لو كان "كيسنجر" على قيد الحياة: غزّة للسلطة والضفّة للأردن!




لطالما شعر الساسة العرب بانبهار يصل حدّ الشعور بالدونيّة والانسحاق تجاه وزير الخارجية الأمريكي السابق "هنري كيسنجر" باعتباره داهية سياسة لا يشقّ له غبار.

مع أنّ "كيسنجر" سياسي عادي أو اعتيادي، لكن سرّه الذي يمنحه كلّ هذه الهالة والصيت شأنه شأن أي سياسي أمريكي آخر يشغل نفس المواقع ويلعب نفس الأدوار.. هو امتلاكه لخصلتين أساسيّتين:

الأولى: عدم وجود سقف أو رادع أخلاقي لأي أفكار أو مخطّطات أو تصرّفات أو مناورات أو خدع أو ألاعيب يمكن أن يتفتق عنها ذهنه الإجراميّ في سبيل خدمة الهيمنة الأمريكيّة، وشبكة المصالح والنفوذ التي تقف وراء هذه الهيمنة وتحكم عملية صناعة القرار فيها.

ثانياً: إيمانه المطلق بالقوة وإرادة القوة وسياسة القوة، وأنّك بـ "الصرماية" تستطيع فرض أي أمر واقع جديد تريده على الأرض.. مرّة أخرى دون أدنى رادع أو وازع أخلاقيّ وإنسانيّ.

لو قمنا باستقدام عرّاف أو مشعوذ محنّك، وطلبنا منه أن يضرب لنا بالمندل، أو أن يعقد لنا جلسة تحضير أرواح من أجل استدعاء روح "كيسنجر" من العالم السفليّ.. يا ترى ما هي المقترحات التي سيقترحها علينا الفقيد الغالي بخصوص غزّة والضفة الغربية والقضية الفلسطينيّة والمقاومة وطوفان الأقصى وحرب الإبادة والتهجير؟!

ظنّي لو أنّ "كيسنجر" على قيد الحياة لكان قد اقترح ما يلي:

أولاً: تصدير سلطة "رام الله" و"محمود عبّاس" وأجهزته الأمنية و"قوّات دايتون" إلى غزّة (بدعم وتسهيل عربيّ وأمميّ)..

فمن ناحية هذا سيُعفي الكيان الصهيوني من عبء القضاء على المقاومة في غزّة وتصفية حاضنتها الشعبية، وذلك باعتبار أنّه لا يفلّ الحديد إلّا الحديد، ولا يفلّ الفلسطينيّ إلّا الفلسطينيّ، ولا يفلّ العربيّ إلّا العربيّ، سيما وأنّ الرهان على الانقسامات قد كان دائماً رهاناً فائزاً والورقة الرابحة على طول تاريخ القضيّة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.. وليس فقط السياق الحالي منذ "أوسلو" ولغاية الآن.

ومن ناحية ثانية هذا سيريح الكيان الصهيوني من "معضلة غزّة" حتى إشعار آخر، وذلك لحين الانتهاء من إنضاج المجتمع الغزّاوي والوضع الغزّاوي الداخلي على نار هادئة كما تمّ إنضاج الضفّة من قبل.

ومن ناحية ثالثة هذا سيُسكت الأصوات التي ما تزال تطالب بحلّ الدولتين، وبدولة فلسطينية مستقلّة: حسناً تريدون دولة فلسطينية؟ غزّة هي الدولة الفلسطينيّة، أو الدولة الفلسطينية في غزّة.. مرّة أخرى إلى حين، وذلك إلى أن يتمّ الانتهاء من إنضاج غزّة.

ثانياً: بالنسبة للضفة الغربيّة التي "نضجت" وشبعت نضجاً بفعل "خوازيق" أوسلو التي ظهرت للنور تباعاً، وبفعل الاستيطان، وبفعل "التنسيق الأمني"، وبفعل تغلغل الـ NGOs، وبفعل ارتهان الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الصهيوني بطريقة لا تسمح بأن تكون هناك قاعدة اقتصادية لدولة وطنية "قابلة للعيش" حتى لو أردنا ذلك، وبفعل مأساة المواطن الضفّاوي الذي لا يملك سبيلاً للعيش وتحصيل قوته وقوت عياله سوى العمل لدى أجهزة السلطة والإذعان لسياساتها، أو لدى المنظمات الأجنبية والقبول بأجنداتها، أو لدى الكيان الصهيوني والرضوخ لاحتلاله.. فإنّ الأوان قد آن لكي يقوم العدو بقطف ثمرة الضفّة بكلّ سهولة ويسر!

وبالنسبة للأجزاء المتبقيّة من الضفّة التي لن يضمّها الاحتلال، أو غير ذات الأهميّة، أو المراد الاحتفاظ بها كخزّانات بشريّة للأيدي العاملة الرخيصة.. فسيتم الإلقاء بها على كاهل الأردن بحجّة أنّ فكّ الارتباط بين الأردن والضفّة الغربيّة غير دستوريّ، وأنّ الأراضي التي احتلّها الكيان الصهيوني عندما احتلّها قد كانت أراضٍ أردنيّة، وبالتالي لا صفة قانونيّة أساساً للسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة للمطالبة بهذه الأراضي أو إقامة دولة مستقلّة عليها!

أمّا بالنسبة للأردن، فإنّ "البطولة" ستُفرض عليه فرضاً سواء أراد ذلك أو لم يرد، فمن ناحية هو ملزم بالتحرّك لأنّ ما سيحدث سيضع أمنه القوميّ على المحك، وأيضاً بسبب التزامه القانونيّ والأخلاقيّ والتاريخي تجاه المقدّسات وفي مقدمتها القدس والمسجد الأقصى.

وطبعاً على غرار مسلسل باب الحارة: "إذا ما كبرت ما بتصغر"، وأول على آخر مآل الجميع إلى طاولة المفاوضات، والمفاوضات في عُرف السياسة الدوليّة والقانون الدوليّ لا تعترف إلا بالقوة والأمر الواقع، وبالتالي ما أخذه الكيان فهو للكيان، وما حافظ عليه الأردن فهو للأردن، والذي سيصبح مُلزماً منذ هذه اللحظة بتحمّل عبء الحفاظ على الأمن والتعامل مع أي جيوب متبقيّة تقاوم وتمانع الوضع القائم الجديد.

ثالثاً: بالنسبة لفلسطينيّ الداخل، أو ما يُطلق عليهم عرب الـ 48، فقد آن أوان "الترانسفير": أليست إسرائيل وطناً قوميّاً لليهود فقط؟ ألستم فلسطينيّين؟ ألم يصبح لكم دولتكم الفلسطينية (ولو إلى حين) في غزّة؟ حسناً فلترحلوا إلى تلك الدولة!

رابعاً: لا يوجد هناك رابعاً، فبالرجماتيّة النفعيّة المادية اللا-أخلاقية للسياسة الأمريكية لا تركّز إلا على ما يمكن إنجازه وتحقيقه الآن وهذه اللحظة، وهي لا تُلزم نفسها بحلول وصيغ محسومة ومغلقة على المدى البعيد.. فالمسائل الكبرى والنهائيّة تترك دائماً لمفاوضات "الوضع النهائيّ"، والتي هي أشبه بالخرافة أو الشبح أو السراب الذي يغذّ الجميع الخطى نحوه لكنّهم لا يصلون إليه أبداً!

كما قلنا، هذا ما قاله "كيسنجر"، أو ما قالته روحه الشيطانيّة بعد أن تم استحضارها من العالم السفلي!

أمّا نحن فنقول: الكلّ يريد.. و"كيسنجر" يريد.. ولدى المقاومة مزيد.. والله فعّال لما يريد!