الشهيد هزاع المجالي في ذكراه الرابعة والستين
1
على أثر الانقلاب الذي أطاح بالعائلة الهاشمية في 14 تموز عام 1958، وتوتر العلاقات بين الأردن والجمهورية العربية المتحدة في عهد حكومة هزاع المجالي الثانية، سعت أمانة الجامعة العربية إلى عقد مؤتمر لوزراء الخارجية العرب في بلدة شتورة اللبنانية خلال الفترة من 22 - 28 آب 1960، وكان الوفد الأردني للمؤتمر يتألف من موسى ناصر وزير الخارجية، ووصفي التل رئيس التوجيه الوطني، وعبد الحميد سراج سفير الأردن في لبنان.
توقفت الإذاعة الأردنية عن تعليقاتها منذ صباح يوم 23 آب 1960، ومهاجمة الجمهورية العربية المتحدة، لرغبة الملك حسين، واستجابة إلى طلب وزير خارجية لبنان للتوقف عن الحملات العربية المتادلة، تيسيرا لمهمة المؤتمر وعدم عرقلة أعماله.
دار في المؤتمر جدل طويل حول قضية فلسطين، وفي الجلسة الختامية أصدر المؤتمر قراراته بالإجماع. وكان نص المادة المتعلقة بفلسطين، كما يلي:" إن الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في فلسطين، وله أن يعمل لاسترداد وطنه بمؤازرة ومشاركة الدول والشعوب العربية ... إن على الدول العربية أن تحافظ على الشخصية الفلسطينية وتجانب كل ما يؤدي إلى إذابة هذه الشخصية، حتى إذا ما استرد الشعب الفلسطيني وطنه وحقوقه أمكنه أن يمارس هذه الحقوق ممارسة صحيحة كاملة".
ونظراً لان الرغبة العامة التي اتفقت عليها معظم الوفود المشاركة هي الوصول إلى حلول وسط في القضايا المطروحة، فقد نتج عن المؤتمر فيما يتعلق بالعلاقات العربية ما يلي:
1- وجوب مضاعفة الجهد لاستمرار قيام جو من الود والتفاهم التامين، وضرورة تجنّب الاتهامات، وكل عمل أو قول من شأنه الإساءة الى العلاقات بين البلدان العربية، وخاصة ما ينشر في الصحف والإذاعة.
2- تأكيد التزام قواعد القانون والعرف الدوليين في شأن اللجوء السياسي، وما يستتبعه من وجوب امتناع اللاجئ عن القيام بأي نشاط يعكر علاقات البلدان الشقيقة بعضها مع بعض. اختتم مؤتمر شتورة أعماله ظهر يوم الأحد 28 آب، وصدرت الصحف الأردنية صباح يوم الاثنين 29 آب 1960 وهي تحمل نبأ الاتفاق بحروف كبيرة.
وعندما اتخذ مجلس الوزراء الأردني قراره بالموافقة على قرارات مجلس وزراء الخارجية العرب، كان هناك شعور عميق بالارتياح، وداعب النفوس أمل بان زوال أسباب الخلاف بين الأردن والجمهورية العربية المتحدة سيؤدي إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات، والمضي على طريق إنشاء الكيان الفلسطيني.
2
في ذات اليوم كان الستار قد ارتفع في عمان عن المشهد الأخير من مشاهد الجريمة الدامية؛ ففي الساعة الثامنة والنصف وصل هزاع المجالي إلى دار الرئاسة، ولم يكن معه أي حرس، إذ كان قد الغى مرافقة الحرس له منذ عدة أشهر، على الرغم من نصائح المسؤولين عن الأمن. وكان قد خصص يوم الاثنين من كل أسبوع لمقابلة أصحاب الحاجات والمظالم.
وفي الساعة الحادية عشرة والنصف من قبل ظهر يوم الاثنين 29 آب 1960 دوّى انفجار آخر في الطابق الثاني من دار الرئاسة، فدمّر مكتب رئيس الوزراء، وبعد حوالي عشرين دقيقة على الانفجار، وبينما الناس في اضطراب وذهول، وبينما كان الذين نجوا يحاولون البحث بين الركام عن زملائهم، دوّى انفجار آخر في الطابق الأرضي من البناية. وقد نتج عن الانفجارين استشهاد هزاع المجالي وأحد عشر معه، وإصابة واحد وأربعين بجراح.
ارتقى هزاع المجالي مضرجاً بدمه وهو على رأس عمله في مقر رئاسة الوزراء، كما يسقط الفارس عن ظهر جواده في ساحة القتال. كان ذلك أول حادث من نوعه في الأردن، وكان لنبأ الإنفجار تأثير عميق في النفوس، وسخط الناس على الجريمة النكراء التي لم تستهدف زعزعة نظام الحكم فحسب، بل استهدف مدبروها قتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص العاديين، لأن الذين خططوا لها أرادوا أن تقع في يوم يأتي فيه المراجعون من المواطنين إلى دار الرئاسة.
اتجهت أصابع الاتهام في حادثة اغتيال المجالي إلى الجمهورية العربية المتحدة، وتحديداً الى جهاز المخابرات السوري برئاسة عبد الحميد السراج، في حين وجهت الجمهورية العربية المتحدة أصابع الاتهام الى الدول الاستعمارية خاصة بريطانيا وإسرائيل، للقضاء على بوادر التحسن في العلاقات بين الأردن والجمهورية العربية المتحدة.
أعلن الملك حسين بنفسه استشهاد رئيس وزرائه، ووصفه بأنه :' أخ وصديق مخلص حميم ... قضى في سبيل الأردن والعالم العربي.. واستشهد أثناء قيامه بالواجب المقدس'.
وفي اليوم نفسه عهد الملك حسين إلى رئيس ديوانه بهجت التلهوني بتأليف وزارة جديدة تضم جميع أعضاء الوزارة السابقة. كما تم تشكيل لجنة تحقيق عسكرية برئاسة اللواء محمد السعدي مدير الاستخبارات العسكرية.
3
دلت التحقيقات أن المخابرات السورية تمكنت من تجنيد مراسلين كانا يعملان في دائرة المطبوعات التي تقع في نفس مبنى الرئاسة وهما: كمال شموط، وشاكر الدباس. وقد أدخلت المتفجرات من سوريا في سيارات عبر الصحراء.
استغل كمال وشاكر وظيفتيهما وتمكنا من ادخال المتفجرات داخل مبنى الرئاسة في كيس فارغ من أكياس البريد الدبلوماسي. وكان مبنى الرئاسة يقع في مكان بناية البنك المركزي الحالية في شارع السلط. وكان شاكر الدباس قد حصل على موافقة للمبيت في غرفة المستودع، ومن هنا كان حرس الرئاسة يعرفونه ويسمحون له بالدخول والخروج من المبنى في أي ساعة من ساعات الليل.
تمكن شاكر وكمال من دخول الرئاسة، وأخرجا المتفجرات من غرفة المستودع، ثم صعدا إلى غرفة الرئيس، وقاما بتركيب اللغم في خزانة طاولة الرئيس، وأدارا جهاز التفجير بحيث يقع الانفجار بعد 12 ساعة، ثم عادا إلى الطابق السفلي وثبتا اللغم الثاني في غرفة جهاز التدفئة، وهكذا كان، ثم غادر الإثنان إلى سوريا.
في 29 كانون الأول 1960 أصدرت محكمة أمن الدولة الخاصة حكماً بإعدام عدد من الذين ثبت تورطهم في الجريمة، وهم: صلاح الصفدي،محمد يوسف الهنداوي، هشام الدباس، وكريم شقرة. كما أصدرت حكما غيابياً بإعدام زين عبيد، وشاكر الدباس، وكمال شموط، وزكريا الطاهر، وسعيد البرغوثي، وبرهان الأدهم، وبهجت مسوتي. وفي الصباح الباكر من آخر يوم من أيام سنة 1960، نفذ حكم الإعدام شنقاً بالأشخاص الأربعة الأوائل في ساحة المسجد الحسيني في عمان.
4
وفي الفترة من 30 كانون الثاني الى 4 شباط 1961، عقد في بغداد مؤتمر وزراء الخارجية العرب، ونتج عنه تحسن العلاقات بين الأردن والجمهورية العربية المتحدة، وتوقف الحملات الإعلامية بين الطرفين، وبدأ الملك حسين يميل إلى الاعتقاد بأن عبد الناصر لم يكن شخصياً طرفاً في قضية اغتيال هزاع المجالي.
وفي عام 1964 ذهب الملك حسين على رأس وفد كبير لزيارة الرئيس جمال عبد الناصر، ولقي الوفد ترحيباً من عبد الناصر الذي صرّح للملك ومن معه أنه لم يكن يعلم بتدبير حادث التفجير في الرئاسة، قبل وقوعه.
أصبح هزاع رئيسا للوزراء بعد سجل طويل في العمل العام، حيث عمل في الديوان الملكي، كما رأس بلدية عمان، ثم انتخب نائباً عن الكرك، واختير وزيراً مرات عديدة.
كان الشهيد نموذجاً فذاً ونمطاً جديداً في السياسة الأردنية. وكان يتمتع بشباب الروح والارادة والعقل، منفتح الذهن على العمل السياسي الديمقراطي والحزبي، سبق وكان عضواً مؤسساً في الحزب الوطني الاشتراكي ( 1954- 1957)، المصنف آنذاك على يسار الوسط.
كان متسلحاً بالعقل متحرراً من غلواء العاطفة، لا تبهره الشعارات المتداولة، ولم يحجم عن نقد المواقف التي تستهدف استثارة مشاعر الناس دون احترام عقولهم، لأنه يعتقد أن في ذلك مكمن البلاء الذي حل بالأمة.
وكان من السياسيين القلائل – إن لم يكن الوحيد من بينهم- الذي كتب مذكراته ونشرها وهو في أوج عطائه، أثناء تقلده منصب رئاسة الوزراء، عام 1960.
وفي مذكراته التي تعتبر مصدراً مهماً من مصادر تاريخ الأردن والمنطقة العربية، كتب بحس ثقافي وشجاعة ذاتية دون شعور بالحرج تجاه هذا وذاك من السياسيين المعاصرين الذين تعرض لذكرهم وحلل مواقفهم .
تميزت مذكراته بالصراحة؛ إذ تحدث عن حياة الضياع التي عاشها فترة من الزمن، وعن طرد الملك عبد الله له من مجلسه ذات يوم، منتقدا رجال السياسة والحياة السياسية في الأردن. كما تضمنت المذكرا ت الكثير من الشواهد على رؤيته السياسية والإدارية.
5
كان من المؤمنين بالعمل الديمقراطي البرلماني، ولا ينال من إيمانه ما كان يبديه من تحفظات على أداء المجالس النيابية ومراقبته وتقييمه لها. وكان لا يتردد في الزهد بموقعه الوزاري أو النيابي ويستقيل إذا ما شعر أن وجوده في هذا الموقع أو ذاك لا يمكنه من ترجمة أفكاره، ففي 7 حزيران 1956 استقال من البرلمان، وقد جاء على لسانه بيان أسباب استقالته قائلاً : "على أن ركنا هاما آخر في كيان الدولة، ظلت أوضاعه تستأثر باهتمام الناس، وتثير فيهم روح الاشمئزاز، وتنحو بهم منحى التعليقات الساخرة المريرة، ذلك الركن الهام هو البرلمان، وكيف بالله تستقيم للديمقراطية مفاهيمها البرلمانية، حيث يضم المجلس انماطاً من النواب لو استفتي الشعب بأمرهم لما تبقى منهم في مقاعد النيابة عن الشعب إلا القليل الأقل".
كان سياسياً يتحسس هموم المواطنين وشكواهم من قصور الأداء الحكومي، وقد شخّص عيوب الجهاز الإداري، وكشف جوانب الخطأ في ممارسات العاملين فيه، وبسبب ذلك كان يحرص على استقبال المواطنين، وخصص يوماً في الأسبوع لسماع شكواهم وحاجاتهم. وكان يؤمن بالإيجابية، وبالالتقاء مع الناس في منتصف الطريق، ولم يكن يحمل أية مشاعر بيروقراطية، بل كان ابن الشعب بكل ما في الكلمة من معنى..
أعطى هزاع مفهوما جديداً للمعارضة بمفهومها النسبي والمتحرك، وكان أحد فرسان الحياة النيابية والحزبية في الخمسينيات، ومن طليعة من شكّلوا المعارضة الاردنية، التي كانت معارضة من أجل الوطن، لا معارضة للوطن. وكان على الدوام صافي الحب والولاء لمليكه، وعميق الانتماء لوطنه، تميزه صراحة لا تعرف المداهنة أو التردد.
وإننا إذ نقف اليوم مستذكرين أحد رجالات الأردن الكبار، فإننا نحيي مبادئ مدرسة سياسية متكاملة، أحوج ما نكون إليها، علّها تكون منارة يسترشد بها شباب الوطن وقياداته السياسية في هذه المرحلة المفصلية، مؤكدين على ضرورة أن تستلهم الأحزاب والقيادات السياسية، المرتكزات الأساسية للعمل الوطني الحقيقي، وأن تثقف كوادرها بسير هزاع ووصفي، ورموز الوطن الكبار، نظرا للضعف الواضح في الذاكرة والثقافة الوطنيتين التي نلمسها عند طلبة المدارس والجامعات، وأن يكون لهذه الشخصيات ذكر في كتب التاريخ والتربية الوطنية، مترحمين على شهداء الأردن والأمة الذين ضحوا في سبيل وطنهم ومبادئهم في أحلك الظروف.