حَــكَــايـــا فِـــنــجـــان قَـــهــوَتـــي (16) نَــظَـــرِيَّــــة زاوِيَـــــة الــرُّؤيــــــا

 
يَومٌ جَديد يُعلن انطِلاقه ، ويكأَنَّه مُتَسابِقمُشارِك في سِباق سُرعَة ، فَلا يَلبثُ اليَوم أَن يَبدَأ حَتّى يَنتَهي فَتَمُرّ السَّاعات والأَيّام والأَسابيع سَريعَة ، عَلى قولة والِدَتي : (الأَيّام ما فيها بركة) ولا أَدري لِماذا تَذَكَّرت حِوارات والِدَتي وَوالِدي قَديماً وكِبار السِّن مِن أَصدِقائي الذين يَتَذَكَّرون الماضي الجَميل وأَيّامه وبَرائَته بِرُغم الفَقر السّائِد وقِلَّة ذات اليَد ولكن كانَت كَما يَقولون.. أَجمَل أَيّام أَعمارهم ، رُبَّما السَّبَب هُوَ أَنَّهم كانوا في مَرحَلة الشَّباب والقُوَّة أَو رُبَّما أَنّ تَفاصيل الحَياة كانَت أَقَل ، ومُتَغيّراتِها ومُتَطَلّباتها وكَماليّاتها ، فلِغايَة الآن أَنا لا أَجرُؤ أَن أُخبِر والِدَتي بِسِعر المَلابِس التي أَشتريها ودائِماً أقسم السّعر عَلى عَشرة ومَع ذلك تَقول لي : غَلَبوك ، الله يسامحَك!
وأَذكُر صَديق لي أَرادَ أَن يُقيم حَفل زَفاف كَلّفه عَشرات الآلاف فذَهَب لإِخبار والده -كَبير السِّن- وأَخَذَ رَأيَه بالمَكان والمَوعِد ، فَتَنهّد والده وسكتَ قَليلاً ثُمَّ قال : والله يا أَبوي هيك حَفلة رح تكلفك كثير يَعني بدّك تحسب حسابك على أَكثَر من ميتين ليرة ! فقال له ولده مازِحاً : وَلْ يا حجّ مش لهالدرجة ميتين ليرة مرّة وحدة ! ليش البَعزقة !

وَصَلتُ سَيّارَتي وانطَلَقتُ نَحوَ مَدرَستي وفِكرَة أَنّ مُعظَم مَن حَولي يَتَمَنّونَ العَودَة بالزّمان للوَراء تُسَيطِر عليّ.. وَصَلتُ مَكتَبي وانتَظَرتُ صَديقي الذي تَقَدّم نَحوي ..
- صَباح الخير أَفنان
- صَباحَك سُكّر دكتور .. تفضّل
- أَمسَكتُ فِنجان القَهوَة .. لَيس الفِنجان الذي اعتَدتُ أَن أَشرب فيه !
- أفنان .. بَعدَ أَن همّت بالمُغادرة مُسرِعة أَو هارِبَة .. وين فِنجاني ؟!
- بِصراحة دكتور ، ما لقيته بالمطبخ
- كيف؟! يعني مين أخذ الفِنجان اللي أَنا بَشرب فيه ؟!
- والله يا دكتور مش عارفة ! سألت الجميع وما حد عرف وين فِنجانك ..
- بتحكي جد ؟! كيف يعني الفِنجان ضاع ؟! زهق مثلاً مِنّا وقرّر يهجر المَدرسَة ويهاجِر لبَلَد النّاس بتشرب فيه القهوة باردة ، لأَنّه قهوتنا سخنة وهو بيتحسّس مِن الحَرارَة ؟!
- والله فِكرة حلوة دكتور .. مُمكن ليش لأ ، مش إنتَ حوّلته مِن فِنجان لكائِن بحكي وبيحس وبِناقِش يمكن كَمان تطوّر أَكثر وهاجَر ..
- جد بالله فكرة حلوة ، أَفنان جاوبي بصراحة انكَسَر الفِنجان معك ؟! عادي والله ما بزعل احكي ..
- قَسمًا بالله لأ يا دكتور بعدين لو انكسر ما هي الأعمار بيد الله وانت مؤمن لكان حكيتلك بس والله في حد ماخده من المطبخ ..
- اليوم مهمتك بس البَحث عن الفِنجان وما تِعمَلي ولا إِشي تاني بس جيبيلي الفِنجان حتّى لو مكسّر ، ما تعملي أي شي تاني !

أمسكت الفِنجان الجَديد وكان شبيهًا جِدًّا بِصَديقي القَديم ، أَهلاً صَديقي الجَديد ولا تلمني فأَنا لا أعرفك وأُحبّ صَديقي القَديم جِدًّا فأَنا مَريض بِداءِ الوَفاء والتّعلُّق فأَنا أُحِبُّ فِنجاني وأَتعلّق بِكُل أَشيائي ولَيسَ لَكَ ذنبٌ في ذلك وإِنَّما العَيب في تَعلّقي أَنا بِفِنجاني القَديم ..
وهكذا الكَثير مِن البَشَر يتعلّق بِوالده أَو والدته وإِذا ما انتَقلت أَو انتَقل إِلى الرّفيق الأَعلى يفقد صوابه ولا يتَقبّل فِكرة عَدَم وجودهم وأعرف من انتحر بَعدَ وفاة والدته لأنّه لَم يستطِع تَخيّل الحَياة بعدها ، والبَعض يتعلّق بِمَنطِقَة ما أَو مَنزِل ما أَو صَديق أَو حَبيب ما أَو عَمَل ما أَو قِصَّة ما لا يَستَطيع تَجاوُزها .. ناسين أو مُتَناسين أَنّ لا شيء يَدوم إِلّا وجه الله ، لِذا فلا تَتَعَلّق لِدَرَجَة مُبالغ فيها .. حِفاظاً على نفسك ..
نَظَرتُ لِسَطحِ الفِنجان الذي كانَ يَعلوه طَبَقَة سَميكَة حَجبت الرُّؤية عَن القَهوَة ..

رَشَفتُ رَشفةً أُولى .. لا أَدري لِماذا شَعَرتُ بِأَنّ طَعم القَهوَة تَغيّر ! ولكن هَل يتغيّر طعم القَهوة بسبب تغيّر فِنجان القَهوَة ؟! أَم هِيَ مَشاعِر فقط ؟! نَظَرتُ لِسطحِ الفِنجان لا أَدري لِماذا شَعَرتُ بِأَنّ الأَشكال هُنا مُختَلِفَة ويكأَنّني أَتحدّثُ لُغَة غَريبَة مَع شَخص يَتَحَدّث لُغَة أُخرى فَلا أَفهَم لُغته ولكنّني أَسمعها وهُوَ كذلك يَنظُر لي دونَ أَن يَفهَم كَلِماتي وطَريقة المُحاكاة والتّناغُم بَيني وبَينَ هذا الفِنجان جَديدة ، حَدَّقتُ أَكثَر فَرأَيتُ فُقّاعات أَشبه ما تَكون بالفقّاعات النّاتِجَة عَن مَواد التَّنظيف أَو مِن التّجارب الكيميائيّة رُبَّما أَرادَ الفِنجان أَن يَقولَ لي هُوَ أَنّ تفاعلك مع واقعك الجَديد يجعلك أَكثَر تَقَبُّلاً له ، فإِذا اضطررت للتعامُل مع أَشخاص جدد ، جيران ، زُملاء عمل ، رُفقاء رِحلَة ، فلا تعزل نفسك وإِنّما تَفاعل معهم قَدرَ المُستطاع وحاوِل أَن تَتَعَرّف إليهم وحاوِل أَن تَخلِق رَوابِط تَجمعك كاهتمامات مُشترَكَة أَو هِوايات أَو طَريق مُشتَرَك أَو أَيّ مَوضوع فهذا التّفاعل لا شَكّ وأَنّه سيجعل الوَقت يَمُرّ بِسُرعَة أَكبَر وبِمُتعَة أَكبَر ، وكذلك عِندَ تَفاعُلِك مع آلة جَديدة ، سَيّارة جَديدة ، جِهاز جَديد ، فِنجان قَهوَة جَديد ، حاوِل التّعرّف على هذه الآلة أَو الأَداة وتَقبّلها والاعتياد عليها أَو خُذ قَراراً بتغييرها فَوراً إِن شعرتَ بِأَنّ الكيمياء غَير مَوجودَة بينكما..

رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى وحملتُ الفِنجان .. وتَوَجَّهتُ لِجهاز الصَّوت واخترتُ أغنية سيّدتي فَيروز أَنا عِندي حَنين..
أنا عندي حنين ما بعرف لَمين ..
ليليّة بيخطفني من بين السّهرانين ..
بيصير يمشّيني.. لبعيد يودّيني ..
تَ أعرف لمين.. وما بعرف لمين ..

أَحياناً يَمرّ الإِنسان بِمَرحلة مِن تَخَبُّط المَشاعِر وخاصَّة بَعدَ انتِهاء تَجرُبَة ما أَو الانتقال لِتَجرُبَة جَديدَة فَحتّى لَو كانت التّجربة الجَّديدة أَفضل وأَمتَع وأَكثَر جَدوى مِن السّابِقَة إِلّا أَنّ شيئًا يقود الذّاكِرَة والقَلب بين فينة وأُخرى للسابِق ولِلذكريات .. مكان السّكن ، ذكريات الأَصدِقاء ، القِصَص البَسيطَة ، زُملاء العَمَل ، الطُّرق المُؤَدِيَة للعَمَل ، أَزمَة السّير ، الباعَة المُتَجوّلون .. أُمور تخطر على البال دونَ دونَ استِئذان فيصيب الإِنسان اختِلاط في المشاعر. فهل هي مشاعِر حُزن أَم فَرَح أَم مشاعر حَنين فقط ..ولكنّ ما هُوَ الحَنين ؟! ماذا يَعني الحَنين ؟! هَل هُوَ الشَّوق أَم الحُزن أَم الفَرَح أَم الشَّغف أَم اللَّهفَة أَم خَليط بَينَ كُلّ ذلك ؟! غَريب هُوَ الحَنين .. وهذا الحنين هَل هُوَ للمَكان أَم لِمَن كان بالمَكان ؟! هُناكَ مَن يَكرَه الماضي لكثرة التّجارُب السّيئَة التي مَرّ بِها أَو لِمشاكل مُعَيَّنة مَرّوا بِها لِذا هُوَ لا يُحِبّ هذا الحَنين الذي يُقلّب ذكريات يخفيها صاحبها في الذّاكِرَة المَنسيّة ويُحاوِل أَلّا يَعود إِليها ولا يُحدِّث بِها حتّى نفسه إِلا أَنّها بين فينَة وأُخرى وكَما قالَت فَيروز ..

حدّ القناطر .. محبوبي ناطر ..
كسر الخواطر يا ولفي ما هان عليا ..
بتطلّ بتلوح .. والقلب مجروح ..
وأيّام عالبال بتعنّ وتروح ..

إِذاً هِيَ ذِكريات بِتعنّ وبتروح .. رُغماً عَن أَنف صاحِبها ..
رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى لِأَجدني استسيغها أَكثر مِن الأولى وراقبتُ سطح الفِنجان وشَعَرتُ بِأَنّني بَدَأَتُ أَفهَم عليه أَكثَر ولا أَدري الشّكل الذي تَكوّن هَل هُوَ أَقرَب للرَقَم (4) أَو لِحَرف
((M أَو لِحَرف (W) أَم لِرَقَم (3) باللغة الانجليزيّة حَسَب الزّاوية التي تراه مِنها وهُنا ..
خطرلي أَنّ أَحياناً جَميع وِجهات النَّظَر تَكون صَحيحَة ولكنّ تَختَلِف الزّاوية التي يَنظُر مِنها المُتَكَلِّم فَلَو نَظرتَ لِحَرف (
M) مِن أَسفَل لَرَأيتَه (W) والعكس بالعكس ! ولَو قلبته جِهَة اليَمين لَكانَ الرَّقم (4) باللّغة العربيّة ولو قلبته لكانَ الرّقم (3) باللّغة الانجليزيّة
فمعظم خِلافاتِنا هي ليست خلافات بالأصل بَل هِيَ اختِلاف في الزّاوية البعديّة وفي التّحليل ، وأَحياناً عَدَم وضوح الرُّؤيا والاستماع لطرف واحد دون الآخر ..

فالإٍنسان العاقِل كَما القاضي العادِل يجب أَن يَسمع من طرفي المُشكلة وأن يضع نفسه مَكان الطّرف الآخر قبل اتّخاذ القَرار .. كَثيراً ما أُواجه مُشكِلَة باتّخاذ قَرار ضِدّ زَميل مُقَرَّب لي بالعَمَل لاقترافِه خَطَأ ما والقانون يَقتَضي ذلك ، وغالِباً ما أَستدعيه وأَقول له لو كنت مَكاني ماذا كُنت سَتَفعل ؟! المُعظَم يجلد نَفسه ويَكون قَراره أَقسى مِن قَراري بِكَثير!
أَرخيتُ سَمَعي لِسَيّدتي فَيروز ..

عدّيت الأسامي ومحيت الأسامي ..
ونامي يا عينيّي إذا رح فيكي تنامي ..
وبعدو هالحنين من خلف الحنين بالدّمع يغرّقني بأسامي المنسيّين ..
تَ أعرف لمين.. وما بعرف لمين ..

شُعور غَريب يُسَيطِر عَلى المَشهَد كُلَّما حاولتَ استِرجاع الذّكريات مِن خِلال مُشاهدة البوم صورك القَديمة ، كَم تَتَفاجَأ بِأَنّك قَد نَسيت الكَثير مِن أَصحاب الصُّوَر فَبَعضُ الصُّوَر تَتَعانَق بِها مَع صَديق لا تعرف اسمه ولا أي مَعلومة عَنه ولكنّ الغَريب كيف كُنتما صَديقين إِلى دَرجة العِناق وهو الآن مَع المنسيين الذين لا تذكر اسمهم ولا أَي مَعلومة عَنهم ! وصُوَر أُخرى تَتَمَنّى لَو أَنّك مزّقتها ولم ترها أَصلاً لِأَنّ مَن فيها أَصبحوا ألدّ الأَعداء وهُم ممن تَرميهم في الذّاكِرَة المَنسيّة ، بَل وفي كُلّ مَرّة تُمزّق صُوَراً جَديدَة كَي لا تَعود لِرُؤيتها مُجَدَّداً!

ولكنّ الحَنين الغَريب للماضي يبقى بِلا هويّة .. ضائِع بين مَجموعة مِن الأَحداث والأَشخاص ، تائِه يُقلّب أَوراق الماضي يُنَبّش في الذّاكِرَة فعلّه يَجِد ما يُشبِع ظَمأه ، فتَراك تَزور بِذاكِرَتِك بيتك القَديم تَتَلَمّس جِدرانه وأَبوابه وتَمُرّ في الأَزِقَّة وتَتَذَكّر الجيران وبائِع الدُّكان
وذلك الجار الذي كُلّما ذهبت الكُرة لعنده مزّقها بالسّكين وخرج لَنا مُهدِّداً ! وتضع لك ذاكرتك فيلماً وثائِقيًّا يرسم أَدقّ التَّفاصيل ويتركك للبَحث عَن شيء تَفتَقِده بِشِدَّة وبِدون وَعي ، وأَحياناً تَبحَث عَبثاً عَن شيء تعرف ماهيّته وتعرف مكانه ولكنّك لا تُريد أَن تَجِده لأَنّ مُتعَة البَحث تَفوق مُتعَة اللّقاء أَو لخشيتك مِن هذا اللّقاء لأَنّه سيفتح أَمام قلبك وذاكرتك طُرُقاً وأَبواب قَضَيتَ أَوقاتاً طَويلَة لإِغلاقها ..
ورجِعتُ لِفَيروز ..

أنا خوفي يا حبّي لتكون بعدك حبّي ..
ومتهيّألي نسيتك وإنت مخبّى بقلبي ..
وبتودّي الحنين، ليليّة الحنين ..
يشلحني بالمنفى، بعيونك الحلوين ..
تَ أعرف لمين.. وما بعرف لمين ..


أَنا أعرف أنّني أَهرب مِن حُبّك الذي يسكن أَعماق قَلبي وأُحاوِل عَبثاً أَن أدّعي أَنّني قَد نَسيته ولكنّ كانَ أَقوى من النّسيان .. ولكنّ لِماذا تَقودني ذاكرتي إِلَيك إِلى تَفاصيل وجهك وإِلى الطُّرقات التي سِرنا بِها مَعاً كُلّ كَلِمَة هَمَسناها وكُلّ عِبارَة نَطقناها إِلى أَوّل وردة أهديتُكَ إِيّاها ، أَو رِسالَة وَرَقيّة كتبتها لك ما زِلتُ أَذكُر كَلِماتها والمَكان الذي اقتَبَستُ مِنه أَبيات الشّعر .. تعصف فيّ مَرّة واحِدَة ..
كذلك هُناك بعض الأَحداث في حياة كُل مِنّا عصيَّة على النّسيان سِواء أَكانت مُحبَّبة أَم مَكروهَة .. تَسرق مِنّا النّوم وتجعل أَحدنا يهيم في عالَم أَرشيفي مِن الذّاكِرَة طويلَة المَدى ..

رَشَفتُ رَشفَةً مِن الفِنجان .. الذي شُقّ فيه طَريق عَريض لَم يلبث أَن تَقلّص وذاب وهرب نَحوَ جوانِب الفِنجان.. كأَنّ الطّريق هذه هي الرِّحلَة الأَرشيفيّة المَليئَة بالصّور والأَحداث التي تحملني ذاكرتي إِلَيها ..
لا تلبث أَن تَختفي وتعود لتَختَبِئ في أماكنها لتخرج مَرَّة أُخرى كُلَّما أَصابَني داء الحَنين ..
ولكنّ هل الوَفاء للذكريات مَطلوب ؟ أَم أَنّ نوع الذّكريات هو الذي يُحَدِّد هل الوَفاء واجِب أَم أَنّ النّسيان أَكثر وجوباً ؟! فهل مِن العَيب أَن تَنسى أَصدقائك القُدامى ؟! أَو جيرانك القُدامى ؟! أَو سيّارتك القَديمة ؟! وهل الذي يَعيش بالماضي هو الشّخص الذي لَم يستطع إيجاد واقِع أَجمَل لِذا فإِنّه لا يَسترجِع إِلّا الذِّكريات الجَميلَة في الماضي أَمّا مَن استطاع خلق واقِع أَجمَل فغالِباً لا يَعود للماضي ؟! ودليل ذلك أَنّنا في الدُّوَل العربيَّة لا تَتَحَدَّث إِلا عَن الماضي لأَنّ واقعنا سيّء وماضينا جَميل فنُحاوِل نسيان الواقِع بِتَذَكّر الماضي والتّغني فيه.. رُبَّما

وَرَشَفتُ آخر رَشفَة مِن الفِنجان وابتَسَمت .. لأنّني مِن الأَشخاص الذين يحبّون الحاضِر والمُستَقبَل أَكثَر مِن الماضي ، الماضي يعصف بالذّكريات حلوها ومرّها أَمّا الواقِع والمُستَقبَل فَأَنا أَسعى ليكون جَميلٌ فقط بإِذن الله دونَ مَرارة فيكفينا المُرّ الذي أَصابَ قلوبنا في الأَيّام الماضية .. وأُحاوِل أَن أَترك في ذاكرة الآخر ما يجعلني في الذّاكِرَة العصيّة عَلى النِّسيان .. وتَذَكّرتُ فَجأَة أَنّ أَفنان لَم تُخبرني شَيئاً عَن مَصير فِنجاني المَجهول ..

ناديت .. أَفنان .. أَفنان ..
لم تأتِ أَفنان ولم أعرف مَصير فِنجاني العَزيز .. لَم أَستطيع الهروب من ذاكرتي التي عصفت بي بأَحداث كثيرة من عشرات السّنين ، أَحداث وذكريات تَزاحَمَت في ذهني وصُوَر تَتَقَلّب جَميلَة ومُخيفَة دافِئَة وباردة مشاعِر ألقت بثقلها عَلى صَدري وعَقلي وقَلبي وحاولتُ الفَرار مِنها مُسرِعاً ..
خرجتُ من مَكتَبي مُتذرّعاً بالسُّؤال عَن أَفنان ولكنّ الواقِع هُوَ الهروب مِن تِلكَ الذّكريات التي أَرخت بثقلها عليّ فصادفتُ أَحد أَصدِقائي القُدامى والذي جاءَ مِن السَّفر لِزيارتي أهلاً.. سنوات طِوال لم نَرى بعضنا البعض ولكنّ المَشاعر كَما هي ، أهلاً وسهلاً صَديقي القَديم وجلسنا سَويًّا وأَعدنا شريط الذّكريات الذي كانَ أَصلاً يَدور في ذِهني .. وانغَمَسنا في حَديث جَميل الذّكريات فقط ولكن هُناك ما كان يشغل بالي
فِنجان قهوتي واختفاء أفنان تَرى ما الذي حَصَل بِهما ؟! ..
وكانَت فَيروز تُعيد من بعيد ويكأَنّها تَراني وتُخاطبني ..

أَنا عندي حَنين ما بَعرف لمين ..
ليليّة بيخطفني من بين السّهرانين ..

ابتَسَمتُ لِفَيروز وغمزتها ( غمزة سَميرة توفيق المعهودَة ) وقُلت لها :
أَنا عِندي حَنين .. ولكنّ هذه المَرّة أَنا بعرف لَمين .. !!

بِقَلَم :
د.محمد يوسف أَبو عمارة