بالقامات أساساً.
رحم الله الدكتور "محمد خير مامسر" وأسكنه فسيح جنانه.
قليلون هم الأشخاص الذين يمكن أن ترى الجميع يُجمعون على حبّهم واحترامهم وتقديرهم وتوقيرهم بصدق، دون نفاق أو تزلّف أو التماسٍ لمصلحة، والدكتور "مامسر" كان أحد هذه القِلّة من الرجال، ليس على مستوى الشراكسة فقط، بل على مستوى المجتمع الأردنيّ قاطبةً.
للدكتور "مامسر" سجل حافل بالإنجازات والمآثر، لكن المأثرة الأثيرة على قلبي من بين جميع مآثره هي عندما استقال من منصبه كوزير للرياضة والشباب انتصاراً لنزاهته.
لا تربطني قرابة مباشرة أو علاقة خاصة بالدكتور "مامسر"، مع أنّه كان دمثاً ودوداً يتواصل ويتفاعل مع جميع الأجيال.
وطوال حياتي لم أتفاعل مع الدكتور "مامسر" تفاعلاً مباشراً ذي مغزى يتجاوز مجرد إلقاء التحيّة عليه أو الوقوف احتراماً له كما تقتضي العادات الشركسيّة.. سوى ثلاث مرّات:
المرّة الأولى عندما كنتُ ما أزال طفلاً صغيراً في مسقط رأسي جرش، وقد كانت جرش أيامها لواءً يتبع محافظة اربد، وقد تقرّر أن نشارك في احتفال مركزيّ بمناسبة عيد الاستقلال يُنظّم في ملعب اربد البلدي (مدينة الحسن الرياضية لم تكن قد بُنيت أو اكتملت بعد).
المشاركة كانت تحت اسم "مركز شابات جرش"، وكانت عبارة عن فقرة رقص شركسيّ تؤديها مجموعة من أبناء وبنات شراكسة جرش، وذلك باعتبار أنّ جرش هي إحدى الحواضر التي سكنها الشركس وأعادوا إحياءها وإعمارها عندما أتوها مهاجرين من وطنهم الأمّ القفقاس اعتباراً من سنة 1872 صعوداً.
الحفل كان برعاية الدكتور "محمد خير مامسر"، وأظنّ أنّه أيامها قد كان عميداً لشؤون الطلبة في جامعة اليرموك أو شيئاً من هذا القبيل، ولا أعرف هل كان راعياً أصيلاً للحفل أم بالإنابة، المهم أنّه قد فرح فرحاً عظيماً عندما رأي ثلّة يافعة من أبناء جلدته الشراكسة يشاركون في الاحتفال ويقدّمون فقرة فلكلوريّة شركسيّة في قلب عروس الشمال اربد.
المرّة الثانية كانت بعد حوالي ربع قرن، وكنتُ قد كبرتُ ودرستُ وتخرّجتُ ومارستُ العمل لبعض الوقت في الصحافة.
لقاؤنا هذه المرّة كان كضيفين إلى جانب ضيوف آخرين في برنامج حواريّ على "تلفزيون نارت".
الحلقة كانت مخصّصة للحديث عن مدرسة الأمير حمزة بن الحسين التابعة للجمعيّة الخيريّة الشركسيّة، وقد كان الدكتور "مامسر" أيامها يترأس مجلس أمناء المدرسة.
أمّا أنا، فكنتُ حاضراً بناءً على طلب مجموعة ناشطة من الشباب الشراكسة المعنيّين بأحوال المدرسة كي أنقل صوتهم وملاحظاتهم وانتقاداتهم خلال الحلقة بحكم خلفيّتي الصحفيّة.
بعض الانتقادات كانت حادّة، أو فيها تفنيد وتحدٍ لما قيل، ومع هذا فقد بقي الدكتور مامسر هادئاً ورصيناً و"كبيراً" طوال الحلقة.
المرّة الثالثة كانت في اجتماع حاشد لمناقشة أحد الشؤون الشركسيّة في تقاطعها مع الشأن الأردنيّ العام، وهنا نحن نتحدث عن فترة تعود لعشر سنوات خلت أو ما يقاربها، وعلى غرار المقابلة أعلاه، لم أكن من حيث المبدأ معنيّاً بالذهاب والخوض في نقاش، لكن أخي الأكبر هو الذي أصرّ على اصطحابي معه إلى الاجتماع.
وخلال الحديث وجدتُ نفسي مضطراً للتدخّل عندما رأيتُ أنّ ما يقال للحضور، وجلّهم من الشباب واليافعين، يتعارض ويتنافى مع حقائق ووقائع أعرفها كـ "معلومة" حول موضوع النقاش.
يومها أغلظتُ القول لـ "الكبار" بطريقة كانت صادمة للجميع.
الدكتور "مامسر" كان حاضراً وقتها، ومرّة أخرى فقد حافظ على هدوئه ورصانته ومقامه، وانتظر لحين انتهاء الاجتماع وانتحى بي جانباً، وأخبرني عن واقعة "صادمة" حدثت معه تبرّر على الأقل الموقف الشخصيّ المحافظ والمتحفّظ الذي أبداه خلال الاجتماع.
الواقعة التي أخبرني بها لم تكن متعلّقة بالشراكسة تحديداً وحصراً، بل كانت تتعلّق بعقلية صانع القرار الأردني والمرجعيّات العليا في الأردن وكيفيّة تعاطيها مع الشأن العام.
تفاصيل الواقعة ليست مما يمكن ذكره على الملأ هنا، لكن كلام "مامسر" وقتها ساهم في تفتيح نظري على مسائل كثيرة، وفي نفس الوقت خلق داخلي قلقاً وهاجساً حقيقيّاً في ضوء منطق تفكير عِلية القوم الذي يحسمون من خلاله قراراتهم وخياراتهم ونظرتهم للناس ورؤيتهم لمستقبل البلد!
هناك تفاعل رابع مع الدكتور "مامسر"، لكنّه تفاعل غير مباشر عبر صفحات الموسوعة التاريخية للأمّة الشركسيّة التي كتبها.
كأكاديميّ قد يكون لديك ملاحظات وتحفّظات منهجيّة كثيرة على الموسوعة بما هي موسوعة، لكن مرّة أخرى، عندما تعرف السبب الحقيقيّ الذي دفع الدكتور "مامسر" لكتابة الموسوعة، وسعيه لإتمامها وإخراجها إلى النور في أسرع وقت ممكن.. لا تملك إلا أن تزداد احتراماً وتقديراً للدكتور "مامسر".
السبب الحقيقي وراء كتابة "مامسر" للموسوعة الشركسيّة هو أيضاً مما لا يمكن ذكره على الملأ هنا.
من الكلاشيهات المستخدمة في رثاء الأشخاص عبارة: "وترجّل الفارس عن فرسه"، لكن في حالة الدكتور "محمد خير مامسر" فإنّ العبارة هنا ليست مجرد كلاشيه أو مجاملة أو استعارة أدبيّة، فالدكتور "مامسر" قد كان فارساً عمّانيّاً أردنيّاً قوقازيّاً أصيلاً بحق.
الرحمة والمغفرة للدكتور "محمد خير مامسر"، وحسن العزاء لأهله ومحبيه ولجميع أبناء الأسرة الأردنيّة الواحدة.